الجاحظ سوسيولسانيا: قراءة في علاقة اللغة بالمجتمع
د. محمد نافع العشيري
جامعة عبد المالك السعدي، المغرب
البريد الإلكتروني: m.laachiri@uae.ac.ma
معرف (أوركيد): 0000- 0002-2342-2519
بحث أصيل |
الاستلام: 9-4-2022 |
القبول: 25-9-2022 |
النشر: 28-10-2022 |
الملخص:
يسعى هذا البحث إلى رصد بعض القضايا السوسيولسانية التي أثارها الجاحظ في كتابيه "البيان والتبيين"
و"الحيوان"، خاصة في الفترة التي عاش فيها، أي من حكم الخليفة هارون الرشيد إلى حكم الخليفة المتوكل،
وفي الأماكن التي تنقل فيها، خاصة مدينتي البصرة وبغداد. فقد انتبه إلى مجمل القضايا اللغوية التي ستثيرها السوسيولسانيات المعاصرة التي عرفت التأسيس الفعلي في الستينيات من
القرن العشرين خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اهتمت أساسا بدراسة علاقة اللغة و المجتمع و
أشكال التفاعل بينهما والمتمثلة في اختلاف اللغات، وتعدد مستوياتها بالنظر إلى اختلاف الطبقات الاجتماعية، والانتماء العرقي والتنوع الجنسي، والتفاوت العمري، وتباين المستوى الثقافي و
التعليمي، وتنوع مقامات الاستعمال، كما اهتمت بخصائص اللهجات ومميزاتها، وظواهر التلاسن اللغوي كظاهرة الازدواجية اللغوية، والثنائية اللغوية، والتعدد اللغوي، وسوسيولسانية المدينة.
الكلمات المفتاحية:
الجاحظ، السوسيولسانيات، اللغة، المجتمع، اللهجة، المكانة الاجتماعية، التداخل اللغوي.
للاستشهاد/ :Atif İçin / For
Citation العشيري، محمد نافع. (2022). الجاحظ سوسيولسانيا: قراءة في علاقة اللغة بالمجتمع. ضاد مجلة
لسانيات العربية وآدابها. مج3، ع6، 347- 380 https://www.daadjournal.com/ /
Al-Jahez as a Sociolinguist
A Reading in the Relationship between Language and Society
D. Laachiri Mohammed Nafie
Assistant
Professor, Abdelmalik Essaadi University /Morocco
E-mail: m.laachiri@uae.ac.ma
Orcid ID: 0000- 0002-2342-2519
Published: 28.10.2022 |
Accepted: 25.09.2022 |
Received: 09.04.2022 |
Research
Article |
Abstract:
This
research aims to investigate some sociolinguistic issues raised by Al-Jahiz in
his two books: Al-Bayan wa Al-Tabeen (Statement and Clarification) and Al-Hayawan (The
Animal), especially during his lifetime ー from the time of Caliph Harun Al-Rashid rein until Caliph
Al-Mutawakkil’s, and in places which he traveled to, mainly the cities of Basra
and Baghdad. He paid attention to all the linguistic issues that would be
raised by contemporary sociolinguistics that was founded in the sixties of the
twentieth century, in the United States of America in particular. Their main concern was studying the
relationship between language and society and the forms of interaction between
them, which is, in turn, represented by language differences at multiple levels
if taking into account social classes, ethnic affiliations, gender differences,
age disparity, cultural and educational variations, and contextual uses.
Contemporary sociolinguistics also focuses on the characteristics and features
of dialects and the phenomena of linguistic debates such as bilingualism,
multilingualism, and urban sociolinguistics.
Keywords:
Al-Jahiz,
sociolinguistics, language,
dialect, society, linguistic interference
Sosyodilbilimci
Olarak CÂHIZ
Dilin Toplumla İlişki Üzerine Bir Okuma
Dr. Öğr. Üyesi. Laachiri Mohammed Nafie
Abdelmalik Essaadi Üniversitesi, Fas
E-Posta: m.laachiri@uae.ac.ma
Orcid ID: 0000- 0002-2342-2519
Yayın: 28.10.2022 |
Kabul: 25.09.2022 |
Geliş: 09.04. 2022 |
Araştırma
Makalesi |
Özet:
Bu araştırma, Câhiz’in özellikle gündeme getirdiği ve
kendisinin yaşadığı dönemde geçen bazı sosyolojik meseleleri incelemeyi
hedeflemektedir. Câhiz modern sosyolinguistikin ele aldığı, dillerin farklılığı, dil seviyelerinin farklı
sosyal sınıflar, ırk, cinsiyet, yaş ve kullanım alanlarına göre çeşitlenmesi,
lehçelerin (diyalekt) özellikleri, Diglossia olgusu, iki dillilik ve kent
(urban) sosyolojisi gibi dil meselelerinin bir çoğuna dikkat çekmiştir.
