تراسل الفنون في رواية "فرانكشتاين في بغداد": صورة الغلاف الفوتوغرافيّة أنموذجا

 

أ.د. نهاد المعلاوي

كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، تونس

البريد الإلكتروني: nihedmouhaj@gmail.com

معرف (أوركيد): 0000-0002-4730-1818

بحث أصيل

الاستلام: 1-3-2022

القبول: 25-4-2022

النشر: 30-4-2022

 

الملخص:

يهدف هذا البحث إلى اختبار نجاعة شعريّة تراسل العلامات (intersemioticité) المنطوقة (le dit) والمرئيّة (le vu) الّتي أصبحت تسم الرّواية ما بعد الحداثيّة، في شحن الفعل التّأويليّ لدى المتلقّي وتوسيع أفق التّعبير الرّوائيّ وإثرائه بطاقات مغايرة كان الانفتاح على عوالمها مستحيلا فيما مضى، وسنخصّصُهُ للاشتغال على تتبّعُ ما سيدخله التّراسل بين الصّورة الفوتوغرافيّة الّتي تتصدّر غلاف الرّواية ما بعد الحداثيّة ومتنها على الممارسة الكتابيّة الرّوائيّة من إضافات معنويّة وطاقات تخييليّة تؤكّدُ تجاوز الصّورة الفوتوغرافيّة الرّابضة على أغلفة الرّواية لغايات النّاشر التّجاريّة الضيّقة، ولوظيفتها التّسجيليّة الآنيّة، وتحوّلها إلى علامة مرئيّة تتفاعل مع علامات المتن المنطوقة من أجل الرّفع من قدرة الرّوائيّ التّشفيريّة، وقدرة المتلقّي على فكّ الشّفرات.

الكلمات المفتاحية:

علامة منطوقة، علامة مرئيّة، تراسل العلامات، صورة فوتوغرافيّة، تشفير.

 


للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation المعلاوي، نهاد. (2022). تراسل الفنون في رواية "فرانكشتاين في بغداد": صورة الغلاف الفوتوغرافيّة أنموذجا. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج3، ع5، 10- 54 https://www.daadjournal.com/ /

 

 

Intersemioticity in the Novel “Frankestein in Baghdad”: Photograph as a Model

 

Prof. Dr. Maalaoui Nihed

Faculty of Humanities and Social Sciences,Tunis

E-mail: nihedmouhaj@gmail.com

Orcid ID: 0000-0002-4730-1818

 

Published: 30.04.2022

Accepted: 25.04.2022

Received: 01.03.2022

Research Article

                                                                                          

 

Abstract:

This research aims to test the intersemioticity poetics, spoken, and visual, which has become characterizing the postmodern novel, in charging the interpretative act of the recipient, expanding the horizon of narrative expression, and enriching it with different energies that openness to it was impossible in the past. And we will dedicate it to working on tracing what the correspondence will bring between the photographic image that tops the cover of the novel and its text on the novel written practice of moral additions and imaginative energies that confirm the transcendence of the photographic image on the cover of novel for the publisher’s narrow commercial purposes and its immediate recording function, and transforming it into a visible sign that interacts the spoken text marks in order to increasing the narrator’s coding ability and the recipient’s ability to decode ciphers. 

Keywords:

Spoken Sign, Visual Sign, Intersemioticity, Photograph, Encryption

 

 

“Frankenstein Bağdatta” Kitabındaki Sanatların İletişimi: Kapak Fotoğrafı Örneği

 

Prof. Dr. Nihed MAALAOUI

 

Beşerî ve Sosyal Bilimler Fakültesi, Tunus

E-posta: nihedmouhaj@gmail.com

Orcid ID: 0000-0002-4730-1818

 

yayın : 30.04.2022

Kabul: 25.04.2022

Geliş: 01.03.2022

Araştırma Makalesi

 

Özet:

Bu araştırma, işaretlerin iletişiminin - (intersemioticité ) okunuşu (le dit) ve görünüşü (le vu)- şiirsel etkisini test etmeyi amaçlamaktadır. Bu işaretler,  postmodern romanı karakterize etmektedir. Bu şekilde, bir zamanlar imkânsız olan, okuyucunun işaretleri yorumlamada aktif olmasını, romansal anlatımla ufkunun genişlemesini, farklı enerjilerle zenginleşmesini ve başka dünyalara açılmasını sağlamaktadır. Aynı zamanda bu çalışmada postmodern romanın kapağında bulunan fotoğrafların aralarındaki iletişimi de belirleyeceğiz.  Kapaklardaki mânevi ekler ve yaratıcı enerjilere dayanan roman yazma pratiğinden oluşan metinler ve romanın kapaklarına çömelmiş fotoğrafik görüntüler anında kayıt işlevi gibi yayıncının dar ticari amaçlarını aşmaktadır ve anlatıcının kodlama yeteneğini ve alıcının kodları deşifre etme yeteneğini yükseltmek için sözlü metin işaretleriyle etkileşime giren görsel bir işarete dönüşmektedir.

Anahtar Kelimeler:

Sözlü işaretler, Görsel işaretler, İşaretlerin iletişimi, Fotoğrafik görsel, Şifreleme.

 

تقديم:

جعل التّلازم بين الحياة والرّواية هذه الثانيةَ كالماء يجري، فلا نقف لها على مستقرّ، وقد أجمع الباحثون على زئبقيّتها ولايقينيّتها الّتي أثبتها باختين بإقراره أنّ الرّواية" هي النّوع الأدبيّ الوحيد الّذي لا يزال في طور التّكوين، والنّوع الوحيد الّذي لم يكتمل بعد"([1])، فهي، بما أنّها "تعبير عن مجتمع يتغيّر، ولا تلبث أن تصبح تعبيرا عن مجتمع يعي أنّه يتغيّر"([2])، تسعى إلى تجديد نفسها دون انقطاع، وتشقّ غمار التّجريب بعد أن انحرفت به عن أصوله العلميّة التّجريبيّة، واعتبرته "قرين الإبداع، لأنّه يتمثّل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة، في أنماط التّعبير الفنّيّ المختلفة، فهو جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل، ممّا يتطلّب الشّجاعة والمغامرة واستهداف المجهول"([3])، وهكذا أضحت الرّواية تجاوزا دائمًا للأشكال كما يصفها ميلان كونديرا، وباتت انفتاحا على حقل الممكنات، وثورة على الوسط المضبوط والمعقول، وانقلابا على الحساسيّة القديمة الّتي "تعتمد قواعد مجرّبة وموصوفة وسائدة في الإحالة على الواقع بشقّيه الذّاتيّ والاجتماعيّ"([4]).

ومن أشكال انقلاب الرّواية على الحساسيّة القديمة، ودخولها في عوالم اللّعب الحرّ والتّمرّد، رفضُها الحواجزَ المتصنّعة المفتعلة الّتي كانت تفصل بين الأجناس الأدبيّة وأنواعها، فقد وجدت الرّواية في "لحم إخوانها" من الأجناس والأنواع ما به يشتدّ عودها، وما به تخيّب أفق انتظار المتنبّئين بموتها، ففتحت فضاءها المضياف أمام أبناء عمومتها من الأجناس والأنواع القوليّة، واستعارت أدواتها، واسترفدت تجاربها، هازئة بأسطورة "نقاء الجنس"، ونظريّة "هويّة النّوع"، وبهذا المزج بين الفنون القوليّة، وامتصاص الرّواية لكلّ الأجناس والأنواع الأدبيّة الأخرى، وبتمرّدها على القيم الجماليّة الكلاسيكيّة، وثورتها على التّقنيات والطّرق السّرديّة التّقليديّة، أصبحت الرّواية، الّتي كانت تبدو في القرن 19 أقلّ أهمّية من الشّعر والمسرح، تجلس الآن في الصّفّ الأماميّ، كما يذهب إلى ذلك جون ايف تادييه (Jean-Yves Tadié)([5])، وكذا أصبحت الهجنة سمة من السّمات الذّاتيّة لها من حيث هي جنس أدبيّ.

 ولأنّ التّجريب كما تعرّفه ناتالي ساروت (Nathalie Sarraute) هو "المجهود والمجازفة والمغامرة، ولأنّ الاكتمال كما يقول براويننغ (Browning) يكمن أساسا في البحث المتواصل"([6])، لم تكتف الرّواية الجديدة بمزج الفنون القوليّة، وإذابة الحدود بينها، ولم يعد انفتاحها على الممكنات كفيلا بإنتاج شعريّتها، فما كان منها إلّا الانفتاح على قارّات فنّيّة جديدة، لاقوليّة، كان الانفتاح عليها في الحساسيّة القديمة من قبيل المستحيلات، فقد وجدت الرّواية الجديدة نفسها في فضاء شهد تطوّرا متسارعًا في عالم الاتّصال وتكنولوجيا المعلومات، وأصبح إنسانه يعيش في عالم تغزوه الصّور، وتقنياتها، وآلاتها، وتنهال عليه من كلّ صوب وحدب، وبشكل سريع ومهيمن، حتّى أصبح يعرف بـ "إنسان الآلة"(l’homme appareillé) كما ذهبت إلى ذلك ماري باسكال إيغلو (Marie Pscale Huglo) تأكيدا لما أقرّه الفيلسوف جون لويس ديوت (Jean-Luis Deotte)، فهي تعتبر، نقلا عنه، أنّ "رؤانا للعالم الأكثر عفويّة تقوم على زاد موسوعيّ يوجّه إدراكنا للعالم ويؤثّر فيه، وضمن هذا الزّاد اللّامتجانس نجد الخرافات والأفلام واللّوحات الفنيّة، ونجد أيضا ما يسمّيه جون لويس ديوت: الآلات (les appareils)، فالآلات أجهزة تقنيّة تكوّن حساسيّتنا، وتغيّرها؛ لقد استحدثت الآلة فضاءات-أزمنة
(des espaces-temps) مخصوصة، وسمحت بتبادل الحساسيّة المكوّنة لمخيالاتنا الجمعيّة"([7]).

وبمشاركة الآلة في تمثيلنا للعالم، وفي تمثّله، لم تعد الكلمة المنطوقة الوسيط الوحيد بين الإنسان والعالم، وتقاسمت اللّغة عمليّة إنتاج المعنى مع أنظمة علاميّة أخرى، "وأصبح المجتمع الإنسانيّ مجتمعًا تقوم الصّور بالوساطة، خلاله، في جميع الأنشطة الإنسانيّة"([8])، بل أصبح مجتمعا ينافس فيه المرئيّ (le vu) المنطوق (le dit)، فقد أثبتت الدّراسات الحديثة أنّ 90 بالمائة من مدخلاتنا الحسّيّة هي مدخلات بصريّة، وذهب جيروم برونر (Jerome Bruner)، المعروف بدراساته عن التّفكير والتّربية، إلى أنّ النّاس يتذكّرون 80 بالمائة ممّا يرونه، بينما لا تتعدّى نسبة تذكّرهم لما يقرؤونه 30 بالمائة وما يسمعونه 10 بالمائة؛ وهو ما يجعل تلقّي الصّور البصريّة "أكثر تأثيرا في الوعي أو الإدراك، وأكثر رسوخا في اللّاوعي من تلقّي النّصّ المقروء أو المسموع"([9])، هذا بالإضافة إلى أنّ الصّورة عزّزت رصيدها من الامتيازات بقدرتها، لأنّها لا تحتاج إلى الكلمات والجمل، على الوصول إلى أكبر قدر من المتلقّين من غير أن يحول دونهم ودونها عائق الاختلاف بين اللّغات، ولا شرط إتقان المتكلّم للغة مرسلها، فهي من هذا الباب 'لغة عالميّة'، لأنّها "من المفروض أن تفهم بسرعة، أن يفهمها أكبر قدر من المتلقّين، فهي وسيلة مساعدة على الفهم لأنّها تتميّز بنسق أيقونيّ خاصّ قد يجعلها تصل إلى المعنى من أقرب مرمى (...) وتخاطبه بطريقة مختلفة عمّا تخاطبه به اللّغة"([10]).

ولم تتحرّر الصّورة من اللّغة فقط، بل تحرّرت أيضا من خصائصها؛ فإذا كانت الدّوال في الرّسالة اللّغويّة خطّيّة (lineaire)، فلا تدرك إلّا حسب نظام تحدّده بنية الجملة، فإنّ دوالّ الرّسالة البصريّة تنتشر في فضاء الصّورة، فلا يكون من الضّروريّ مراعاة التّرتيب الخطّيّ في إدراك دوالّها، وإنّما يترك الأمر لاختيار المتلقّي؛ وعلى خلاف الرّسالة اللّغويّة الّتي تقبل التقطيع إلى وحدات صغرى مستقلّة، لا يحصل المعنى إلّا بإعادة تركيبها، تتقدّم الصّورة، وتمنح نفسها للعين باعتبارها كتلة حاملة لدلالات لا تقبل التّجزئة؛ وقد استطاعت الصّورة بهذه الامتيازات أن تتحوّل إلى طاقة إبلاغ، ووسيلة تواصل، لا تضاهى، ولاسيّما أنّها لا تقوم على الاعتباط والمواضعة مثل الرّسالة اللّغويّة، وإنّما تقوم على التّعليل والمشابهة، وهو ما جعلها تنقل الواقع بطريقة طبيعيّة أوهمت الكثير بأنّها "رسالة دون شفرة"([11])، فهي تقدّم للمرسل إليه واقعًا كاملا ومتقنا (perfected)، وتقدّمه بطريقة موضوعيّة ومحايدة، فلا تعتمد في ذلك على رموز وشفرات تحتاج إلى فكّها، إنّها تقدّم له "واقعا فائقا" حسب مصطلح بودريار (Jean Baudrillard).

وقوع الأدب في حبائل إغراء الصّورة:

ولأنّ الأدب لا يعمل في فراغ، فإنّه لم يستطع أن يفلت من قبضة إغراءات الصّورة، وتأثير أجهزة التّصوير، وآلاته، وتقنياته الّتي أصبحنا نبني وجودنا في العالم من خلالها، ولم يعد بإمكانه المطالبة بأيّ ضرب من ضروب الصّفاء أو الاستقلاليّة لتقنياته وآليّاته الّتي ارتبطت، أكثر من أيّ وقت مضى، بالثّقافة الإنسانيّة التّقليديّة، ووجدت نفسها عالقة في واقع متعدّد الثّقافات والفنون، يجمع بين الثّقافة الشّعبيّة والفنون الأيقونيّة؛ ولم تستطع النّصوص المعاصرة تجاهل الـتّقنيات السّرديّة الجديدة الّتي أدخلتها السّينما، والتّصوير الفوتوغرافيّ، والفنّ التّشكيليّ، فتماثلت مع الآلة، وأصبحت النّصوص أعمالا فنّيّة تشبه الآلات على حدّ قول شكلوفسكي
(Viktor Borisovitch shklovski) الّذي أردف موضّحا أنّ هذه الأعمال الفنّيّة "نتاج لنشاط إنسانيّ مقصود، وهكذا سواء كان العمل فنّيّا يعكس روح العصر، أو يعكس نفسيّة صاحبه، فإنّه لا أهمية لذلك، المهمّ هو ملاءمته لوظيفة قدّر له أن يؤدّيها"([12]).