Anahtar
Kelimeler:
el-Câhiz, Sosyolinguistik, Dil, Toplum,
Lehçe, Sosyal Konum, Dilsel Karışım
تقديم:
لم يحظ كاتب عربي قديم بالاهتمام الذي حظي به أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهذا يرجع في نظرنا
إلى
انشغالاته العلمية والفكرية والأدبية التي مست قضايا دينية وفلسفية وكلامية ومذهبية وأدبية وبلاغية واجتماعية ولغوية وفنية وطبية، كما يرجع إلى ثقافته الموسوعية التي مثلتها بوضوح رسالته في التربيع والتدوير، واهتمامه بالثقافة الشعبية في مختلف تمظهراتها السلوكية واللغوية، ورصد فئاتها
الاجتماعية المتعددة، خاصة فئة البخلاء والقيان
والمعلمين والنساء والبحارة والمشعوذين والمتسولين، إلى جانب أسلوبه المتميز في الكتابة، الذي نحا به منحى مغايرا لما ألفه كتاب عصره، من جزالة العبارة وكثرة الصنعة، إذ اعتمد البساطة، من غير إخلال بالمعنى، مع الإكثار من الشواهد الشعرية والاستطرادات، والخروج عن الغرض الأصلي للموضوعات التي يعالجها، لأسباب بيداغوجية خالصة، كما يوضح ذلك في عدد من كتبه، خاصة كتابه"البيان والتبيين"([1]).
لقد اعتُبر الحاجظ من أبرز دارسي المجتمع العربي في عصره، إذ حلل بنية الثقافة العالمة، فتحدث عن مجالس المناظرة وحلقات العلم، وأشار إلى رموز هذه الثقافة، من علماء وفقهاء ونحاة وبلاغيين ومناطقة وفلاسفة وشعراء وخطباء وكتاب، وخاض في قضايا الكلام والمنطق والتفسير والبلاغة، كما حلل بنية الثقافة الشعبية القائمة على غلبة العاطفة، والإيمان بالخرافات والأساطير، وابتداع أساليب لتفسير الظواهر، كالجن والبركة، والاعتقاد في قدرة بعض الحيوانات والحشرات على جلب السعد وطرد النحس، وتأثير النجوم والكواكب، وغلبة النوادر والحكايات والأمثال في مخاطباتها اليومية.
وقد نالت القضايا اللغوية التي أثارها الجاحظ، خاصة تكلم المتعلقة بالنقد الأدبي والبلاغة، القسط الأوفر من اهتمام الدارسين، سواء أكانوا قدماء أم محدثين، والسبب في ذلك يرجع إلى توجيهاته التي تميزت بالجدة والدقة، ومعاييره الجمالية والحجاجية التداولية التي حددها للأقوال البليغة، بالإضافة إلى توجه الثقافة العربية بعد عصر التدوين، نحو الثقافة العالمة، التي تولدت عنها نظرة طبقية للمعرفة والمجتمع، كما يظهر ذلك في طريقة وضع أصول النحو العربي وتقعيده، وتأسيس البلاغة العربية، وصناعة المعاجم وتطور أشكالها، بالإضافة إلى ما كرسته كتب طبقات فحول الشعراء والنحاة وغيرهم، في مقابل ذلك، هُمّشت الثقافة الشعبية، كما هو واضح في الكتب التي عُنيت بلحن العامة ك"كتاب ما تلحن فيه العامة" لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، و"الفاخر فيما تلحن في العامة" للمفضل بن سلمة، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة، و"المعرب" للجوالقي، و"درة الغواص" للحريري، و"شفاء الغليل في الدخيل" للخفاجي، و"بحر العوام فيما أصاب العوام" لابن الحنبلي الحلبي، و"لحن العوام" لأبي بكر بن حسن الزبيدي الأندلسي، و"الفوائد العامة في لحن العامة" لأبي القاسم بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي، و"المزهر في علوم اللغة" لجلال الدين السيوطي، وهي
كتب كانت تعتبر اللهجات خروجا عن المعيار وخرقا للقواعد الفصيحة.
لقد كان لهذا النسق الفكري الثنائي السائد في الثقافة العربية، انعكاس مباشر على طرق التعامل مع إنتاج الجاحظ وفكره، فأهملت تلكم النظرات الثاقبة لقضايا سوسولسانية، تعكس الواقع اللغوي العربي في علاقته بالمجتمع، إبان الفترة التي عاش فيها، أي في العصر العباسي الممتد من حكم هارون الرشيد إلى حكم المتوكل، وهي العلاقة التي عادت اللسانيات المعاصرة إلى دراستها منذ ستينيات القرن العشرين، تحت مبحث لساني مستقل، هو مبحث السوسيولسانيات.