وهكذا، فبعد القرن التاسع عشر الّذي شهد أعمالا مكتوبة تتميّز بحضور
 لافت لتقنيات الآلات البصريّة الجديدة([13])، استمرّ أدب القرن العشرين في تكثيف
 هذا الاستيلاء على ما هو ليس منه
، وهو ما تؤكّده ماري كول غروبار
(
MARIE CALL-GRUBER) مشدّدة على سمة اللّاصفاء التّكوينيّ الّتي أصبحت تسم النّصوص المعاصرة، ذلك أنّ "الحركة المعمّمة لاستيراد وتصدير التّقنيات الّتي تلت عمليّة تهجين الأشكال، أضحت تقنّن آليّات الإبداع الأدبيّ في القرن العشرين، وتكوّن شعريّة المزج بين الفنون؛ ولا يجب أن نفهم من مصطلح التّقنيات (les techniques) هجرة تقنيات الشّعر نحو الرّواية وبالنتيجة توظيف الرّوائيّين لحقل الشّعر، فقط، وإنّما نريد به أيضا تقنيات الفنون التّشكيليّة، وتقنيات التّصوير الفوتوغرافيّ والسّينمائيّ،
وذلك من أجل أن تصبح الرّواية عملا فنّيّا، أي شكلا جديدا من القصيدة اللّوحة
(
ut pictura poesis) (la poésie ressemble à la peinture) يسعى إلى وضع شعريّة النّص الّذي تشبه كتابته الرّسم، والتّصوير الفوتوغرافيّ، والتّصوير السّينمائيّ
(
un écrire comme peindre-photographier-filmer).([14])

ملامح الكتابة الأدبيّة الجديدة:

 استطاع جون برنار فراي (Jean Bernard Vray) أن يرسم ملامح هذه الكتابة الأدبيّة الجديدة، الفضوليّة بلا هوادة، من خلال تقديمها على أنّها كتابة أدبيّة "مضياف، متعدّدة الأصوات، لاحمة، تتغذّى على السّينما، والأغاني، والتّصوير الفوتوغرافيّ، وتسخر من الحواجز بين الأجناس والأنواع (رواية/رواية بوليسيّة، أدب/شبه أدب paralitterature)، وتؤمن أنّها بكسرها لهذه الحواجز تجدّد نفسها"([15]).

ويذهب برينو بلاكمان (Bruno Blackeman) إلى أنّ ما تتميّز به الكتابة الأدبيّة الحديثة من تنوّع وحيويّة، يأتيها أساسا من قدرتها على تجديد مصادرها، وعلى التّغذّي ممّا ليس من ماهيتها، فهي "مبدعة ومزامنة بشكل عشوائيّ، لا من أجل الشّكليّات المزعومة، ولا من أجل البراعة التّوضيحيّة، وإنّما لأنّها تمتلك اليوم وعيا واضحا بضرورة التّأليف مع التّقاليد الفنّيّة والثّقافيّة الأخرى، سواء كان هذا التّفاعل سنكرونيّا (المشاركة في مجال تعبير متنوّع ومتعدّد الأشكال) أو دياكرونيّا (ترى نفسها مسبوقة بذاكرات إبداعيّة متنوّعة)"([16])؛ لقد فهم الأديب المعاصر أنّه يشتغل على عالم يتميّز بتعدّد العلامات والوسائط، وأنّه، لكي يقول هذا العالم، مضطرّ إلى فتح نصّه على التّعدّد العلاميّ.

وإذا كان انفتاح الرّواية الجديدة على الفنون اللّاقوليّة من سمعيّة وبصريّة، في البدء، مجرّد طريقة لإنعاش هذا الجنس الّذي تعالت نبوءات نهايته الوشيكة، رغم حداثة سنّه، فقد جاءت الأبحاث الحديثة في علم الإدراك وفي علم الأعصاب المكرّس للحالة الحركيّة، فيما بعد، لتثبت، أنّه على عكس ما كنّا نتوقّع، فإنّ مناطق الدّماغ الّتي تشغّل الوصلات المشبكيّة للاستقبال الحسّيّ ليست معزولة بحواجز، كما يعتقد المرء، وأنّ الإدراكات الحسّيّة لا يتمّ تحفيزها بطريقة منفصلة، وعندئذ تصبح الأعمال الّتي تتراسل فيها الفنون القوليّة واللّاقوليّة البصريّة والسّمعيّة أعمالا تعكس الطّريقة ذاتها الّتي يعمل بها الدّماغ البشريّ؛ إنّها تستعيد الوحدة الأولى للحواسّ الإنسانيّة.

 

من شعريّة التّناصّ (intertextualité) إلى شعريّة تراسل الفنون المنطوقة والبصريّة (intersemioticité):

وهكذا، وجد القارئ نفسه أمام نصوص إبداعيّة، لا يقف التّفاعل فيها بين النّصّ وما سبقه، أو ما سيأتي بعده من نصوص، وإنّما تعدّاه إلى التّفاعل بين النّصّ وأشياء أخرى كثيرة غير نصّيّة، تأتيه من عوالم سيميائيّة أخرى غير عالم اللّغة، وبعد أن كان النّصّ يرسل القارئ إلى النّصّ، فتتمّ جميع عمليّات التّحويل، والانتقال، والامتصاص بحضور مادّة واحدة وموحّدة هي اللّغة، وفي إطار استمراريّة وتجانس سيميائيّين، وجد القارئ نفسه أمام تراسل لانهائيّ بين علامات تنتمي إلى عوالم سيميائيّة مختلفة، فلم يعد يمكن لشعريّة التّناصّ (intertextualité) وحدها، رغم ما أظهرته من نجاعة وثراء نظريّين، أن تكون قادرة، بمفردها، على النّفاذ إلى المتن الرّوائيّ، ولم تعد القراءة السّيميائيّة الّتي تقوم على فكّ شفرات العلامات اللّغويّة كافية لفكّ شفرات هذه الرّواية الجديدة الّتي رفعت شعار التّحدّي، ومدّت الجسور بينها وبين بقيّة الفنون الأخرى، هذه الرّواية الّتي يقول عنها جان إيف تادييه أنّها "تفكّر وتقدّم جماليّتها الخاصّة"([17]).

ولأنّ التّراسل بين الفنون لم يغيّر من بنية الرّواية الحديثة ونظامها العلاميّ فحسب، بل طال أيضا طرائق تقبّلها، فقد كان من الحتميّ على النّقّاد أن يقطعوا مع الأعراف القرائيّة القديمة الّتي كرّستها الأبحاث والدّراسات البنيويّة واللّسانيّة؛ إذ لطالما أكّدت سنوات من البحث البنيويّ واللّسانيّ أنّ الأنظمة السّيميائيّة المختلفة، محدّدة، ومستقلّة، ولكلّ نظام منها خصائصه المميّزة؛ فتعالت الأصوات لاهجة باستحالة التّداخل بين الأنظمة، أو محذّرة من المبالغة والإغراق في المقارنات بين الفنون، وتذويب الحدود بينها([18])، وعليه فإنّ علاقة التّكافؤ بين نظام سيميائيّ وآخر هي من باب المستحيل، ولا يمكن للنّصّ أن يظهر مثل اللّوحة التّشكيليّة، أو الصّورة الفوتوغرافيّة، أو اللّقطة السينمائيّة، أو القطعة الموسيقيّة.

هذا الحكم الحاسم باستحالة تداخل الأنظمة العلاميّة، واسترسالها، ومزجها، انهالت عليه معاول النّقّاد الجدد، ولاسيّما أولئك المشتغلين في حقل تداخل الاختصاصات، الّذين شدّدوا على أنّ الحواجز بين الفنون والأنظمة السّيميائيّة هي حواجز مفتعلة، ووهميّة، وعلى أنّ التّقاطع بين الفنون يتنزّل في إطار تقليد قديم، وبيّنوا أنّ العقل البشريّ لا يستطيع البتّة أن يتصالح مع الفئات الفنّيّة والإدراكيّة الّتي تعمل بطرق مستقلّة، فالتّداخل بين المنطوق والمرئيّ، يؤكّده أصل الكتابة الّتي ظهرت بين أحضان الصّورة منذ الحروف الألفبائيّة الأولى، والحروف الهيروغليفيّة الّتي كانت شاهدة على علاقات التّداخل والتّجاور بين المنطوق والمرئي، فالإنسان، كما يذهب إلى القول ريجيس دوبري (Régis Debray) "سليل العلامة، بيد أنّ العلامة تنحدر من الرّسم والتّخطيطات، مرورا بالبيكتوغرام (الكتابة المرسومة) والكتابة الهيروغليفيّة؛ ليس ثمّة من قطيعة، بل ثمّة استمرار تطوّريّ بين محور الصّورة المتعدّد الأبعاد ومحور الخطّيّة ... لقد كانت الصّورة وسيلتنا الأولى في إرسال المعلومات، والعقل الكتابيّ، بوصفه أمّ العلوم والقوانين، قد انحدر تدريجيّا من العقل الأيقونيّ، وبما أنّ الخرافات قد سبقت العلم، وسبقت الملاحم المعادلات الرّياضيّة، فإنّ الفعل التّصويريّ أقدم من الحرف المخطوط بعشرات السّنين"([19]).

ولهذا تعالت أصوات عديدة من بينها صوت النّاقدة ليليان لوفال (Liliane Louvel) الّتي ترى أنّه "إذا كان الأدباء يشدّدون على تنوّع الأنظمة السّيميائيّة وعلى عدم توافقها وعلى التّباين بينها، فإنّ عمليّة الانتقال من هذا النّظام إلى ذاك النّظام تظلّ ممكنة"([20])، وفي كتابها "le tiers pictural "اقترحت ليليان لوفال تمشّيا نقديّا مرنا يسمح بتناظر فعل القراءة (acte de lecture) وفعل الفرجة (acte de spectature)، مشيدة بمنطقة البين-بين، أو منطقة التّقاطع والالتقاء الّتي تجمع بين النّسقين الكتابيّ المقروء والبصريّ الفرجويّ، ومشدّدة في الوقت نفسه على ضرورة حفاظ كلّ نسق على ما يميّزه، ولا ترى لوفال في المرور من الصّورة إلى النّصّ المكتوب مجرّد عمليّة ترجمة وإنّما هي عمليّة تمثيل لغويّ لتمثيل فنّيّ، تقوّي القدرة الدّلاليّة للعلامة وتضاعفها([21]).

وفي دراستها الموسومة بـ"أيّ قارئ لكتاب الفنّان"، الّتي سلّطت الضّوء على دور القارئ/المتفرّج المفعّل والإيجابيّ في قنص الدّلالات الّتي تقدّمها الرّسائل البصريّة، ترى آن ماري فيتر (Anne-marie Vetter) أنّ هذا الالتقاء بين نسقي التّواصل اللّغويّ والبصريّ يحدث رجّة مفاجئة (un choc) لأنّه ينبّه القارئ إلى وجود انزياح أو عدول مزلزل لعلاقتنا الكلاسيكيّة بالكتاب([22])، وهذه الصّدمة هي ما يحفّز عمليّة الاستقبال لدى المتلقّي، ويشحن فعله التّأويليّ بقراءات متعدّدة.

ويذهب إيف بايري (Yves Peyre) إلى أنّ تجربة الشّعور بعدم الارتياح، هذا الّذي يحدث عند التقاء المكتوب اللّغويّ والبصريّ، هي الّتي تولّد حوارا ثريّا بين الفنون المتقاطعة في النّصّ الجديد؛ لذلك يرى أنّه عوضا على التّأكيد على غيريّة (alterité) هذا النّوع من النّصوص الجديدة ورفضها، يجب أن ننظر إليها باعتبارها فضاءا للانصهار، وعلاقة ديناميكيّة تثري الفضاء الكتابيّ الخلّاق([23]).

وفي إطار التّأكيد على الإضافة النّوعيّة الّتي تضفيها الصّورة وتقنياتها على النّصّ اللّغويّ، يؤكّد جورج ديدي هابرمان (George Didi-Huberman) على مفهوم "الصّورة المفتوحة" (image ouverte)، الّذي يجعل القارئ المتفرّج لا يرى في الصّورة مجرّد تيمة عليه أن يحللّها ويدرسها أيقونيّا وتصنيفيّا، وإنّما ينظر إليها باعتبارها مبدأ تنشيطيّا يدخل على النّصّ حركيّة، ويحمل إضافة دلاليّة([24]).

وفي ظلّ هذه الدّعوات الّتي تلحّ على حتميّة تحطيم الحواجز بين المنطوق والبصريّ، وتحثّ على ضرورة تجديد أدوات تحليل الرّواية الجديدة وتأويلها، الرواية الّتي تتراسل فيها العلامات اللّغويّة، والبصريّة، والسّمعيّة، ظهر اتّجاه سيميائيّ يدعو إلى ضرورة تسلّح قارئها بسيميائيّات المنطوق، والمرئيّ، والمسموع، معًا، حتّى لا تكون قراءته قاصرة عن فكّ شفرات هذه النّصوص الّتي أطلقت عليها صفات كثيرة من قبيل النّصوص البيسيميائيّة (intersemiotiques)، أو النّصوص المتعدّدة الوسائط (multimodales) أو النّصوص المتعدّدة السّيميائيّة (multisemiotiques)؛ لقد أدرك الباحثون ضرورة استحداث حقل سيميائيّ نقديّ، قادر على استيعاب هذا الكمّ المتزايد من الكتابات الجديدة، وعلى وضع إطار عامّ من أجل استخلاص ملامح هذا الأدب، بتحليل نصوصه وفق معطيات التّقنية، وطرق اشتغال الآلة.

ولمّا كان القارئ-المتفرّج قد ابتعد نهائيّا عن وضعيّة القارئ السّلبيّ، ليتحوّل إلى قارئ مشارك في الأثر، وفي اللّعبة، من خلال جسده الرّائي الّذي تحوّل إلى شاشة عرض داخليّة، تعرض الأثر عرضا يختلف باختلاف ثقافة القارئ الموسوعيّة وعلاقاته الّتي يقيمها مع العالم، فقد كان من الضّروريّ أن يتسلّح بمعرفة الطّرائق والتّقنيات الّتي تحضر من خلالها الصّورة في النّصّ المنطوق.

وإذا كانت الدّراسات متداخلة الاختصاصات قد عملت على وضع تصنيفيّات لطرائق حضور الصّوريّ في اللّغويّ، فصنّفتها ليليان لوفال حسب مبدأ "التّشبّع الصّوريّ" la saturation picturale" إلى حضور مادّيّ (in praesentia) يتحقّق من خلال استدعاء الصّورة إمّا باعتبارها عتبة أيقونيّة من عتبات الغلاف، أو من خلال حضورها جنبا إلى جنب مع النّصّ المنطوق، وآخر بالغياب (in absentia) تذوب خلاله الصّورة في النّصّ اللّغويّ، فتحضر، وهي البصريّة، من خلال اللّغة، أو من خلال التّقنيات، فإنّ نحو الأنساق البصريّة وكيفيّة إنتاجها للدّلالة مثّل مشغل السّيميائيّات البصريّة.

وفي هذا الإطار الحاضن ظهرت شعريّة التّفاعل العلاميّ (intersemioticite)؛ وقد ساعد على ظهور هذا الحقل النّقديّ السّيميائيّ أمران: أوّلهما توسيع البحث السّيميائيّ العامّ، كما تصوّره ديسوسير وطوّره بيرس الّذي كان مركّزا على العلامة اللّغويّة، وفتح أبواب البحث في مجال العلامات البصريّة للإجابة على الأسئلة التّالية: (كيف نتواصل بصريّا؟ كيف نقرأ رسالة بصريّة؟ كيف نكوّن ثقافة بصريّة؟)، وقد تصدّى للإجابة على هذه الأسئلة مجموعة من الباحثين السّيمائيّين الّذين درسوا الصّورة السّينمائيّة المتحرّكة، والصّورة الضّوئيّة الفوتوغرافيّة الثّابتة، واللّوحة الفنّيّة الضّاجّة بالأشكال والألوان، والصّورة الكاريكاتوريّة النّاطقة بغير لسان، والعرض المسرحيّ... إلخ. وقد انتهى البحث السّيميائيّ في العلامات البصريّة إلى نتيجة واحدة، وهي أنّ الصّورة كلام يحلّ محلّ الكلام الّذي تكون به الرّواية، وأنّ للصّورة لغتها الخاصّة بها شأن كلّ خطاب وكلّ رسالة، وأنّ السّرد، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت، يمكن أن تضطلع به اللّغة المنطوقة، مكتوبة كانت أو شفويّة، كما يمكن أن تؤدّيه الصّورة ثابتة كانت أو متحرّكة.

أمّا المعطى الثّاني الّذي ساعد في ظهور الحقل السّيميائيّ النّقديّ الجديد، فهو إصرار هؤلاء الباحثين على وجود علاقات بين النّسق اللّغويّ والنّسق البصريّ؛ وعلى الرّغم من أنّ هذه العلاقات لا تخفي الاختلاف في الخصائص والتّوظيفات، فإنّها لا تمنع من التّراسل، والتّفاعل، والتّعاضد، ويذهب كريستيان ميتز (Christian Metz)، وهو من ألمع المشتغلين بمجال سيميائيّة السّينما إلى أنّ "اللّغات البصريّة تقيم مع باقي اللّغات علاقات نسقيّة متعدّدة ومعقّدة، ولا أهمية لإقامة تعارض ما بين الخطابين اللّغويّ والبصريّ كقطبين كبيرين يحظى كلّ واحد منهما بالتّجانس والتّماسك في غياب أيّ ترابط بينهما، وهذا نابع من خصوصيّة كلّ خطاب وكلّ رسالة"([25]).

ونتيجة لكلّ هذه العوامل مجتمعة، ظهر في الحقلين الأدبيّ والنّقديّ الغربيّين اتّجاه جديد، لا يدرس علاقات التّفاعل الدّاخليّ بين النّصّ الذّاتيّ والنّصوص الغيريّة الّتي يتعالق معها بأشكال مختلفة، وإنّما يعنى بالعلاقات التّفاعليّة بين النّصّ وأشياء أخرى غير نصّيّة نمت في إطار أنظمة سيميائيّة وتعبيريّة غير اللّغة، وقد أطلق على هذا الاتّجاه النّقديّ السّيميائيّ مصطلح تمّ الإجماع عليه قياسا على المصطلح القديم الّذي كان يمثّل شعريّة الرّواية الأحاديّة العلامة: (intertextualité)، وهو مصطلح: (intersemioticité)؛ وكما هو بيّن، من خلال حضور السّابقة (inter) في المصطلحين، فإنّهما يتّفقان حول دراسة التّفاعل الّذي ينشأ داخل نصّ مّا، غير أنّهما يختلفان في الموادّ المتفاعلة موضوع الدّراسة، وبظهور هذا الاتّجاه النّقديّ السّيميائيّ الجديد تركنا شعريّة التّناصّ (intertextualité) نحو شعريّة التّفاعل العلاميّ (intersemioticité).

رواية فرانكشتاين في بغداد: فضاء لتراسل الفنون:

كانت قراءتنا للرّواية المدوّنة 'فرانكشتاين في بغداد' قد أوقفتنا على وعي كاتبها وقصديّته في إنمائها إلى شعريّة تراسل الفنون منذ عنوان الأثر الّذي تصدّره اسم علم لشخصيّة سينمائيّة عالميّة هي 'فرانكنشتاين'([26]1)، ومنذ غلاف الرّواية الّذي فتح فضاءه أمام الأيقونيّ ممثّلا في الصّورة الفوتوغرافيّة المطبوعة على مساحته، فقد تتبّعنا أشكال التّعالق بين المنطوق اللّغويّ وما هو في الأصل غريب عنه، ويظهر في غير محلّه، ويخرج عن المضبوط والمعقول، وبحثنا عن دلالات هذا التّركيب؛ وقد وجدنا أنّ أحمد سعداوي يفتح نصّه الرّوائيّ على علامات تأتيه من أنظمة سيميائيّة عديدة (متحرّكة سينمائيّة-ثابتة فوتوغرافيّة-كاريكاتوريّة-تشكيليّة) اتّخذ حضورها في السّرد اللّغويّ الرّوائيّ شكلين هما الحضور المادّي (in presentia) والحضور بالغياب (in absentia)، غير أنّ سنولي النّوع الأوّل اهتمامنا في هذا البحث.

الحضور الماديّ للصّورة في رواية فرانكشتاين في بغداد:

نتحدّثُ عنِ العلاقات المادّيّةِ الّتي يعقدها اللّغويّ المنطوق (le dit)، والصّوريّ المرئيّ (le vu)، عندما يتقاسمان الفضاء الماديّ للكتاب؛ ويعرّف برنار فويو (Bernard Vouilloux) هذا الشّكل من أشكال التّثبيج بأنّه "تعايش المادّتين
(بالمفهوم اليلمسلافيّ) على حامل مادّيّ واحد"
([27])، ويتحقّق هذا الشّكل من أشكال التّثبيج بطريقتين، تتعلّق الأولى بالصّور المادّيّة الّتي يتمّ إقحامها في نطاق النّصّ
 (image inserée au fil du texte)، أو الّتي تسجّل حضورها في آخره، وأمّا الثّانية، فتتعلّق بالصّورة الّتي تسجّل حضورها على عتبة الغلاف (image paratextuelle).

وإذا كان الشّكل الأوّل من أشكال الحضور المادّيّ للنّسق الصّوريّ داخل النّسق اللّغويّ غير متحقّق بكثرة في عالم الرّواية، فإنّ للشّكل الثّاني حضورا طاغيا؛ فعلى الرّغم من معرفة الكتّاب أنّ صورة الغلاف هي نتيجة لاختيارت نشريّة، توجّهها غايات تجاريّة، وهو ما يعزّز دورها كحلية، فإنّهم أدركوا طاقاتها الّتي تغذّي بها المتن اللّغويّ بما تحمله من إضافات معنويّة، وما تحفّزه من طاقات تخييليّة، وبالخصوص إذا كانت صورة ناشئة عن "اختيارات أيقونيّة يفرضها مضمون الأثر، بفضل ما يربطهما من علاقات مضمونيّة/تيميّة، أو رمزيّة، أو جماليّة، أو حتّى اجتماعيّة"([28]).

وبانعتاقها من صفة الصّورة الحلية، تحوّلت صورة الغلاف إلى عتبة بصريّة أيقونيّة لا يستغني عنها كتّاب الرّواية لما لتثبيج اللّغويّ بعلاماتها، وتيماتها، وتقنياتها، من قدرة على خلق "ممارسة كتابيّة ترفع بشكل مضاعف القوّة الإبداعيّة النّاتجة عن اللّقاء بين المكتوب والمرئيّ"([29])، وقد سجّل هذا الشّكل من أشكال التّثبيج بين المنطوق والمرئيّ حضوره في عتبات الرّواية المدوّنة، من خلال الصّورة الفوتوغرافيّة المطبوعة على غلافها، وهو ما حملنا عل تتبّع ما ينشأ عن التقائهما من طاقات ابتكاريّة إبداعيّة، ما كان لها أن تتحقّق بحضور اللّغويّ وحده، أو بحضور الصّوريّ وحده.

الصّورة الفوتوغرافيّة: من الصّورة النّسخة إلى العلامة:

الصّورة الفوتوغرافيّة هي الصّورة "الّتي يتمّ إنتاجها على سطح معالج كيميائيّا عند تعريضها للضّوء، ويقصد بها دائما الصّور المنتجة بواسطة آلة تصوير الكاميرا"([30])، وبما أنّها منتجة بواسطة الآلة، وبما أنّها "محصّلة كفاءة الكاميرا مضافا إليها قدرات المصوّر وإمكاناته وفهمه للثّوابث والمتغيّرات الّتي تتضمّنها عمليّة التّصوير"([31])، فإنّ الصّورة الفوتوغرافيّة لا تقدّم نفسها للمتلقّي بتلقائيّة وعفويّة، بل تخضع لإكراهات الآلة، ولاختيارات مقصودة ومدروسة من طرف مختصّين في قاعات الإخراج؛ حيث تتمّ معالجتها معالجة تقنيّة، تهدف إلى جعل الصّورة تمثيلا لقيمة أو لمجموعة من القيم، ممّا يحوّلها إلى خطاب ممهور بدلالات ثقافيّة وتاريخيّة مكثّفة بقوّة داخل إطارها.

وبتجاوزها لمهمّة استنساخ الواقع(1[32])، وللأشياء الّتي تمثّلها، وبتمرّدها على وظيفة تجميد لحظة من الزّمن وتسجيل الشّكل بمختلف صوره وحالاته، وبتحوّلها إلى علامة سيميائيّة، لم تجد الرّواية غضاضة من الاستفادة من قدرتها على توثيق الحالة الثّقافيّة، والتّعبير عنها بآليّات جديدة؛ فما كان من الرّواية إلّا أن فتحت فضاء عتباتها أمام الصّورة الفوتوغرافيّة، وبالخصوص بعد الانفجار الّذي عرفه العالم الرّقميّ وقدرته على إدخال تعديلات ضوئيّة ولونيّة وحجميّة على الصّورة الفوتوغرافيّة الملتقطة بغية تحويلها إلى صورة فنّيّة طافحة بالدّلالة وباعثة على فعل التّأويل.

وفي عتبة غلاف الرّواية المدوّنة، عضد المؤلّف والنّاشر العلامة اللّسانيّة الّتي تحتلّ أعلى صفحة الغلاف: "فرانكشتاين في بغداد"، بنسخة (RAW) لصورة فوتوغرافيّة عالية الجودة، ملتقطة بكاميرا كانون (canon) عالية الدّقّة، بعدسة فتحتها 6، وبمستوى حساسيّة للضّوء منخفضISO 100، ممّا قلّل من درجة السّطوع في الصّورة، وزاد في درجة العتمة، وعلى صفحة الغلاف الخلفيّة ينصّ النّاشر على ملكيّتها للمصوّر الفوتوغرافيّ المحترف، العراقيّ هاتف فرحان؛ وقد اشترى أحمد سعداوي حقوق نشرها، لتصبح صورة خاصّة بغلاف الرّواية، وهو ما يؤكّد وعي أحمد سعداوي بقدرة الصّورة الفوتوغرافيّة على توسيع أفق التّعبير الفنّيّ، وإثرائه، فالصّورة لا تقلّ أهمّية عن النّصّ، وهي كالنّصّ تماما، رسالة محمّلة بحزمة من المعاني والدّلالات الّتي تستهدف بلوغ عقل المتلقّي، والرّسوخ في ذهنه، بوساطة علامات بصريّة يتمّ تأويلها، وتحويلها، إلى رسالة ثانية، كانت ثاوية خلف الوظيفة المشهديّة التّسجيليّة للصّورة الفوتوغرافيّة.

فإذا نظرنا إلى الصّورة الفوتوغرافيّة المستدعاة في عتبة الغلاف، وجدنا أنّها تجمع بين مكوّنين هما: الإنسان والمكان؛ فهي بمثابة جسد في حالة إعتام تامّة، يقف في مدخل زقاق حيّ شعبيّ بغداديّ معتمٍ، فهو يقف على الحدود الفاصلة بين داخل الزّقاق وخارجه، وهو ما يؤكّده التّباين بين النّور المبهر المسقط خلفه، والظّلمة الّتي تزداد بالتّدرّج أمامه.

وقبل البحث في سيميائيّة صورة غلاف الرّواية، نودّ أن نشير إلى المعالجة الّتي أدخلها المؤلّف والنّاشر على الصّورة الفوتوغرافيّة الأصليّة، فبالموازنة بين الصّورة الأصليّة، والصّورة المطبوعة على الغلاف، يمكن للقارئ/المتقبّل أن يقع على المعالجة الرّقميّة للإضاءة إذ تمّ التّخفيف في سطوع النّور المسلّط على الجسد المصوّر من الخلف، والزّيادة في درجة العتمة داخل الزّقاق، ويمكنه أن ينتبه أيضا إلى التّقريب الّذي تمّ بتكبير الصّورة والّذي كانت نتيجته إعطاء حجم أكبر للجسد المعتم الّذي كان أبعد وأصغر حجما في الصّورة الأصليّة؛ وليس تنبيهنا إلى هذه التّغييرات الّتي تمّ إدخالها على الصّورة، إلّا من أجل التّأكيد على أنّ الصّورة الفوتوغرافيّة المستدعاة إلى أغلفة الرّواية ليست مجرّد عمليّة تثبيت واستيقاف للحظة هاربة من الزّمن بغية إعادة استحضارها في وقت لاحق، وإنّما هي "موضوع جرى العمل عليه، ويتمّ اختياره، وتأليفه، وتركيبه، ومعالجته، وفق قواعد تخصّصيّة وجماليّة وإيديولوجيّة لتضمينها الكثير من الإيحاء"([33])، كما يذهب إلى ذلك جوناثان بينغل (Jonathan Pingl)، وهو ما يحوّلها إلى نصّ تكتبه العين بوساطة الكاميرا وما تتيحه من تقنيات، والحاسوب وما يتيحه من معالجة رقميّة تقوّي درجة الإيحاء.