قبل تحليل الأبعاد السوسيولسانية في كتب الجاحظ، نعرّج في البداية على موضوع هذا العلم وتطوره في الدرس اللساني الحديث، لنقف، لاحقا، عند أوجه المماثلة والمشاكلة بين القضايا التي يطرحها هذا العلم، وبين الكثير من القضايا اللغوية التي آثارها الجاحظ في كتبه، دون أن يعني ذلك الرغبة في المطابقة بينهما، أو إظهار أسبقية العرب في طرق موضوعات معاصرة، بسبب الفرق الزمني، واختلاف الاهتمام الإبستمولوجي، إنما غرضنا هو إغناء الدرس السوسيولساني ببعض المعطيات والملاحظات المهمة، كما رصدها الجاحظ.
1-
العلاقة بين اللغة والمجتمع في الدرس اللساني المعاصر:
لقد انتبه القدماء إلى علاقة اللغة بالمجتمع وضروب التشاكل بينهما، نجد ذلك في ثقافتنا العربية عند ابن جني، في أهم مدخل لدراسة اللغة، وهو مدخل التعريف، يقول:
"اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"([2])، كما نجده عند السيوطي([3])، والفرابي([4]) وغيرهما ممن تحدثوا عن نشأة اللغة وتطورها، حيث ربطوا وجود اللغو بغاية الإعلام أو الاستعلام اللازم للاجتماع ([5]).
يقول السيوطي حكاية عن الكياهراسي: "وقيل إن الإنسان هو المتمدن بطبعه، والتوحش دأب السباع، ولهذا المعنى توزعت الصنائع وانقسمت الحرف على الخلق، فكل واحد قصر وقته على حرفة يشتغل بها، لأن كل واحد من الخلق لا يمكنه أن يقوم بجملة مقاصده، فحينئذ لا يخلو أن يكون محل حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه، فإن كانت حاضرة بين يديه أمكنه الإشارة إليها، وإن كانت غائبة فلا بد له من أن يدل على محل حاجاته، وعلى مقصوده وغرضه، فوضعوا الكلام دلالة، ووجدوا اللسان أسرع الأعضاء حركة وقبولا للترداد"([6]).
ونجد الأسباب نفسها عند الآمدي والرازي وابن مسكويه وابن سيدة والجاحظ، يقول هذا الأخير:
"ولولا حاجة الناس إلى المعاني وإلى التعاون والترافد، لما احتاجوا إلى الأسماء"([7]).
أما الإشارة إلى علاقة اللغة بالمجتمع في العصر الحديث، فترجع إلى عدد من الفلاسفة واللغويين أمثال يوهان هاردر في القرن 18م، وفيلهايم هامبولدت في القرن19م، اللذين كانا يؤكدان على أن اللغة ليست نسقا تواصليا مجردا، بل فعالية تعكس خصائص الفكر من جهة، وخصائص الثقافة وروح الأمة من جهة أخرى([8])، وقد طور اللسانيون الأمريكيون أمثال
"بينيامين وورف" و"إدوارد سابير" هذه الآراء، وصاغاها في إطار نظرية متكاملة، اصطُلح عليها في الأدبيات اللسانية ب"نظرية
الحتمية اللغوية"Determinism
linguistics أو "فرضية وورف-سابير"Whorf-Sapir
Hypothesis، وهي نظرية ترى أن اللغة وعاء يحدد لنا طرائق التفكير ونظرتنا إلى العالم، فنحن نرى العالم الخارجي انطلاقا مما تحدده لنا لغاتها الأم، التي تفصله وتقطعه على مقاسها الخاص، ولهذا توجد اختلافات كبيرة بين اللغات في تقسيم الفضاء الزمكاني، وفي تسمية الأشياء، خاصة المسميات الدالة على الألوان والقرابة والأطعمة وأنواع الرمل وأنواع الثلج([9]).
أما الاهتمام بعلاقة اللغة والمجتمع في الدرس اللساني المعاصر، فقد بدأ مع مؤسس اللسانيات الحديثة، اللغوي السويسري فرديناند دوسوسير الذي اعتبر اللغة ظاهرة اجتماعية بحق، متأثرا في ذلك بتصورات عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دوركهايم" حول العقل والوعي الجمعيين، إذ أكد دوسوسير، بناء على هذه الخلفية، أن اللغة مؤسسة اجتماعية، ونتاج القوى الاجتماعية، كما أن طبيعتها الاجتماعية جزء من خصائصها الداخلية، ولهذا ميز بين اللغة la langue والكلامla parole ، وجعل اللغة مجموعة من المواضعات التي يتبناها الكيان الاجتماعي، ليتمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة ([10])، لكن برنامج البحث المتمركز حول دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها عند دوسوسير، والرغبة في التأسيس العلمي للدرس اللساني، سيؤجل الاهتمام بعلاقة اللغة بالمجتمع إلى وقت لاحق، ويصبح لفظ "اجتماعي"Social عند دوسوسير، مجرد تعدد في الأفراد، ولا يشير البتة إلى الواقع الاجتماعي، كما يرى ذلك وليام ليبوف، ولهذا السبب ستُقصى هذه العلاقة إلى لسانيات الهامش أو اللسانيات الخارجية بتعبير دوسوسير، وسينصرف معظم البنيويين إلى وصف البنيات اللغوية، كما نجد عند مختلف المدارس البنيوية اللسانية، أو وصف البنيات الأنثروبوجية، كما هو الحال عند "ليفي شتراوس"، أو وصف البنيات النفسية، كما نجد عند عالم النفس الفرنسي "جاك لاكان"، أو وصف البنيات الأدبية عند الشكلانيين الروس والسيميائيين، خاصة مدرسة باريس([11]).
لقد كان الاستثناء الوحيد هو موقف شارل بالي، تلميذ دوسوسير، الذي عاكس تصور أستاذه، وصبّ اهتمامه على الكلام، لهذا كان يرى: "أن مشكلة علم اللغة المستقبلية ستكون هي الدراسة التجريبية لوظيفة الكلام الاجتماعية"([12])، لكنه مع ذلك سيحصر دراسة الكلام في الجوانب الأسلوبية المحضة.
سيعود الاهتمام بعلاقة اللغة والمجتمع في الستينيات بشكل ملفت للنظر، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب عوامل عدة، بعضها سياسي، خاصة اضطرابات"هارلم"Harlem التي أججتها الفوراق الاجتماعية الصارخة في المجتمع الأمريكي، والتي ساهم في تفاقمها الوضع اللغوي للسود، الذين كانوا يعانون من غياب العدالة اللغوية في المدرسة الأميركية، لأنها كانت تعتمد صيغة لغوية واحدة في التدريس، هي الصيغة الإنجليزية المعيارية، في مجتمع متعدد اللغات واللهجات، مما كان يحرم أطفال السود وغيرهم من أبناء الطبقات غير المحظوظة اجتماعيا، من التفوق الدراسي، ويدخلهم آليا في دائرة الفقر الجهنمية([13]).
بناء على هذه الأحداث وغيرها، ستعقد مؤتمرات وتنظم ندوات تدور موضوعاتها حول أسئلة السوسيوليانيات الكبرى([14]) من قبيل: من يستعمل هذه المنوعة؟ متى؟ ومع من؟ وفي أية وضعية([15])؟
بعد ذلك، سيتطور هذا المبحث، ليصبح علما مستقلا يدرّس في أغلب الجامعات العالمية الكبرى، بحيث لم يعد أحد قادرا على التشكيك في قانونه الإستيمولوجي، وهذا راجع إلى اعتماده على مقاربات جديدة، وتزوده بالمناهج العلمية الحديثة، واستخدامه الطرائق العلمية والموضوعية في البحث، ووضعه للنظريات، وتحديده لمصطلحه العلمي.
ولا يمكن الحديث عن تطور السوسيولسانيات الحديثة، دون الإشارة إلى إسهامات عدد من الدارسين الروس، خاصة أن الماركسية جعلت علاقة اللغة بالمجتمع في صُلب نقاشها الإديولوجي، إذ يدخل في دائرة أكبر، مرتبطة بطبيعة العلاقة بين البنيات الفوقية والبنيات التحتية، ولربما يرجع هذا النقاش إلى أبعد من ذلك، وبالضبط إلى سنة 1894 م، حينما نشر بول لافارج Paul Lafarge دراسة حول تطور المعجم الفرنسي بعد الثورة الفرنسية([16])، إذ أشار إلى أن فهم الظاهرة اللغوية يقتضي فهم الظروف الاجتماعية والسياسية، والتي تعد مجرد انعاكس لها([17])، وقد ربط ذلك بالتحولات السياسية التي عرفها هذا البلد، وأكد انطلاقا من مجموعة من الأمثلة، على التغيرات العميقة التي عرفها المعجم الفرنسي بعد الثورة، إذ انتقلت اللغة الفرنسية، كما يقول لافارج، من لغة الأرستقراطية إلى لغة الديموقراطية والبرجوازية، وبدأ الكتاب والأدباء يستعملون كلمات المحلات التجارية la
langue de la boutique ولغة الشوارع ضدا على رغبة الأكاديمية، التي ظلت أرستقراطية ومحافظة في توجيهاتها اللغوية، وقد تبنى هذه الأفكار "نيكولاي مار" في بداية القرن العشرين، وصاغ البناء النظري الأبرز للفكر اللغوي الماركسي، خاصة نظريته التي اصطلح عليها ب"النظرية اللغوية الجديدة" la nouvelle théorie du langage التي ترى أن اللغات الإنسانية تنحدر من أصل واحد، لكنها تباينت بسبب الاختلافات الطبقية([18])، لهذا خالف "مار" مبادئ اللسانيات المقارنة والتاريخية، التي ردت كل لغات العالم إلى مجموعة من الأسر اللغوية، كما خالف مبادئ الفلسفة اللغوية الألمانية، خاصة فلسفة همبولدت، التي كانت ترى أن اللغات الإنسانية ظواهر قومية، في مقابل ذلك يرى مار أن: "اللغات كانت مترابطة تاريخيا، لكن ليس في صورة أسر لغوية كما كان شائعا، ولكن عن طريق طبقات تطورية مختلفة التركيب، مترسبة من الامتزاج والتجميع، واللغات ليست ظواهر قومية، ولكنها ظواهر طبقية، وهي جزء من البنيات الفوقية التي تتوافق مع التغيرات في القاعدة الاقتصادية في النظام الاجتماعي للمتكلمين([19])، كما كان يرى أن التطور اللغوي هو نتيجة حتمية للتطور الاجتماعي والاقتصادي، "فتفجير الجماعة الناطقة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، تقتضي أن يزول البناء اللغوي القديم، ويتغير تغيرا جذريا، فاللغة، على هذا الأساس، ظاهرة اجتماعية طبقية"([20]).