وبما أنّ قراءة الصّورة، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت([34])، ليست جردا لدوالّها التّقريريّة، أو وقوفا عند المستوى التّعيينيّ الّذي يعني المعنى الفوريّ أو البديهيّ للصّور، وإنّما هي بحث عن مدلولاتها الإيحائيّة، وتوغّل في المعنى التّضمينيّ الّذي يعني المعنى الحقيقيّ للرّسالة، والّذي يأتي عميقا، وغير ظاهر، وتنوب عنه في الدّلالة علامات بصريّة، فإنّنا سنعمل على الكشف عن المعنى الإيحائيّ لمختلف تمظهرات الصّورة؛ فالصّورة نصّ، وهي ككلّ نصّ، "تتحدّد باعتبارها تنظيما خاصّا لوحدات دلاليّة متجلّية من خلال أشياء أو سلوكيّات أو كائنات في أوضاع متنوّعة"([35])، فلتمثيل المعنى، يلجأ المصوّر إلى تقنيات تكوّن سنن الصّورة الفوتوغرافيّة، كاختيار مكوّنات الصّورة، وترتيبها، والإضاءة، ونوع اللّقطة، وزاويتها، والتّأطير، والألوان المستدعاة الّتي تعتبر من أهمّ عناصر الصّورة المؤثّرة في مدلولها والموجّهة إليه.

سيميائيّة تكوين الصّورة:

نقصد بالتّكوين (composition) "فنّ ترتيب العناصر المختلفة، الثّابتة، المكوّنة للصّورة داخل الكادر، ترتيبا منطقيّا وصحيحًا، وتعتمد جودة التّكوين في الفوتوغرافيا على تعيين القيم الجماليّة الّتي تشكّل الاتّزان البصريّ للصّور، فالتّكوين الجيّد هو تجميع للعناصر الفنّيّة والإبداعيّة من حيث الجانب الهندسيّ والفنّيّ والتّقنيّ"([36]) داخل إطار الصّورة، تجميعا دالّا، موحيا، باعثا على التّأويل، ويبدأ التّكوين بتنسيق الشّكل في إطار من الفراغ، من خلال اختيار الموضوعات والأجسام الّتي يراها المصوّر قادرة على إيصال أفكاره.

وتجمع الصّورة الفوتوغرافيّة الملتقطة والمطبوعة على غلاف الرّواية المدوّنة بين مكوّنين هما الشّخص والمكان؛ فتكون بذلك تجسيدا بصريّا للعلامتين اللّغويّتين الواردتين في العنوان (فرانكشتاين وبغداد)، فالصّورة تظهر زقاقا ضيّقا مظلما يشبه زقاق7 الموصوف داخل العالم الرّوائيّ التّخييليّ، وعلى جانبيه مجموعة من المباني القديمة المتهالكة بشناشيلها الخشبيّة، وبأبوابها ونوافذها المتآكلة، وبخيوط التّنوير المهترئة، وتسيل على أرضيّة الزّقاق المحفّرة مياه آسنة هي أقرب إلى مياه المجاري والبالوعات، وفي مدخل الزّقاق شخص بملامح معتمة، وهويّة مطموسة، وقد تنجح الصّورة الفوتغرافيّة، في المستوى التّعيينيّ، في إحالتنا على المرجع الواقعيّ بما تتمتّع به من قدرة على المشابهة والمماثلة، وهو ما قد يعيق المستوى التّضمينيّ؛ فالصّورة تحضر وكأنّها رسالة بلا شفرة، إنّها في مستواها الأوّل مجرّد صورة لشخص التقط صورة تذكاريّة في زقاق من أزقّة حيّ البتاوين البغداديّ لما لهذا الحيّ من قيمة رمزيّة تراثيّة، غير أنّ الخيارات التّرتيبيّة في عرض هذين المكوّنين، تنشّط الذّهن ليبحث عن المعاني الثّاوية خلف الإيهام بالواقع الّذي يجعل من الصّورة الفوتوغرافيّة مجرّد تسجيل للحظة مرئيّة في مكان مّا، ومجرّد اقتطاع للحظة زمنيّة وتثبيتها لحفظها من النّسيان.

لقد جعل المصوّر اللّقطة العامّة البعيدة (very long shot) خيارًا تقنيًّا في هذه الصّورة، وهو خيار لا يميل إليه المصوّر، ولا الشّخص الملتقط، إذا ما كانت الصّورة مجرّد صورة شخصيّة للذّكرى، فهذا الخيار التّقنيّ يسمح بتمييز شكل الجسم المصوّر، دون تحديد سماته الشّخصيّة، ثمّ إنّه يدعو المتقبّل إلى التّعرّف على السّمات الجغرافيّة، والبيئيّة، للمكان وللشّخص المصوّر؛ فإذا تأمّلنا مكوّنات صورة غلاف الرّواية المدوّنة، وجدنا أنّ لترتيب مكوّناتها على ذلك النّحو الّذي تقدّمت به لبصر المتلقّي، دلالةً، فلكي يوحي المصوّر بوزن الجسم المعتم في الحكاية الّتي تسردها الصّورة، لم يختر له المركز، فمركز الصّورة هو أضعف المواقع من ناحية التّكوين، لأنّه يجعل الصّورة أحاديّة الدّلالة، بفعل استقطاب الموضوع المصوّر لبصر المتلقّي وإدراكه؛ لقد اختار المصوّر أن يضع الجسد المعتم الملتقط في أحد جانبي الصّورة، ممّا يسمح للعين بأن تتحرّك وتقيم علاقات وترابطات بين الجسم والبيئة الّتي احتضنته، وما إن يسلّط القارئ/المتقبّل رؤيته القصديّة على هذه الصّورة وعلى مكوّنيها وهما الإنسان وبيئته، حتّى تقيم الصّورة علاقات "مع عناصر أخرى خارج عنصر التّمثيل ويمتلك المعنى في المرجع الثّقافيّ"([37])، إنّ الصّورة بما تقوله اللّقطة العامّة، وما يقوله ترتيب مكوّناتها، تتحوّل إلى صورة حكاية، إلى صورة تعني شيئا، لا مجرّد صورة تماثل شيئا.

ولأنّ "الإدراك سيرورة توظّف معارفنا القبليّة من أجل قراءة المثيرات الّتي تسجّلها حواسّنا، وتأويلها"([38])، فإنّ المتلقّي يربط بين المكوّنات الّتي تعرضها الصّورة، والتّسنين الثّقافيّ الخاصّ بالتّجربة الإنسانيّة، فيجد أنّ هذه الصّورة تحكي حكاية التّأثّر والتّأثير بين العراقيّ، بألف ولام استغراق الجنس، وبيئته؛ إنّها صورة تحكي حكايات محلّيّة عن عراقيّين مطموسي الملامح والهويّة، يعيشون في عراق مهجّن الأديان، والطّوائف، والثّقافات، والحضارات، وهو ما يدلّ عليه بالنّيابة حيّ البتاوين باعتباره أيقونة الاختلاط الهوويّ، فإذا تاريخه حكايات مترابطة من الصّراعات الهوويّة الّتي أدّت إلى خراب المكان، وتحوّله، رغم أنّه يقع جغرافيّا في المركز (في قلب بغداد)، إلى ملتقى للمهمّشين؛ فخلف كلّ باب من أبواب هذا الزّقاق من حيّ البتاوين البغداديّ، حكاية شخصيّة عراقيّة تائهة في زقاق داخليّ ضيّق، يشبه ضيق زقاق الحيّ الّذي يدركه المتلقّي بصريّا، تصارع من أجل البقاء، وتبحث عن هويّة بوسيلة مّا من الوسائل الّتي تتشابه جميعا في طابعها العنفيّ، إنّها حكاية أرواح تائهة لمهمّشين ضاعوا في أزقّة المدينة المتشعّبة الّتي تخفي القاع الآسن خلف الوجه الجميل المنمّق، فإذا هم، رغم اختلاف قصصهم وألوانهم، يتحوّلون داخل العتمة إلى لون واحد.

أمّا إذا سلّطنا رؤيتنا القصديّة على الجانب الّذي اختاره المصوّر لوضع الجسد المعتم، وهو الجانب الأيسر من الصّورة، لا الأيمن، فإنّنا سنقف على مدلول هذا الدّال الهندسيّ البصريّ، فالمصوّر يعي جيّدا أنّ عين المتلقّي العربيّ ستتحرّك تلقائيّا من اليمين إلى اليسار، وذلك بحكم ما تعوّده من اتّجاه قراءة النّصّ العربيّ، ولكنّه، رغم وزن الجانب الأيمن من الإطار، وقدرته على جلب انتباه المتقبّل، فقد تركه فارغًا إلّا من صورة المكان الّذي يختزل تاريخ العراق، فيتحوّل إلى علامة بصريّة على ماضي التّعايش السّلميّ في عراق ما قبل 2003، عندما كان العراقيّ، مسلما كان، أو يهوديّا، أو مسيحيّا، أو سنيّا، أو شيعيّا، مواطنا عراقيّا؛ غير أنّ المكان بما كان عليه من خراب، وتهميش، وعتمة تتضادّ مع دلالته السّالفة الذّكر، يحفّز ذهن المتقبّل الّذي سيتساءل عن سبب هذا التّباين بين القيمة الرّمزيّة لهذا المكان وحالته المادّيّة الرّثّة، وبما أنّ الصّورة نصّ كالنّصّ اللّغويّ، غير أنّها مكتوبة بالتّقنيات لا بالكلمات، سيتحوّل المتقبّل ببصره، موجّها بخطوط التّنوير العموميّ المتدلّية الّتي تربط الجانب الأيمن من الصّورة بالجانب الأيسر منها، في إيحاء بمعنى الاسترسال والتّرابط، ماسحا الصّورة، باحثا عن الأجوبة، حتّى يعترض بصره الجسد المعتم في يسار الصّورة، باعتباره جسدًا حالّا بالمكان حلولا حادثا، لا قديما، مادام موجودا على يسار الإطار، وليس على يمينه، فإذا هو كجملة اختلال التّوازن في السّرد اللّغويّ، لا تأتي إلّا بعد هدوء وتوازن أوّليّين؛ إنّ هذا الجسد المعتم، المنعزل، المطموس الملامح، الجاثم بلا حراك، هو أقرب إلى الأجسام الغريبة والمعقّدة الّتي تشعر المتقبّل بثقلها، وهو ثقل تستمدّه من خيارات عرضها؛ فقد اختار المصوّر ألّا يعرض هذا الجسم مكدّسا مع أجسام أخرى، حتّى لا يتشتّث وزنه، واختار له السّواد-والأسود كما هو معلوم من الألوان الدّاكنة الّتي تعطي شعورا بالثّقل والرّعب، وهو شعور يمتلئ به اللّون من خلال ارتهانه إلى ما أكسبته إيّاه التّجربة الإنسانيّة من دلالات-، وطمس ملامحه ليكون بلا هويّة، وهو ما سيقوّي من دلالته العنفيّة، وبالتقاء هذه الخيارات، وبالجمع بينها وبين معنى الحلول الحادث الّذي كان الدّالّ عليه وضع الجسد المعتم على يسار الإطار، يجيب المصوّر قارئه المتسائل عن سبب خراب المكان الّذي كان أيقونة للسّلام والاندماج؛ ثمّة شيء مّا حلّ بالمكان الآمن، شيء عنيف، مخيف، ثقيل، جاثم على الصّدور، شيء هو القاسم المشترك الأكبر بين جميع العراقيّين، على اختلاف ألوانهم، الّذين تحوّلوا إلى أرواح تائهة تطلب الرّاحة بالعنف والدّماء، فابتلعتهم العتمة، ووحّدتهم، بعد أن شظّتهم الطّوائف، والمذاهب، والأديان؛ وقد أحسن المصوّر استغلال أحد مكوّنات المشهد الملتقط، في الإيحاء بدلالة التّحوّل الّذي حلّ بالمكان، فقد استطاع مسيل الماء العموديّ، الرّأسيّ، الّذي يشقّ الزّقاق فيقسمه إلى نصفين، أن يوحي بوجود مرحلتين تاريخيّتين من تاريخ العراق، وهكذا يتأكّد القارئ أنّه لا وجود لشيء اعتباطيّ أو عفويّ في الصّورة، وأنّ العلامات البصريّة (رغم إحالتها على تشابه ظاهريّ) المبثوثة في حيّز الصّورة، لا تقدّم لنا تمثيلا محايدا لمعطى موضوعيّ مفصول عن التّجربة الإنسانيّة، فالوقائع البصريّة في تنوّعها وغناها، تشكّل لغة مسنّنة أودعها الاستعمال الإنسانيّ قيما للدّلالة والتّواصل والتّمثيل.

وبما أنّ عامل الزّمن من المفاتيح المساعدة على قراءة الصّورة الّتي تقيم ترابطات وعلاقات مع الحياة، ومع الفترة الزّمنيّة الّتي التقطت لتعبّر عن قضاياها، فإنّ اختيار هذه الصّورة الفوتوغرافيّة لتكون غلاف رواية عراقيّة تتناول تيمة فوضى العنف الّتي اندلعت في العراق بمجرّد حلول الجيش الأمريكيّ بأراضيه، وهو ما فتح بوّابة الإرهاب على مصراعيها، ولاسيّما بعد سقوط النّظام وانتشار الفوضى، يجعل الجسد المعتم تعبيرا رمزيّا عن كلّ الشّرور الّتي ظنّ العراقيّ أنّه أقصاها، فخرجت من القمقم دفعة واحدة لتلحق الخراب بكلّ شيء؛ لقد حلّت أمريكا بكلّ ثقل أسلحتها الحديثة والمتطوّرة بالعراق، فغذّت النّعرات، واستثمرت في الاختلافات، وزرعت الإرهاب، فما كان من العراقيّ، بمختلف طوائفه ومذاهبه وأديانه، إلّا استعادة كلّ أسلحته المطمورة في أقاصي اللّاوعي المعتمة، من أجل استحصال الهويّة، وحماية المصلحة الشّخصيّة، والانتقام من الجناة، غير أنّ العراقيّ، وهو يحاول أن يبني هويّة، كان يلحق الخراب بكلّ شيء؛ فتنتهي الحكاية البصريّة، وينتهي السّرد الصّوريّ، بجسد معتم، ثقيل، جاثم، باقٍ لا يرحل، وبمكان مركزيّ يتحوّل إلى خرابة بسبب رحيل الجميع عنه، إنّ صورة الغلاف هي حكاية العراق الّذي هجره الجميع وبقي فيه فرانكشتاين، رمز الاحتلال الّذي يتخفّى خلف شعارات الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، ورمز الإرهاب الّذي يتزيّى بزيّ الدّفاع عن الإسلام، ورمز العدالة الّتي لا ترى لها من طريقة غير الجريمة والانتقام.

ولا تدلّ الصّورة الفوتوغرافيّة المطبوعة على غلاف الرّواية المدوّنة بمكوّناتها الحاضرة وطرق عرضها فحسب، بل تدلّ أيضا بما غاب عنها؛ ويمكن للقارئ/المتقبّل أن ينتبه إلى غياب السّماء في صورة الغلاف، فقد غابت السّماء بألوانها، في مقابل التّشديد على الأرض وذلك من خلال اللّون البنّيّ، لون الأرض، فغياب السّماء، باختيار لقطة لا تظهرها، هي اللّقطة الطّوليّة، دالّ مدلوله إعفاؤها من مسؤوليّة الخراب والعنف والفوضى الحالّة بالمكان، إنّ ما يحصل في العراق ليس مسؤوليّة السّماء، إنّه مسؤوليّة الأرض ومن عليها، فالإنسان الّذي قتل الإله وحلّ محلّه، وأطاح بالنّظام السّياسيّ، وبالنّظام القضائيّ، وبالنّظام الأخلاقيّ، وتآمر مع الشّرّ، هو المجرم الحقيقيّ؛ إنّ الأفعال القاسية والوحشيّة ليست من فعل السّماء، ولكنّها من فعل البشر الّذين استنزلوا السّماء من عليائها، لخدمة سرديّات لا تحقّق إلّا المصالح الشّخصيّة الضّيّقة، ولا تنتهي إلّا بالخراب، إنّ غياب السّماء، وثقل حضور الأرض، دالّ مدلوله أنّ الشّرّ الّذي كان مصدره شيطان السّماء ذو القرنين، أصبح اليوم شرّا مستبطنا، داخليّا، أرضيّا، يحمله الإنسان بين ضلوعه، وينكره في آن واحد، وبهذه الدّلالة، تأتي الصّورة لتحدّ من جموح الدّلالة في العلامة اللّغويّة فرانكشتاين، فإذا كانت العلامة اللّغويّة تستدعي إلى الذّهن صور المسوخ بأحجامها الخارقة للمعقول، ممّا يلقي بنا في عوالم اللّامعقول، وشياطين السّماء وأشباحها، فإنّ العلامة البصريّة تضعنا أمام جسد بشريّ بمقاييس عاديّة، بشريّة؛ وهذا التّباين، بين ما توحي به العلامة اللّسانيّة والعلامة البصريّة، هو الّذي يستفزّ الذّهن للتّفكير، حتّى يعدّل من جموح اللّغة الاستعاريّ، فإذا فرانكشتاين هو "الشّرّ الّذي نشترك جميعا في امتلاكه في الوقت الّذي ندّعي أنّنا نحاربه، وكيف أنّه قائم هنا بين جوانحنا، ونحن نريد الإجهاز عليه في الشّارع، وأنّنا جميعا مجرمون بنسبة أو بأخرى وأنّ الظّلام الدّاخليّ هو الأكثر عتمة بين كلّ أنواع الظّلام المعروفة، إنّنا نكوّن جميعا هذا الكائن الشّرّير الّذي يجهز على حياتنا الآن"([39]).

ولا يمكن لمتلقّي صورة غلاف الرّواية المدوّنة ألّا يدرك هذا التّركيز على الدّور المحوريّ للإنسان العراقيّ في خراب المكان الّذي يحتضنه داخل إطار الصّورة، فقد استطاع المصوّر من خلال قاعدة خطوط التّوجيه، أن يوجّه عين المشاهد داخل الصّورة نحو الموضوع الرّئيسيّ فيها، وهو الجسم البشريّ المعتم؛ وتعتبر الخطوط من أهمّ العناصر في تكوين الصّورة، سواء كانت ظاهرة أو غير ظاهرة منتشرة في إطارها، وقد نجح المصوّر الفوتوغرافيّ الّذي التقط صورة الغلاف الفوتوغرافيّة في أن يدرك وجود مجموعة من الخطوط الاصطناعيّة الموجودة في المشهد الملتقط، كخطّ الزّقاق الممتدّ أمام بصر الجسم المصوّر، وخطوط الأبنية والمنازل الّتي تحيط به من الجانبين، وخطوط خشب النّوافذ، وخطوط الكهرباء الّتي تربط بين جانبي الإطار، وقد أحسن المصوّر استعمال الخطوط في تحسين التّجربة البصريّة للصّورة، وفي التّركيز على الموضوع الرئيسيّ فيها، إذ اضطلع الاتّجاه العموديّ للزّقاق، والاتّجاه العموديّ الرّأسيّ لمسار مسيل الماء، والاتّجاه العموديّ لطابوق مباني الجانب الأيسر من الزّقاق، والاتّجاه الأفقيّ لطابوق مباني الجانب الأيمن منه، بالدّور نفسه الّذي تضطلع به أصابع يد تشير نحو الجسد المعتم، فتوفّر مسارا بصريّا، وترشد عين المشاهد الّتي تتبع اتّجاه الخطوط العموديّة والأفقيّة الاصطناعيّة، حتّى تقع على العنصر الرّئيسيّ المهمّ في الحكاية، والماثل في العمق، فيقفز من خلفيّة الصّورة إلى الصّدارة، تأكيدا لمركزيّته في السّرد البصريّ الّذي تكتبه الصّورة؛ إنّ هذا الجسد المعتم هو منبع الخراب الّذي يسم المكان، وليس وجوده، باعتباره خطّا عموديّا، عند رأس مسيل الماء الآسن الملوّث، إلّا دالّا على مدلول هو مسؤوليّة العراقيّ في كلّ ما يطرأ على المكان من خرابٍ، إنّه المنبع، وبذلك تسرد علينا الصّورة حكاية الإنسان العراقيّ الّذي تآمر مع الشّرور باختيارات فرديّة، إراديّة، فإذا هو لا يقلّ جريمة عن الاحتلال الأمريكيّ.

 ولم يكتفِ المصوّر بتفعيل قاعدة خطوط التّوجيه، باعتبارها دالّا مدلوله المركزيّة، وإنّما جعل الجسد البشريّ المعتم، بكلّ ما يحمله من دلالات العنف، واللّاتمايز، واللّامعقول، داخل إطار معماريّ هو مدخل الزّقاق، وقد نجح الإطار في توجيه انتباه المشاهد نحو الموضوع الرّئيسيّ داخل الصّورة، ثمّ إنّه استطاع أن يبيّن العمق، والمنظور، وأن يحدّد مراكز الاهتمام، ممّا ولّد لدى المتلقّي شعورا بالعمق يجعل الصّورة أكثر من مجرّد لقطة تعني تجميد لحظة من الزّمن.

سيميائيّة الإضاءة:

يعتبر الضّوء مشاركا مباشرا في بناء المعنى الضّمنيّ أو الإيحائيّ للصّورة، فهو يستعمل فيها ليقول شيئا آخر غير حقيقته الفيزيائيّة، إذ يوظَّف لإيصال الحالة المزاجيّة الّتي يريد مرسل العلامة إيصالها إلى متلقّي الصّورة، وتؤسّس الإضاءة سيميائيّتها من خلال شدّة الإضاءة وزاوية السّقوط اللّتين تتغيّران بتغيّر دلالة الصّورة.

سيميائيّة زاوية سقوط الضّوء:

لزاوية سقوط الضّوء في الصّورة الفوتوغرافيّة دلالة تختلف باختلافها، إذ يمكن للمصوّر أن يسلّط الضّوء على الجسم المصوّر من الأمام مباشرة؛ وهذا الاختيار لهذه الزّاوية يجعل الجسم المصوّر مسطّحا، لعدم وجود مناطق ظلال تعمل على تجسيم الأشياء، وتتحوّل هذه الزّاوية من زوايا إسقاط الضّوء إلى دالّ مدلوله النّعومة والرّومانسيّة، ويمكن للمصوّر أن يختار أيضا الزّاوية الجانبيّة، وهو خيار يؤدّي إلى رسم مناطق ظلّ كثيفة في الطّرف المقابل لمصدر الضّوء، وهذه الزّاوية دالّ مدلوله الغموض والازدواجيّة؛ فحين يسلّط الضّوء من خلالها على الأجسام المصوّرة، فهي تركّز على إبراز ملامح الجانب المضاء، وتعتيم الجانب الواقع في الطّرف المظلم، وهو ما يقوّي دلالات التّعتيم، والغموض، والازدواجيّة؛ وتتيح زاوية إسقاط الضّوء للمصوّر إمكانيّة ثالثة هي الزّاوية الخلفيّة، حيث يكون مصدر الإضاءة خلف الجسم المصوّر الّذي يفقد تفاصيله ولا يحافظ إلّا على حوافّه الخارجيّة، وهو ما يضعنا أمام دالّ مدلوله العنف، وهو ما نجده غالبا في الصّورة الّتي تحضر على ملصقات أفلام الحركة وأفلام الرّعب، ويمكن للإضاءة أن تكون من الأعلى فتتحوّل في هذه الحالة إلى دالّ مدلوله الاتّساع والانتشار، ويمكنها أن تكون من الأسفل ممّا يسم الشّخصيّة المصوّرة بميسم الشّخصيّة الشّرّيرة؛ وهكذا نتبيّن أنّ الصّورة الفوتوغرافيّة رغم ارتفاع منسوب المماثلة فيها، فإنّها بإقحام النّشاط البشريّ في تكوينها، وبتغيّر دلالتها باختلاف الخيارات المتدخّلة في إخراجها، تتحوّل إلى علامة يصوغ من خلالها المصوّر مواقفه ورؤاه من العالم الّذي يريد تصويره.  

فإذا عدنا إلى صورة غلاف الرّواية المدوّنة، وجدنا أنّ مصدر الإضاءة فيها يسلّط الضّوء خلف الشّخص المصوّر تمامًا، فيبدو الجسم المصوّر في حالة إعتام تامّة، تجعله غير واضح التّفاصيل، فلا نرى منه سوى الهيكل الخارجيّ (sihouette) الّذي يجعل الذّهن موسوعيّا ينميه إلى عالم الإنسان، لكن دون أن نتبيّن سماته الشّخصيّة، ويؤكّد نجاحنا في تصنيف الجسد المعتم في خانة البشر، رغم ما كان عليه من تعتيم، ما يذهب إليه أمبرتو إيكو([40]) (Umberto Eco) من أنّ التّشابه بين الصّورة، باعتبارها علامة أيقونيّة قائمة على المماثلة والمشابهة، مع الموضوع الّذي تمثّله، لا يكون إلّا نسبيًّا، فالصّورة لا تقدّم، حتّى وإن كانت فوتوغرافيّة وفي أعلى درجات المماثلة، جميع الوحدات الّتي تحيل على المرجع الواقعيّ أو التّجربة الواقعيّة الّتي تمثّلها، وإنّما تنتقي فقط من الشّيء الممثّل المحفّزات الّتي تحرّك نشاطنا الإدراكيّ، وتمكّننا من الرّبط بين ما تعرضه الصّورة وما تختزنه الذاكرة الموسوعيّة، وهكذا ينزاح مبدأ التّشابه الّذي كان حجّة لتأكيد ميكانيكيّة الصّورة، واقتصارها على تسجيل الأشياء وتثبيتها، ليصبح وسيلة نصنّف من خلالها كلّ الأشياء الّتي توجد خارج الذّات، منذ تلك اللّحظة الّتي تتطابق فيها المحفّزات الملتقطة مع الخطاطة المجرّدة الّتي تمدّنا بها تجربتنا الإنسانيّة.

ولمّا كان التّعتيم "ليس غيابا للمعنى بل يشير إلى حضوره في شكل إيحاءات تتحقّق حسب السّياقات"([41])، فإنّ هذا التّعتيم والطّمس المقصود لملامح وجه الشّخص المصوّر يضعاننا أمام دلالة أولى هي دلالة الغموض النّاجم عن العجز عن تحديد الهويّة، فالجسد المعتم، حسب الحوافّ والحدود الخارجيّة، يشير إلى شخص مذكّر كما تدلّ عليه هيئته، لكنّ القارئ لا يمكن أن يحسم في أمر هويّته، حتّى بعد أن يخوض في متن العمل، وهو ما يجعله فراغًا قابلا لأن يمتلئ بكلّ شخصيّة من شخصيّات المتن الرّوائيّ، تجسيدا لأطروحة المؤلّف الّتي ترى أنّ الجميع في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكيّ مجرمون، وهكذا يتحوّل الجسم المعتم إلى علامة على الشّخصيّة العراقيّة (الإنسان العراقيّ بألف ولام استغراق الجنس) الّتي تعاني أزمة هويّة؛ وهكذا، تقودنا هذه القراءة لزاوية إسقاط الضّوء، إلى وعود ومواثيق قرائيّة تعد بها العتبة القارئ المقبل على المتن، فالرّواية لن تكون ملحمة بطولة فرديّة، لشخصيّة تتحدّى العراقيل من أجل نحت الكيان، ومن أجل مستقبل أفضل، إنّها متابعة وتعقيب سرديّين لأرواح تائهة، بحثًا عن استحصال هويّة، ستكون السّبيل إليها معتمة، عنيفة، يتمّ خلالها توظيف كلّ أنواع الأسلحة المطمورة في اللّاوعي، تلك المنطقة السّوداء المعتمة الغامضة الّتي تفاجئ الحضارة والحداثة بكلّ ما ظنّتا أنّهما أقصتاه؛ وبعجزنا عن تحديد هويّة الجسد المصوّر المعتم، يخرج هذا الجسد من خانة النّور والوضوح، وبالنتيجة من خانة المعقول، ليدخل إلى خانة اللّامعقول المرعب المخيف الّذي يهدّد النّظام، وهو ما سيدخلنا في عوالم المطاردات البوليسيّة، مطاردات النّظام لكلّ محاولات خرقه، ممّا يبعث الشّعور بالخوف والرّعب.

 وبالتقاء الهويّة المطموسة، والسّبيل العنفيّة إلى استحصالها، وقد ناب مصدر إسقاط الضّوء الخلفيّ عنهما وكان علامة عليهما، يجد القارئ نفسه منذورا لصراع هويّات دام ينذر بالخراب، وأمام رواية لا تجيب على سؤال: كيف تصبح قدّيسا؟، فهو أمر لم يعد ممكنا في واقع التّقاتل، والطّائفية، والمصالح الشّخصيّة، وإنّما تجيب على سؤال: كيف تصبح مجرمًا؟ لأنّها الحقيقة الوحيدة الّتي يشترك فيها الجميع.