لقد ظلت هذه الآراء جزءا من إنجيل الماركسية، قبل أن يعترض ستالين عليها فجأة، خوفا من انهيار النظرية، لسبب بسيط هو أن البنيات الأساسية في اللغة الروسية ظلت قائمة بعد الثورة دون تغيير يذكر، باستثناء المعجم الذي عرف موت عبارات ومصطلحات وكلمات مرتبطة بالنظام القيصري الأرستقراطي، في مقابل ظهور معجم جديد مرتبط بالثورة ومفاهيمها، لهذا رأى ستالين"أن اللغة ليست نتاج فترة زمنية محددة، وإنما هي نتاج المجرى العام لتاريخ المجتمع، والبناء السفلي لعدة قرون، فهي ليست من صنع طبقة معينة، بل هي صنيع كل المجتمع، وكل طبقاته، إنها نتائج جهود مئات من الأجيال، وقد وجدت ليس لسد حاجات طبقة خاصة واحدة، وإنما لسد حاجات كل المجتمع، بكل طبقاته"([21]).
لقد ساهم تطور الدرس السوسيولساني في إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم اللسانية المتداولة في اللسانيات النظرية، كمفهوم القدرة اللغوية، ومفهوم النحوية، ومفهوم الخطاب، وظهرت مصطلحات ومفاهيم أخرى منافسة من قبيل، المقبولية، واللغة الشرعية، والقوة الرمزية، وسلطة الخطاب، والرأسمال الرمزي.
وكان ديل هايمز D. Hymes ووليام لايبوف W. Labov من رواد هذه الثورة، إذ اعتبر هذا الأخير أن السوسيولسانيات هي اللسانيات الحقيقية التي اهتدت إلى طريقها الصحيح، كما رفض التمييز دوسوسير بين اللغة والكلام، وتمييز شومسكي بين القدرة والإنجاز، وأكد في المقابل أن الموضوع الحقيقي للسانيات، هو دراسة اللغة في خضم السياق الاجتماعي([22])، كما رفض فكرة التجانس اللغوي، وهو الموقف نفسه الذي تبناه لاينز لاحقا، حينما تحدث عن خرافة التجانس Fiction of homogenity مؤكدا أن هناك فروقا واضحة في اللكنة Accent واللهجة Dialect في كل الجماعات اللغوية في العالم ([23])، بينما ذهب هايمز إلى التأكيد على وجود قدرة تواصلية تمكن المتكلم المستمع من إنتاج جمل لامتناهية، وفهمها في مختلف سياقاتها الاستعمالية([24]).
2-
الجاحظ سوسولسانيا:
قبل الخوض في إسهامات الجاحظ السوسيولسانية، لابد من تسجيل ملاحظات هامة، أهمها هو غياب النسقية، إذ ورد أغلبها متفرقا في نصوصه وكتبه المتعددة، وظاهرة التشظي هاته، لا تخص القضايا السوسيولسانية التي أثارها، بل تشمل مجمل القضايا التي طرقها، بما في ذلك قضايا البلاغة، الموضوع المركزي في كتاب "البيان والتبين"، إذ أشار أبو هلال العسكري "إلى أن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة، مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرة في أثنائه"([25]).