سيميائيّة شدّة الضّوء:

إنّ شدّة الضّوء، ودرجته، لغةٌ في الصّورة الفوتوغرافيّة، فبالزّيادة في الحدّة، أو التّخفيف فيها، تتغيّر الدّلالات الّتي تحملها الرّسالة البصريّة للمتلقّي، وتتأثّر حدّة الضّوء بالمساحة الّتي ينبعث منها، إذ كلّما اتّسعت تلك المساحة، قلّت حدّة الضّوء، وخفتت، وكلّما انحسرت، زادت حدّة الضّوء، واشتدّت؛ ثمّ إنّ درجة حدّة الضّوء تتأثّر بالبعد والقرب من الموضوع المصوّر، فإذا كان مصدر الضّوء بعيدا عن الموضوع المصوّر، خفتت حدّته، فكانت الظّلال خفيفة، وإذا اقترب من الموضوع المصوّر، ازدادت حدّته، وهو ما يجعل الظّلال شديدة، ممّا يزيد في تعتيم الجسم المصوّر، ولطبيعة الضّوء إسهام أيضًا في تشفير الرّسالة البصريّة، فكلّما انتثر الضّوء المسلّط على الجسم المصوّر، كانت الظّلال الّتي تنشأ عن الجسم المستقبل للضّوء ناعمة، وكلّما كانت طبيعة مصدر الضّوء موحّدة، ومركّزة، كانت الظّلال قويّة، موحية بالعنف، وتتحوّل هذه الخيارات إلى دوالّ محمّلة بدلالات، لا تظهرها القراءة الأوّليّة الّتي لا تكشف إلّا عن المعاني الفوريّة أو البديهيّة، وإنّما تكشف عنها القراءة العميقة الّتي ترتكز على فهم الرّسالة البصريّة وتشخيصها وفكّ رموزها.

ويمكن للبصر المستقبل للصّورة أن يقف بيسر على التّباين الشّديد بين الظلّ والنور في الصّورة الفوتوغرافيّة المطبوعة على غلاف الرّواية المدوّنة، فخلف الجسد المعتم، ينبثق النّور مبهرا من مساحة ضيّقة هي مدخل الزّقاق المظلم المستطيل الّذي مثّل إطارا حاضنا للجسد المصوّر، وهو ما يجعل الإضاءة ذات طبيعة مركّزة، ومكثّفة، وغير منتثرة؛ وهذا التّركيز الّذي تتّسم به الإضاءة يقابله ارتفاع في درجة التّعتيم الّتي كان عليها الجسم المصوّر، فإذا كانت الإضاءة مرتبطة سيميائيًّا بكلّ المعاني المعقولة الموجبة، فهي تعبير استعاريّ عن العقل، والوعي، والحقيقة، والعدل، والجمال، والخير، وكانت الظّلال المعتمة مرتبطة بكلّ ما هو لامعقول سالب، فهي تعبير استعاريّ عن خداع العواطف والأحاسيس، وأقاصي اللّاوعي المظلمة، والكذب، والظّلم، والقبح، والقذارة، والشّرور، أمكننا أن نجد في الإضاءة المبهرة والمركّزة علامة على المتابعة والتّعقيب اللّذين سيضطلع بهما السّرد الرّوائيّ، باعتباره فضحا، وكشفا، لكلّ المدلولات الّتي توحي بها الظّلال عن طريق المجاز والإيحاء، ويمكن أن نرى فيه إيحاء بدور نور العقل، والوعي، والموضوعيّة، والحياد، في فضح عوالم اللّاوعي المظلمة المتكتّمة على أسرارها؛ وهذا الإيحاء بالفضح، والكشف، والتّوضيح، الّذي يوظّف المصوّر التّباين بين النّور والظّلّ لينوب عنه، يدعمه ويرسّخه اللّون الطّباعيّ الأبيض الّذي اختاره النّاشر لكتابة عنوان الرّواية، ويؤازره الشّكل أو النّمط الخطّيّ الّذي اختاره المؤلّف والنّاشر له([42])، فالخيارات الفوتوغرافيّة، والطّباعيّة، والخطّيّة([43])، تتعاضد في إنتاج الدّلالة، وفي فتح مسارات التّأويل، والنّور المكثّف والمركّز، والبياض الطّباعيّ، وبساطة الشّكل الخطّيّ ووضوحه، تلتقي من أجل مهمّة واضحة هي الإيحاء بدور الرّواية في تسليط الضّوء على المواضيع المركّبة والفلسفيّة، وعلى رأسها العنف اللّاواعي؛ إنّ الرّواية تنير الحقيقة الّتي تاهت وتكشفها، إنّها مصباح ديوجين ما بعد حداثيّ يرفعه الرّوائيّ ويسير به في الأزقّة المعتمة على الحقيقة وعلى المجاز، إنّها الضّوء الّذي يحضر خلف العتمة ليكون طوق النّجاة الأخير من الانزلاق إلى فوهتها الّتي تلتهم كلّ شيء، مثلها مثل المسخ.

ولكنّ الرّواية، رغم نورانيّتها وإشعاعها ومهمّتها التّنويريّة النّبيلة، لا يمكن أن تمحو العتمة والظّلال، فهذه ليست مهمّة الرّواية، بل مهمّة قارئها، إذا ما نجح في قنص العلامات وتأويلها، وتسلّح بالسّنن الّذي تبني به الصّورة المعنى؛ أمّا الرّواية فإنّها تفضح، وتسلّط الضّوء الّذي نراه متسلّلا، ومعكوسا على جدران منازل الزّقاق، بدرجات متفاوتة، وتكشف عن كلّ الأجسام المعتمة الّتي تعترض نورها والّتي كانت متحصّنة بالظّلمة، دون محوها أو تبديد سوادها، وبعجز النّور عن تبديد العتمة، وببقاء كتلة الجسد المعتم رغم الضّوء المبهر المسقط خلفه، تشدّد الصّورة الفوتوغرافيّة على كثافة حضور العنف وثقل الخطر الجاثم كالسّواد على المكان، وهو ما يستدعي تفعيل دور الإنسان في تغيير مصيره نحو الأفضل، وفي اتّقاء الخراب الّذي تنذر الرّواية بحدوثه من خلال خلق عالم ممكن متخيّل، قادر رغم تخييليّته على استبطان الأغوار والبحث في الأسباب واستخلاص النّتائج؛ وما على القارئ/الإنسان إلّا أن يتلافى البدايات حتّى يتّقي شرّ النّهايات الكابوسيّة، فالصّورة الفوتوغرافيّة تتجاوز هدف إطلاع المتلقّي على صدق الحدث الملتقط ميكانيكيّا بعدسة الكاميرا، نحو تغيير اتّجاهاته، وتغيير قناعاته، وذلك من خلال الخيارات التّقنية الّتي توفّرها آلة التّصوير، إذ يمكن لنوع لقطة، أو زاويتها، أو زاوية إسقاط ضوء، أو شدّته، أو التّباين بين النّور والعتمة، أن يحدث رجّة، أو صدمة، أو ذهولا، وهي جميعها عتبات أوّليّة نحو اتّخاذ قرار بتلافي الخطر الّذي يحذّر منه العالم الرّوائيّ الممكن؛ وبهذه القراءة الّتي دفعتنا إليها الخيارات التّقنية المستدعاة في التقاط صورة غلاف الرّواية، يعرف القارئ أنّه لن يكون في صحبة سرد روائيّ يحابي الشّعب الّذي يروي قصّته، ويتستّر على أمراضه وعلله، ويزيّف حقائقه، ويغرق في البكائيّة باعتبارها سلاحا للضّحايا والمسحوقين الّذين يحمّلون الآخرَ/الجحيم أوزارَ فشلهم، فالصّورة تعد القارئ/المتلقّي بعرض بصريّ تقنيّ، يمزّق، رغم صنعيّته، الحجبَ السّاترة للحقائق، ويفضح التّمثيلات الاجتماعيّة المضلّلة، على حدّ قول ميلان كونديرا.

ولئن وضعنا التّباين بين النّور والعتمة، في قلب الثّنائيّات الضّديّة الّتي يدلّ عليها إيحاء النّور بكلّ ماهو مقبول ثقافيّا، وإيحاء العتمة بكلّ ماهو مرفوض ثقافيّا، فإنّ اللّافت للنّظر أنّ الجسم البشريّ المعتم يقف في المسافة الفاصلة بينهما، ممّا يوحي بالاسترسال بين العالمين، فترتيب عناصر الصّورة داخل الإطار هو أيضا خيار تكوينيّ محمّل بفكرة، واختيار الحدّ الفاصل بين عوالم النّور والوضوح، وعوالم العتمة والغموض، ليتحيّزه الجسم البشريّ المعتم الّذي جعلته اللّقطة المختارة يقف بين امتدادين، أحدهما أمامه، والآخر خلفه، يوحي بحركة هذا الجسم جيئة وذهابا بين الامتدادين، ويضعنا أمام دلالات الازدواج، والاسترسال بين الأضداد، والسّيولة الّتي أوحى بها مسيل الماء الآسن الّذي يشقّ الزّقاق المعتم؛ وللتّأكيد على معنى الاسترسال بين الامتدادين اختار المصوّر عدم طمس خلفيّة الصّورة الّتي كانت واقعة في منطقة النّور والوضوح أو تعتيمها، وبإدراكه لكلّ هذه الخيارات، يستدعي القارئ/المبصر كلّ الأسس الاجتماعيّة، والثّقافيّة، والتّاريخيّة، المجتمعة في ذهنه، وينزاح بالصّورة من مكانها الأصليّ، إلى مكان آخر تصنعه مخيّلة القارئ/المتلقّي، وفي هذا المكان الجديد، يتحوّل التّباين الشّديد بين النّور والعتمة، وتوسّط الجسد المعتم لعالميهما، إلى علامة، لا على صراع بين الخير الصّلب والشّرّ الصّلب، كما هو شأن صراع الأساطير القديمة، وإنّما إلى علامة على تستّر الشّرّ بالخير، وتحوّله إلى شرّ ما بعد حداثيّ، سائل، يتزيّى بزيّ المهامّ النّبيلة، إنّ الصّورة تحكي حكاية كلّ النّوايا الطّيّبة، والشّعارات البرّاقة، والمهامّ الخلاصيّة، الّتي تخفي خلف بريقها، ونورها، ونبلها، أشدّ أنواع الشّرور خطرا، وهي خطيرة لأنّها شرور تلوذ بالنّوايا الخيّرة كلّما حاولنا تجريمها، فإذا هي شرور لا شكل لها، ولا اسم لها، ولا يمكننا القبض عليها، ولا إلقاؤها في السّجن؛ وبالتّقابل بين النّور والظّلّ، يرمي مرسل الرّسالة البصريّة بمتقبّلها في عوالم الموضوعات المركّبة من ثنائيّات متصارعة، وهو ما يحيلنا على معنى الازدواج في كلّ شيء، ويرمي بنا في عوالم الاسترسال بين الوعي واللّاوعي، والخير والشّرّ، والمقدّس والمدنّس، والعدالة والانتقام، والحريّة والفوضى؛ إنّه يقف فعلا في منطقة البين-بين، ممّا يستدعي إلى الذّهن معاني اللّاتمايز، واللّايقين، والنّسبيّة، الّتي تطال كلّ شيء حتّى الحقائق والقيم.   

وكما نجح التّباين بين النّور والظّلمة في قدح زناد التّأويل، والإمساك بدلالات الفضح، والكشف، والتّنبيه، والاسترسال بين الأضداد، فإنّه يرسل المتلقّي أيضا نحو دلالة التّوظيف، ونقصد بالتّوظيف زحزحة الرّواية لكلّ الأحداث الواقعيّة الّتي تحصل في تلك الرّقعة الأرضيّة الّتي حدّدتها لسانيّا (بغداد) وبصريّا (صورة زقاق من أزقّة حيّ البتاوين ببغداد)، نحو عوالم اللّامعقول (بدءا بالكذب، والغريب، والعجيب، ووصولا إلى الجنون والعجائبيّة) الّتي ستوظّفها الرّواية من أجل الإمساك بالحقيقة، فالجسد المعتم يمكن أن يكون تمظهرا للجسد الفيزيائيّ، ولكنّه يمكن أيضا أن يتحوّل إلى فكرة أو فلسفة أو علامة على شعريّة الغموض، وعلى العجائبيّ الّذي يعيش على الحدود بين الواقع والخيال، ويشبه الجسم المعتم في أنّه لا اسم له، لأنّه لا هويّة واضحة له، وفي الإقامة على التّخوم، والاسترسال بين العوالم المعقولة (ما يضبطه العقل بنوره ووضوحه) واللّامعقولة (ما يخرج عن المضبوط ويدخل في مجال الغموض والعتمة والمجهول)؛ وهكذا تتحوّل الصّورة إلى دالّ مدلوله توظيف الرّواية للّامعقول الفنّيّ الّذي برعت فيه بغداد منذ زمن بعيد من أجل الكشف عن اللّامعقول المتجسّد في واقع العراقيّين اليوميّ.

سيميائيّة غياب الإطار (le cadre):

نقصد بالإطار الحدود المادّيّة المضبوطة لكلّ صورة، فلكلّ صورة حوافّ مادّيّة تضبطها وتسيّج الحقل المرئيّ للتّمثيل، الّذي يسعى المصوّر إلى إبرازه وجذب بصر المتلقّي نحوه، فيكون الإطار تقنية لعزل هذا الجزء الممثّل من العالم عن بقيّة الموجودات فيه، بغية ضبط الرّسالة البصريّة الّتي يحملها، وتقييدها، واستبعاد كلّ ما يشوّش عليها؛ غير أنّ النّاظر إلى صورة غلاف الرّواية المدوّنة سيلحظ طمسا للإطار، وذلك من خلال إدماجه مع حوافّ صفحة الغلاف، وقد نجح هذا الاختيار الـتّقنيّ في خلق الانطباع بأنّ هذه الصّورة تبدو كما لو أنّها غير مكتملة ومقطوعة، وأنّ حجمها يتجاوز حجم الحامل الورقيّ le support))، وترى مارتين جولي (Marthine July)([44]) أنّ غياب الإطار عن الصّورة يؤدّي إلى قيام صورة منزاحة عن المركز (centrifuge)، ويدفع المتلقّي إلى بدء عمليّة بناء تخييليّ لما لا يراه ضمن الحقل المرئيّ للتّمثيل البصريّ (le champ visuel) لما هو واقعيّ، فغياب الإطار سيحفّز نشاط التّخييل
في ذهن المتلقّي، استدعاء لذلك الجزء اللّامرئيّ الّذي ظلّ خارج إطار الصّورة
(
le hors champ)، ولكنّه ضروريّ ليكمل ما فيها من معنى، ما دامت مفتوحة وغير مسيّجة بإطار، فالصّورة في هذه الحالة وحدة تركيبيّة تحتاج إلى ما قبلها وما بعدها من الوحدات التّركيبيّة حتّى تتحوّل إلى وحدة معنويّة تامّة.