كما أن رؤية الجاحظ لم تنطلق من خلفية إبستيمولوجية واعية بأهمية الموضوع الذي يعرض له، إذ لو فعل ذلك، لكان من السبّاقين إلى وضع الأصول الأولى لمبحث اللسانيات الاجتماعية أو السوسيولسانيات، كما كان سباقا إلى وضع الأسس الأولى لمبحث البلاغة العربية، خاصة
نظرية النظم، بل كانت هذه الرؤية مجرد استطرادات يفرضها سياق الخطاب، أو توقفات من أجل الترويح عن القارئ، وإذهاب الملل عنه.
ومع ذلك، ومن باب الإنصاف، يمكن اعتبار الملاحظلات التي قدمها الجاحظ بخصوص العلاقة بين اللغة والمجتمع، ملاحظات سابقة لزمانها، ومتفردة في جدتها ودقتها.
أ-
اللغة والوجاهة الاجتماعية عند الجاحظ:
كانت اللغة، وماتزال، وسيلة من وسائل التميّز والوجاهة الاجتماعيينPrestige
Social، فقد اصطنعت الكثير من المجتمعات والطبقات لغات مختلفة للوجاهة، بناء على التصنيفات التي كانت تفرضها الطبقة الحاكمة، إذ ظلت اللغة الإغريقية في الإمبراطورية الرومانية لغة العلم والثقافة، تزاحم اللغة اللاتينية في عدد من المجالات، وكانت اللغة الفرنسية في روسيا القيصرية لغة البلاط والنخبة المثقفة والطبقة السياسية، في حين كانت اللغة الروسية لغة الشعب والطبقات الفقيرة، وقد يكون التمييز الطبقي راجعا إلى اختلاف في استعمال مستويات اللغة، وهو ما عرفه المجتمع العربي، فقد ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) أن:
"كلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات، فمن الكلام، الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسمج والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا، فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل، ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلمَ ذكروا العيّ والبكيء والحصر والمفحم والخطل والمسهب والمتشدق والمتفيهق والمهماز والثرثار والمكثار والهماز"([26]).
لقد كان مدار الوجاهة الاجتماعية في المجتمع العربي العباسي، في أغلب الأحيان، قائما على امتلاك خصوصية لغوية، هي ما اصطُلح عليه بالفصاحة والبلاغة، وهي الوجاهة التي غيرت منظومة القيم الاجتماعية التي سادت في العصر الأموي، والتي كانت تمنح الرأسمال الرمزي للنسب العربي والقبيلة أولا، ثم للفصاحة والبلاغة ثانيا، ويرجع هذا التغير أساسا إلى استخدام العباسيين المكثف للموالي والمولدين، خاصة من الفرس والترك والخراسانيين، في إدارة شؤون الدولة الإدارية والعسكرية، وتهميش العنصر العربي، خوفا من انتقام الأمويين، هكذا ستصبح الفصاحة والبلاغة معيار الوجاهة الاجتماعية، ورأسمالا رمزيا يمكّن من الاقتراب من الطبقات الحاكمة، كمجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، وإلى هذا يشير الجاحظ حين يتحدث عن الوظيفة الاجتماعية للبلاغة، حيث يقول: "لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع"([27]).
وقد يتعدى هذا التمايز مجموعة لغوية صغيرة إلى مجموعة لغوية كبرى، كما هو حال قبيلة قريش التي تميزت، كما يقول الجاحظ، ببلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول([28])، ويرجع هذا الأمر إلى انتقائها من بين باقي اللهجات أجمل الأساليب، وأرق الكلمات، وأعذب الألفاظ.
وقد تتعدى الوجاهة الاجتماعية تنوع اللغات وتعدد مستوياتها، إلى تنوع في استعمال خصائصها الصواتية، إذ تساهم طريقة نطق بعض الفونيمات في تمييز اجتماعي، كما بيّن ذلك وليام لايبوف في دراسته عن التصنيف الاجتماعي لصوت(R) في إنجليزية نيويورك([29])، إذ أكد على أن الاختلافات الصواتية تعكس اختلافا في البنيات السوسيواقتصادية لمستعمليها، وإلى هذا أشار الجاحظ عندما تحدث عن طريقة كبراء القوم في نطق بعض الأصوات، إذ يقول:
"وأما اللثغة في الراء فتكون بالياء والظاء والذال والغين، وهي أقلها قبحا، وأوجدها في ذوي الشرف، وكبار الناس وبلغائهم وعلمائهم"([30]).
وفي مقابل ذلك، تكون بعض الظواهر الصواتية علامة على الوضاعة الاجتماعية، وهي ظاهرة موجودة في العربية، كما يؤكد ذلك الجاحظ، إذ يقول: "واللثغة التي في الراء، إذا كانت بالياء، فهي أحقرهن وأوضعهن لذي المروءة"([31]).
يضاف إلى ذلك ظاهرة اللكنة، التي
كانت عاملا حاسما في الفصل العرقي والطبقي بين العربي وغيره، يقول الجاحظ:
"وقد
يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية المعروفة، ويكون لفظه متخيرا
فاخرا، ومعناه شريفا كريما، ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي،
وكذلك إذا تكلم الخراساني على هذه الصفة، فإنك تعلم مع إعرابه وتخير ألفاظه في
مخرج كلامه، أنه خراساني"([32]).
ب-
اللغة سلوك اجتماعي:
تفرض الحياة ضمن الجماعات أنواعا من السلوكات تتجاوز الفرد، وتتمثل في مجموع القوانين والعادات والتقاليد والأعراف التي تتعالى عن حياة الفرد، وتمارس عليه أنواعا من القسر والإكراه.
ولاتنفك اللغة، باعتبارها مؤسسة اجتماعية ترميزية، عن هذه السلوكات الاجتماعية التي تفرض سلطتها على أفراد المجموعة اللغوية، وتلزمهم باستعمالات خاصة، فتحدد لهم طرق القول، وصيغ التأدب، وزمن التلفظ، وقواعد الحوار، وفنون الرد، وآداب المناظرة..."فاللغة دائما موجودة قبلنا، كما يقول، جان جاك لوسركل، تنتظرنا لتعين لنا مواضعنا في العالم، وهي في هذا، وفي وجودها السابق، تشبه الأهل، ولن نتمكن أن ننفض عنا آثار الأهل، ولا آثار اللغة في تشكيل كياننا"([33]).
وقد نبه العالم الأنثربولوجي البولندي "مالينوفسكي" إلى أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل هي حلقة في سلسة النشاط الإنساني المنتظم، وجزء من السلوك الإنساني، وضرب من العمل، وليست أداة عاكسة للفكر، إذ بيّن أن ضروب العمل المختلفة في المجتمعات البدائية، هي التي تعمل على تنويع اللغة، "فللصيادين في قبائل أستراليا وجزر الهند الغربية لغة تختلف موسيقاها عن موسيقى لغة الزراعيين، والألفاظ تدور في سهولة وخفة مع العمل اليسير، وتتعقد بتعقد العمل"([34]).
ولهذا السبب، كان عالم اللسان الأمريكي "سابير" وغيره يرون أن اللغة وسيلة نتعلم بها السلوكـ، فاكتساب لغة، والتمكن من قواعدها ومفرداتها، هو تمكن من صورة الحياة، أي الإطار المرجعي الذي يتعلم فيه المرء السلوك،
"فتعلم اللغة هو تعلم لطريقة النظر في الأشياء، وهو أيضا
اكتساب لافتراضات، وتمكن من ممارسات لا تنفك عنها هذه اللغة"([35]).
وقد زكت اللسانيات الأمريكية المستندة على التوجه السلوكي هذا الموقف، إذ أكد اللغوي الأمريكي "ليونارد بلومفيلد" على أن اللغة سلوك حقيقي، كغيرها من السلوكات الإنسانية، وهي ناتجة عن عملية آلية مرتبطة بالمنبه والاستجابة، كما وضح ذلك من خلال قصة التفاحة المشهورة، كما طبق هذا التصور على الخصائص البنيوية للغات، فأكد على أن صنفا من الكلمات يسلك سلوكا مغايرا لصنف آخر، ويتوزع بطرق مختلفة عن غيره، كما هو حال أدوات التعريف، وأسماء الإشارة، وحروف الجر في اللغة العربية على سبيل
المثال، بل قد تتخذ هذه الكلمات سلوكا مغايرا بحسب اللغات، كما هو حال العلاقة بين أداوت التعريف وأسماء الإشارة، إذ تقوم بينهما علاقة توزيع تكاملي في لغات كالفرنسية مثلا، لكنها ليست كذلك في لغات أخرى كالعربية، كما هو واضح من هذين المثالين:
-
هذا الرجل
-
Ce le garcon *
إذ يقتضي لحن الجملة الثانية انتماء الأداتين ce وle إلى نفس المقولة النحوية في اللغة الفرنسية، لكنهما لا تنتميان إلى نفس المقولة النحوية في اللغة العربية.
وإلى جانب السلوك التوزيعي للمورفيمات أو الوحدات الصغرى الدالة، لاحظ التوزيعيون أن ترتيب الصرفاتMorphems داخل الجملة لا يرد في نسق واحد، بل يسلك مسالك مختلفة، فعلى سبيل المثال، يرد الفعل قبل المفعول وبعد الفاعل في اللغات الهندورأوربية، كما في:
-The boy hit
the ball
كما تنتظم مكونات هذه الجملة في علاقة تراتبية كبرى هي hit the ball و the boy، ويظهر ذلك بوضوح إذا وضعنا الجملة في خانات هوكيت، أو معادلات هاريس، أو شجرة شومسكي.