وإذا عدنا إلى صورة غلاف الرّواية المدوّنة، وجدناها فعلا صورة تولّد الانطباع بعدم اكتمال المشاهدة، وبوجود علاقات تربط هذه الصّورة بما يقع على يمينها وما يقع على يسارها مكانا، وما يقع قبلها وما سيأتي بعدها زمانا؛ فإذا كانت صورة الغلاف، في مستواها التّعيينيّ، تمثيلا لحياة مهمّشي زقاق7 من حيّ البتاوين البغداديّ، فإنّها تحضر باعتبارها مجاز جزء من كلّ، يصبح فيه زقاق7 حلبة صراع مصغّرة يمكن لحامل فيلميّ أو ورقيّ أن يستوعبها، ولكنّها ليست في الحقيقة إلّا عيّنة من حلبة صراع أكبر داخل العراق، فما يحدث في زقاق7 من لاتمايز عنفيّ، وتشوّه أخلاقيّ، وتآمر مع النّعرات الطّائفيّة، والثّأر، والانتقام، والكراهية، والتّسلّق، والانتهازيّة، وموت للشّعور، وانعدام للضّمير، هو عينه ما يحدث على مستوى رقعة أوسع هي العراق بمؤسّساته السّياسيّة، والأمنيّة، والقضائيّة، والاقتصاديّة، والثّقافيّة، ولأنّ الخراب متشابه هنا وهناك، يمكن لصورة جسد معتم في مدخل زقاق مظلم، رغم إحالتها على تشابه ظاهريّ مع الموضوع الّذي تحضر باعتبارها نسخة محقّقة عنه، أن تسرد حكاية عراق تائه يبحث عن هويّة، وحكاية عراقيّين اختاروا العتمة وهم يظنّون أنّهم واجدون طريق النّور؛ وهكذا يسمح غياب الإطار بقدح زناد التّخييل، وقياسا على ما يجري في زقاق7 من حيّ البتاوين ببغداد، يمكن للمتلقّي أن يتخيّل ما يحصل في كلّ شبر من العراق الّذي اختار، ساسة وشعبا، الدّخول في المتاهة.

ولا يحيلنا تيه الجسد المعتم البتاوينيّ على تيه عراق داخل حلبة صراع طائفيّ معتم فحسب، وإنّما يرسلنا أيضا، من خلال اختيار التقاطه وحيدا ومعزولا في مكان خرب، مهمّش، مائل، ينذر بالسّقوط، إلى تجريم الدّولة، وتحميلها مسؤوليّة التّهميش، والتّشوّه، والطّمس، والعنف، الّتي كانت سمات الجسد الملتقط، فماذا عسى السّلطة السّياسيّة الّتي تخلّت عن مهمّة حماية المواطن، وعن توفير الحياة الكريمة، والأمن والأمان، له، وانخرطت في صناعة الخوف والرّعب، بالاستثمار في الانقسامات، والثّارات، والكراهية، أن تجني غير مواطنين يرتدّون إلى أقصى أقاصي الظّلمة، يبحثون فيها عن أشدّ الأسلحة بدائيّة، وأكثرها وحشيّة، من أجل تأمين الأمان الشّخصيّ، وضمان البقاء؛ إنّ هذه الرّوح التّائهة العنيفة، الّتي لا هويّة لها، هي نتيجة حتميّة لسلطة سياسيّة خذلت منتخبيها، وعلى القارئ المتلقّي أن يعمل خياله ليكتب بداية القصّة، مادامت نهايتها تحيل عليها، وبوضوح.

وليست هذه الرّوح المسحوقة الّتي تقف في مدخل المتاهة ضحيّة سلطة عراقيّة فحسب، وإلّا لما استعار لها الرّوائيّ العلامة اللّسانيّة "فرانكشتاين"، إنّها ضحيّة صراعات كبرى عالميّة تخاض من أجل النّفط، تحت غطاء محاربة الدّكتاتوريّة، ومنع استعمال الأسلحة النّوويّة المحظورة عالميّا؛ فمن أجل نفط العراق، استثمرت أمريكا في الطّائفيّة، واللّامعقول، وغذّت العنف، وزرعت الإرهاب، فروّعت النّفوس، وأحيت فيها كلّ ما اعتقدت الحداثة أنّها استبعدته، ويمكن للقارئ أن يستدعي كلّ ذلك الصّراع اللّامرئيّ في مجال الصّورة، ولكنّه جزء لا يتجزّأ من دلالتها.

وإذا كان مسيل الماء في الصورة الغلافيّة يدرك باعتباره خطّا عموديّا يقسم الزّقاق إلى نصفين، نصف خالٍ من الجسد المعتم، ونصف يجثم فيه الجسد المعتم بكلّ ثقله، وإذا كانت الخطوط العموديّة في سنن الصّورة دالّا مدلوله الفصل بين الماضي والحاضر (بينما تدلّ الخطوط الأفقيّة على الفصل بين الأعلى والأسفل والسّماء والأرض)، أدرك المتلقّي أنّ دلالة المسيل العموديّ لمجرى الماء هي دلالة التّحوّل الّذي طرأ على المكان بحلول فرانكشتاين فيه، حاضرًا؛ إلّا أنّ خراب الجانب الأيمن من الصّورة، المحيل على الماضي، يولّد الحيرة والسّؤال عن سببه، ممّا يجعل القارئ ينزاح عن المرئيّ، ويتخيّل اللّامرئيّ الّذي لا يمكن للصّورة أن تصبح مكتملة الدّلالة إلّا باستحضاره، فاختيار حيّ البتاوين اليهوديّ ليكون إطارا مكانيّا حاضنا لتيمة التّيه لا يمكن ألّا يحرّك الانفعال النّفسيّ المرتبط بتيه الأقلّيات الدّينيّة، وتهجيرها القسريّ من داخل العراق إلى خارجه (الفرهود)، أو من خارج العراق إلى داخله (التّيه البابليّ)، إنّ اللّامرئيّ هو تاريخ سرديّات من التّهجير والتّيه في رقعة أرضيّة لطالما تلبّست فيها الهويّة بالدّم، ولطالما عاشت على وقع انهيار الإمبراطوريّات وقيامها، ولا يمكن لماضٍ مليء بالحقد، والقتل، والسّبي، وتشويش الهويّات، إلّا أن يفجّر انتظارات الثّأر الّتي سيضطلع بها دانيال/الشّسمه؛ وهكذا تتجاوز الصّورة المرئيَّ فيها إلى اللّامرئيّ، واللّحظة الحاضرة الّتي تسجّلها إلى كلّ ما جاء قبلها، لتقول إنّنا في رقعة أرضيّة لا شيء فيها يموت، وإنّ الماضي منها يفعل في حاضرها، وبشدّة.

وكما استحضر القارئ/المتلقّي اللّامرئيّ السّابق والمزامن لما تعرضه الصّورة الفوتوغرافيّة المطبوعة على غلاف الرّواية، فإنّ مستقبل الحكاية اللّامرئيّ هو أيضًا ممّا تستحثّه الصّورة عليه، إنّ صورة الغلاف تأتي رجًّا لذهن المتقبّل، وتنبيها له من مستقبل عدميّ ينهار فيه كلّ شيء دفعة واحدة، فماذا عسى المستقبل أن يكون إلّا خرابًا، وانهيارا، وسقوطا يوحي به ميل جدران مباني الزّقاق، بعد تراكمات من الصّراعات، وسرديّات الثّأر والانتقام من جريمة تدّعي في كلّ مرّة أنّها انتقام من جريمة أكثر منها أوّليّة، فلئن استطاع العراق الصّمود بعد تهجير اليهود، أو هكذا توهّم العراقيّون، فإنّ الوضعيّة المائلة المقصودة لمباني الزّقاق توحي بفقدان الاتّزان، وتعطي إحساسا بالتّوتّر، وتنبئ بالسّقوط القريب الّذي سيكون نتيجة حتميّة لاستهداف أصل آخر من أصول العراق، هو الطّائفة المسيحيّة؛ وبحسن توظيف المصوّر للتّأثير النّفسيّ الّذي توحي به الخطوط للرّائي([45])، استطاع أن يجعل الصّورة تتجاوز حديثها عن الرّاهن، لتصبح حديثا عن المستقبل، وتتجاوز بذلك صفة الافتقار إلى السّيولة في الزّمن، وإلى انسيابه المستمرّ من لحظة إلى أخرى، باعتبارها محاولة إمساك بالحدث وتجميده في لحظة بعينها، لتصبح صورة عابرة للأزمنة، يقيم راهنها علاقات وثيقة مع ماضيها، وينبئ ماضيها وراهنها بمستقبلها.

خاتمة:

لقد استطاعت الصّورة الفوتوغرافيّة، ذات الوظيفة التّسجيليّة بالأساس، أن تتجاوز، وهي على غلاف الرّواية المدوّنة، البعد التّماثليّ المحاكي فيها، لتصبح بَنْيَنة([46]) (structuration)، لا مجرّد بنية جامدة، وتَدْلالا (signifiance)، لا مجرّد دلالة ما قبليّة جاهزة، وذلك بما مارسه المؤوّل من نشاط تأويليّ تمّ من خلاله الرّبط بين ما تقدّمه الصّورة من محفّزات، وما راكمته التّجربة الإنسانيّة من تجارب، ومعارف، وخبرات، ونجح القارئ/المبصر المنتج في تفعيل الرّسالة الثّالثة (le troisieme message) فيها، على حدّ تعبير رولان بارت، وذلك من خلال ربطه بين سنن الصّورة الفوتوغرافيّة، والسّنن الثّقافيّ العامّ، الّذي تشارك الصّورة النّسق اللّغويّ داخل المتن في الانتماء إليه.

وباشتراكهما في السّنن الثّقافي العامّ، نجحت الرّواية بتثبيج المنطوق بالبصريّ في عضد الدّلالة المضمونيّة لعلاماتها اللّغويّة، وفي تقوية قدراتها الدّلاليّة ومضاعفتها، وهو ما جعل الصّورة الفوتوغرافيّة تتحوّل إلى هويّة للرّواية، تنوب عنها نيابة البدل عن المبدل منه، وهو ما يجعل هذه الصّورة التّمهيديّة الّتي تختزل كلّ تيمات المتن، في حالة نسيان الأثر، "تطلب من القارئ تركيب النّصّ اعتمادا على ذاكرتها"([47])، فيعمل كلّ شيء، كما لو أنّ النّصّ كان منقوشًا على نسخة بصريّة طبق الأصل من النّسخة اللّغويّة، وتعكس هذه الصّورة البصريّة المستنسخة عن الصّورة اللّغويّة صدى الجهاز البصريّ الّذي يترأّس الكتابة، ودوره في حمايتها من النّسيان، واستحضار عوالمها في اللّحظة المرجوّة، وقد وفّقت الرّواية في ترسيخ هذه الدّلالات في وعي المتقبّل من جهة أخرى، موظّفة في ذلك قدرة الصّورة (البصريّ) على ترسيخ الرّسائل وتثبيتها، وأسهم تلوين السّرد اللّغويّ بالسّرد البصريّ في إمداد خيال القارئ بالقوّة، وفي بثّ الطّاقات الإيحائيّة الّتي ستبني السّيناريوهات الممكنة، فلا يبقى على المتن اللّغويّ إلّا أن يؤكّدها، أو يعدّل من جموحها، وهكذا تجاوز الصّوريّ البصريّ المتصدّر للمتن اللّغويّ وظيفة الحلية أو الزّينة، ليتحوّل إلى مبدأ تنشيطيّ نشّط البصر وحفّزه على مسح المشهد الملتقط بحثًا عن العلامات ونشّط عمليّة الإدراك من خلال ربط تلك العلامات بالخطاطات الّتي أمدّتنا بها التّجربة الإنسانيّة بحثا عن الدّلالات، ونشّط عمليّة التّخييل استحضارا للّامرئيّ السّابق واللّاحق للّحظة الرّاهنة المسجّلة.

 


المصادر والمراجع

الإرساليّة الإشهاريّة، التّوليد والتّأويل، سعيد بنكراد، مجلّة علامات، العدد 5، 1996.

بحوث في الرّواية الجديدة، ميشال بوتور، ترجمة: فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، ط3، بيروت،  1986.

التّجريب المسرحيّ، أحمد سخسوخ، مطابع هيئة الآثار المصريّة، د.ط، مصر، 1989

التّجريب في الإبداع الرّوائيّ ضمن كتاب الرّواية العربيّة ممكنات السّرد، صلاح فضل، أعمال النّدوة الرّئيسيّة لمهرجان العرين الثّقافيّ الحادي عشر، ديسمبر2004، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2006.

التّحليل الموضوعيّ للصّورة الصّحفيّة، الأسس والتّطبيقات، أحمد عبيد، دار العربيّ للنّشر، ط1، 2016.

التّذوّق والنّقد الفنّيّ، أحمد رفقي عليّ، المفردات للنّشر والتّوزيع والدّراسات، ط2، الرّياض، 1998.

التّصوير الصّحفيّ الفيلميّ والرّقميّ، سعيد غريب النّجّار، الدّار المصريّة اللّبنانيّة، ط1، القاهرة، 2008.

التّواصل الثّقافيّ للصّورة المرئيّة، محمّد سالم سعد اللّه، كلّيّة اللّغات، جامعة المدجينة العالميّة، ماليزيا.

الحساسيّة الجديدة، مقالات في الظّاهرة القصصيّة، ادوارد الخرّاط، دار الآداب، ط1، بيروت.

حياة الصّورة وموتها، ريجيس دوبري، ترجمة: فريد الزّاهي، أفريقيا الشّرق، المغرب، 2002.

الرّواية العربيّة ورهان التّجديد، محمّد برادة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، د.ط، القاهرة، 2012.

الرّواية في القرن العشرين، جون إيف تادييه، ترجمة: محمّد خير البقاعي، مكتبة الأسرة، ه.م.ع للكتاب، د.ط، القاهرة، 2006.

الصّورة الإشهاريّة وآليّات الإقناع والدّلالة، سعيد بنكراد، المركز الثّقافيّ العربيّ، ط1، 2009.

الصّورة في الخطاب الإعلاميّ: دراسة سيميائيّة في تفاعل الأنساق اللّسانيّة والأيقونيّة، بشير إبرير، ضمن الملتقى الدّوليّ الخامس "السّيمياء والنّصّ الأدبيّ"، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بفاس، 2009.

عصر الصّورة السّلبيّات والإيجابيّات، شاكر عبد الحميد، منتدى سور الأزبكيّة، عالم المعرفة، ع311

فرانكشتاين في بغداد، أحمد سعداوي، منشورات دار الجمل، ط10، 2014.

الفوتوغرافيّة المفاهيميّة كمدخل لتصميم موادّ الإعلان الثّابت، أسماء عادل حسين، رسالة دكتورا، كلّيّة التّربية الفنّيّة، جامعة حلوان، 2016.

الفيلم بين اللّغة والنّصّ: مقاربة منهجيّة في إنتاج المعنى والدّلالة السّينمائيّة، علاء عبد العزيز السّيّد، منشورات وزارة الثّقافة، المؤسّسة العامّة للسّينما في الجمهوريّة العربيّة السّوريّة، دمشق، 2008.

الكتابة الرّوائيّة بحث دائم، ضمن كتاب الرّواية والواقع، ناتالي ساروت، ترجمة: رشيد بن حدو، منشورات عيون المقالات، الدّار البيضاء، 1988.

مدخل إلى سيميائيّة الإعلام، جوناثان بينغل، ترجمة: محمّد شيا، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر، ط1، بيروت، 1987.

الملحمة والرّواية، ميخائيل باختين، ترجمة: جمال شحيد، معهد الإنماء العربيّ، د.ط، بيروت، 1982.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Kaynakça / References

Adam (Jean Michel), l’argumentation publicitaire, rhetorique de l eloge et de persuasion, l analyse des divers aspects du discours publicitaires, ed Armand colin, 2005. 

Al 7asasiatu al jadidatu, Ma9aletun fi adhahirati al 9asasiyati, Idward Al Kharrat, Dar al aadaab, T1, Beyrout.

Al bou7outhou fi al riwayati al 3arabiaty, Michel Butor, Tarjamatou : Farid Antouniuss, Manchouratu 3widet, T3, Beyrout, 1986.

Al film bayna alloughati wannassi : Mou9arabatun manhajyatun fi intaji al ma3naa waddalalaty assimia2iaty, 3alaa2 3abdel3aziz Assayed, Manchouratu wizarati atha9afaty, Al mou2assasatou al 3ammatou lissinima fil joumhouriaty al 3arabiaty assouriati, Dimash9, 2008.

Al foutoughrafiatu al mafahimiatou kamadkhalin litasmimi mawadi al i3lani al thabiti, Asma2 3adil 7usin, Risalatu douktourah, koulliatou attarbiyati al fanniati, Jami3atu 7oulwan, 2016.

Al irsaliyatu al ishhariatou : attawlidu wa atta2wilu, Sa3id Ben Krad, majallatu 3alaamat, al 3adad 5, 1996.

Al kitabatu al riwayatu ba7thun da2imun, Dhimna kitabi al riwayatou walwa9i3Au, Nathlie Sarraute, Tarjamatu : Rachid Ben 7addou, Manchourat 3ouyounu al ma9alet, al Dar al baydha, 1988.

Al riwayatu al 3arabiyatu wa rihanu al tajdidi, Mohamed Barrada, Al hay2atu al misriatu al 3ammatu lilkitab, Al 9ahira, 2012.

Al riwayatu fi al9arni ah3ichrini, Jhon Ives Tadier, Tarjamatou : Mohamed Khayri al Bi9a3i, Maktabatu al ousrati, al 9ahira, 2006.

Almal7amatou wa alriwayatou, Mikhail Bakhtine, Tarjamatou : Jamel CHa7id, Ma3hadou al inma2i al 3arabi, Beyrout, 1982.

Asrou assourati : al ijaabiyatou wassalbiyatu, Chaker 3abdil7amid, Mountada sourou al azbakiati, 3amamou al ma3rifaty, n311.

Assouratu al ishhariatu wa 2aaliatu al i9na3i wa addalalati, Sa3id Ben Krad, Al markazu al tha9afiwu al 3arabiwu, T1,2009.

Assouratu fi alkhitabi ali3lami : Dirasatun simiayatun fi tafa3uli alansa9i allisaniati wa alay9ouniati, Bachir Ibrir, manchouratu koulliati aladaabi wa al3ouloumi al insaniati, fass, 2009.

Atta7lilou al mawdhou3iou lissouraty assou7oufiaty, al osousou wattatbi9atu, A7med 3bid, Dar Al 3arabiwu linnachri, T1, 2016.

Attadhawou9ou wanna9dou al fanniwou, Ahmed Rif9i Ali, Al moufradatu linnachri wattawzi3i waddirasaati, T2, Arriadh, 1998.

Attajribu al masra7iyou, A7med Sakhsoukh, Matabi3u hayati al aathar al misriya, Masr, 1989.

Attajribu fil2ibda3i arriwa2iou, dhimna kitab : Arriwayatou al 3arabiyatou moumkinatou assardi, Sala7 Fadhl, Al majlisou al wataniyou litha9afati walfounouni wal2adaabi, Al kouwait,  2006.

Attaswirou assou7oufiwou alfilmiwou warra9miwou, Sa3id Gharib Annajjar, Addar almisriatu alloubnaniatou, T1, Al 9ahiratu, 2008.

Attawasoulu atha9afiwu lissourati al mar2iaty, Mohamed Salim SAA3dallah, koulliatu alloughati, Jami3atu almidjinati al 3alamiatu , Malizia.

Barthe (Roland), le message photographique, in communications, T1, 1961.

Barthe (Roland), rethorique de l image, in communications, n4, Paris, Seuil, 1964.

Bernard Vouilloux, la peinture dans le texte, Paris, CNRS Editions, 1994.

Blackeman (Bruno), les fictions singulieres, etudes sur le roman français contemporain, Paris, pretexte editeur, 2002.

Call-Gruber (Mireille), histoire de la littérature fancaise au 20 eme siecle, H.Champion, 2001.

Didi-Huberman (George),  L’image ouverte:motifs de l’incarnation dans les arts visuels,Gallimard, 2007.

Eco (Umberto), la structure absente, introduction àla recherche semiotique, Mercurede, France, 1972.

Frankeshtein fi Baghdad, Ahmed Sa3daawi, manchourat Dar al Jamal, t10, 2014.

Guignard (Pascal), petits traités, paris, guallimard, coll. « folio », 1999.

Hayatou assourati wa mawtouha, Régis Debray, Tarjamatou : Farid Azzahi, Afriquia Ashar9, Al Maghreb, 2002.

Huglo (Jean Marie), le sens du recit,Villeneuve d’Aseq, presse universitaire du septentrion, coll « perspectives », 2007.

Joly (Marthine), introduction a l’analyse de l’image, ed Nathan universite, 1993.

Louvel (Liliane), l’œil du texte, texte et image, dans la littérature de langue anglaise, Toulouse, Presses universitaires du Mirail, coll. « interlangues litteraires », 1998.

Louvel (Liliane), le tiers pictural, pour une critique intermediale, Rennes, presses universitaires de Rennes, coll « interferences », 2010.

Madkhaloun ila simya2iati al i3lam, Jonathan Pinguel, Tarjamatou : Mohamed Chia, Al mou2assasatu al jami3iatu liddirasati waannashri, T1, Beyrout, 1987.

Matlin (Margaret), la cognition, une introduction a la psychologie cognitive, traduction de la 4ème edition americaine par Alain Brossar, Paris, DE BOECK universite, 2001.

Peyre (Yves), Peinture et poesie: dialogue par le livre Porcher( Luis), introduction a une semiotique des images, ed credif ? 1987.

Vetter (Anne Marie), Quel lecteur pour le livre d’artiste ?, dans Montserrat prudon (dir) peiture et ecriture2. Le livre d’artiste, Paris, la difference/unisco, 1997.

Vouilloux (Bernard), la peinture dans le texte ? Paris, CNRS Editions, 1994.

 

 



([1]) الملحمة والرّواية: 19.

([2]) بحوث في الرّواية الجديدة: 85.

([3]) التّجريب في الإبداع الرّوائيّ والفنون والآداب: 85.

([4]) الحساسية الجديدة، مقالات في الظّاهرة القصصيّة: 8-9.

([5]) الرّواية في القرن العشرين: 159.

([6]) الكتابة الرّوائيّة بحث دائم، ضمن كتاب الرّواية والواقع: 25.

 ([7])le sens du recit, p24.

([8]) عصر الصّورة السّلبيّات والإيجابيّات، ع311.

([9]) التّواصل الثّقافيّ للصّورة المرئيّة:1.

([10]) الصّورة في الخطاب الإعلاميّ، دراسة سيميائيّة في تفاعل الأنساق اللّسانيّة والأيقونيّة:51.

 ([11])le message photographique, p11.

([12]) بنيويّة مدرسة براغ: من الشّكلانيّة إلى ما بعد البنيويّة:59.

([13]) كان على كتّاب الرّواية الواقعيّة في القرن 19 أن يتمتّعوا بحدّة بصريّة تمكّنهم من خلق التّأثير الخاصّ بالواقع. فسار إميل زولا على هدي النّموذج الّذي اقترحه عالم الفيزيولوجيا الوضعيّ كلود برنار، وكتب روايات تقوم على أساس الملاحظة والتّجريب لا على أساس الخيال، وأصبحت الرّواية على حدّ تعبير ستاندال "تمسك بمرآة أمام الطّبيعة".

([14]) histoire de la littérature fancaise au 20 eme siecle, dans images et imaginaires cinematographiques dans le recit francais ( de la fin des annees 1970 a nos jours), p68.

 ([15]) le roman connait la chanson, dans images et imaginaires cinematographiques dans le recit francais (de la fin des annees 1970 a nos jours), p18.

 ([16])les fictions singulieres, etudes sur le roman français contemporain, p7.

([17]) الرّواية في القرن العشرين:159.

([18]) هذا الفصل السّيميائيّ الحاسم والصّارم بين الكلمات (les mots) والصّور (les images) يظهر في الكثير من الخطابات النّقديّة المعاصرة، ومن أهمّها وأكثرها صرامة خطاب باسكال قينيار (Pascal Gaignard) الّذي عدّد في مؤلّفه () وفي قسم محدّد منه معنون بعنوان هو "في العلاقات الّتي لا يعقدها النّصّ مع الصّورة" الصّفات الّتي تؤكّد استحالة الجمع بين النّظامين العلاميّين من قبيل القول أنّ العلاقة بين الصّور والكلمات لاتواصليّة (incommunicable)، لامزجيّة (immiscible لااختراقيّة، منيعة (impenetrable)، منفصلة (separee لاتكديسيّة (insuperposable انظر:

 petits traités, p134-135.

([19]) حياة الصّورة وصوتها:92

([20]) le tiers pictural, pour une critique intermediale, p24

([21]) Ibid, p2

([22]) Quel lecteur pour le livre d artiste ?, p 287

([23]) Peinture et poesie: dialogue par le livre, p 68.

([24]) L’image ouverte, p26

([25]) سيميائيّات الصّورة بين آليّات القراءة وفتوحات التّأويل:146-147.

([26])"فرانكشتاين" الّذي يتصدّر العنوان هو من الأسماء الّتي ستطلق في الرّواية المدوّنة على المسخ البغداديّ المصنوع، وليس على الصّانع، وهذا الانزياح باللّقب "فرانكنشتاين" الّذي أطلقته ماري تشيلي في الرّواية الطّرس على الشّاب "فكتور فرانكنشتاين"، لتسمية المسخ المصنوع، لم يتمّ إلّا في السّينما، وهو ما يؤكّد أنّ أحمد سعداوي يمتح من المخيّلة السّينمائيّة مثلما يمتح من المخيّلة السّرديّة.

 ([27])la peinture dans le texte ?, p16

 ([28])l œil du texte, texte et image, dans ‘la littérature de langue anglaise, litteraires », p158.

([29]) la peinture dans le texte, p7.  

([30]) التّحليل الموضوعيّ للصّورة الصّحفيّة، الأسس والتّطبيقات: 18.

([31]) التّصوير الصّحفيّ الفيلميّ والرّقميّ:32.

([32])يرى سوزان سونتاغ أنّ الصّورة الفوتوغرافيّة ليست "مجرّد صورة (كما تقول عن لوحة زيتيّة أنّها صورة) ولا هي تفسير للواقع فحسب، بل هي أثر منه أيضا، إنّه شيء يطبعه الواقع مباشرة مثلما تنطبع آثار الأقدام على الرّمال أو أقنعة الموت على قالب الشّمع" انظر: الفيلم بين اللّغة والنّصّ: مقاربة منهجيّة في إنتاج المعنى والدّلالة السّينمائيّة.

([33]) مدخل إلى سيميائيّة الإعلام:28.

([34])rethorique de l image, in communications, n4, p49.

([35]) الإرساليّة الإشهاريّة، التّوليد والتّأويل، مجلّة علامات، العدد 5: 59.

([36]) الفوتوغرافيّة المفاهيميّة كمدخل لتصميم موادّ الإعلان الثّابت: 102.

 ([37])l’argumentation publicitaire, rhetorique de l’eloge et de persuasion, l’analyse des divers aspects du discours publicitaires, p 178.

([38]) la cognition, une introduction a la psychologie cognitive, traduvtion de la 4eme edition, p51.

([39]) فرانكشتاين في بغداد: 271-272.

(1) la structure absente, introduction a la recherche semiotique, p176.

([41]) الصّورة الإشهاريّة وآليّات الإقناع والدّلالة:38.

([42]) يرى الباحث لويس بورشي أنّ شكل ونوع الطّباعة المعتمدة يبدوان أنّهما يمتلكان ملاءمة سيميولوجيّة ما، انظر:

 Luis Porcher, introduction a une semiotique des images, ed credif ? 1987, p195

([43]) يذهب إيتيان بويسنس في كتابه "la communication et l articulation linguistique " إلى أنّ "للغتنا دلالة مزدوجة. امّا الأولى فهي تلك الّتي نعطيها إيّاها إراديّا، وهي تلك الّتي تعلّمناها في المدرسة، والموجّهة لتفهم من قبل المتلقّي لرسالتنا، وأمّا الثّانية فهي تلك الدّلالة الّتي نمنحها لها قسرا، وهي تلك الّتي لم نتعلّمها ويكتشفها عالم الخطّ le graphologue الّذي لا يهمّه مضمون الرّسالة. وتتجسّد الدّلالتان معا في نفس العلامة اللّغويّة. وليس هناك من حلّ لفصل التّجلّي اللّاإراديّ عن التّواصل الإراديّ سوى التّجريد" انظر:

 Luis Porcher, introduction a une semiotique des images , p193

 ([44]) introduction a l’analyse de l’image, p82

([45]) التّذوّق والنّقد الفنّيّ:55.

([46]) تذهب مارتين جولي إلى القول أنّ "جميع هذه الخيارات والمناورات تثبت أنّنا نبني الصّورة ونبني معها دلالتها، في آن واحد" ينظر:

 introduction a l’analyse de l’image ? p112.

 ([47]) loeil du texte, p159-160.