وقد يتعدى السلوك اللغوي السلوك الظاهري أو الخارجي إلى سلوك داخلي ذهني، كما يؤكد ذلك هاريس، إذ يرى أن الكلام فعل لغوي يصدر عن طاقة يعبر بها عن روحه، وتنقسم هذه الطاقة إلى صنفين:
-
الإدراك الذي يربط المعاني والفكر؛
-
الإرادة عن التعبير عن مختلف المكنونات النفسية التي تدفع للفعل العقلاني أو غير العقلاني، وبالمثل تعكس جمل اللغة عند الإنسان صنفين من الأفعال اللغوية؛
-
التعبير عن إدراك الذات للمعاني أو الفكر، أي فعل الإثبات؛
-
التعبير عن إرادات الفرد مثل عمليات الاستفهام والأمر والطلب والرجاء والتمني([36]).
وتفرض بنية اللغات في الكثير من الأحيان سلطتها على المتكلم، وتدفعه إلى سلوك لغوي يتميز بالقسر والإكراه، حيث يجد المتكلم نفسه داخل أطر عليا تفرض عليه أن يسلك خريطة الكلام، ولهذا السبب وصف الناقد الفرنسي رولان بارث اللغة بالفاشية([37])، وتتجلى هذه "الفاشية" في رتبة المكونات وغيرها من الظواهر اللغوية، فالناطقون باللغات الهندوأوربية واللغة التركية على سبيل المثال ملزمون بتقديم الاسم الفاعل Subject على الفعل في الجمل الخبرية، والناطق بالعربية ملزم بتقديم الموصوف على الصفة، والمضاف على المضاف إليه.
كما تعتبر اللغة الوسيلة الأولى التي يتدرب فيها الطفل على التعامل مع ظواهر اجتماعية لها طبيعة مؤسساتية، إذ يتم له من خلالها، ليس فقط التدرب على القيم الأخلاقية لمجموعته، بل التدرب على الصيغ المناسبة لمقامات التواصل من خلال مبدأ:
"قل ولا تقل"،
ولهذا السبب جعل سيمون ديك الملكة الاجتماعية إحدى الملكات الأساسية في إنتاج الكلام،
"فلا يعرف مستعمل اللغة الطبيعية قواعد التواصل فحسب، بل يعرف كذلك كيف يقول ذلك لمخاطب معين، في موقف تواصلي معين، قصد تحقيق أهداف تواصلية معينة"([38])، ومن هنا يعتبر المحرم اللغوي، أو الطابوهات اللغوية les Tabaux linguistiques من أكثر أشكال التمرد على قيم المجتمع انتشارا في المجتمعات القديمة والحديثة على السواء.
وقد أشار الجاحظ إلى جانب من جوانب اقتران اللغة بالسلوك حين ذكر في كتابه "الحيوان" أنه:
"لابد من أن يعرف أبنية الكلام وعادات القوم وأسباب تخاطبهم"([39])، ولهذا رد صعوبة اللغة إلى الجهل بمعاني ألفاظها الدقيقة وسياقات استعمالها([40])، وقد مثل لهذا السلوك اللغوي، عندما تحدث عن أدب الضيافة عند العربي، إذ اعتبر اللغة عنصرا مهما من العناصر التي تؤثث مشهد المؤاكلة في الثقافة العربية، يقول:
"ولأن العرب تجعل الحديث والبسط والتأنيس والتلقي بالبشر من حقوق القرى، ومن تمام الإكرام، حتى قالوا، من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة"([41]).
كما أشار الجاحظ إلى الطابع السلوكي لاكتساب للغة والذي يقوم على الاعتياد والتكرار والرياضة، بالإضافة إلى إشارته الى أهمية المحفز، يقول: "فأما حروف الكلام فإن حكمها إذا تمكنت في الألسنة خلاف هذا الحكم، ألا ترى أن السندي إذا جلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا، وإن أقام في عليا تميم، وفي سفلى قيس، وبين عجز هوازن"([42]).
ويتعدى تأثير السلوك اللغوي الشخصية الفردية إلى المحيط، فقد أكدت العديد من الدراسات السوسيولسانية أن المحيط اللغوي يقوم بدور حاسم في التنشئة اللغوية والنفسية والاجتماعية والذهنية، وهو مرتبط أساسا بنوع اللغة المستعملة، وغنى المحيط اللغوي أو فقره، فعلى سبيل المثال، بينت دراسات"بازل برنشطاين"Basil Bernstien حول لغة أطفال الأحياء الغنية ولغة أطفال الأحياء الفقيرة، الفروق الواضحة في تركيب الجمل، وترابطها المنطقي، واختلاف المعجم([43])، وعليه، يعتبر المحيط اللغوي عنصرا حاسما في التنشئة الاجتماعية، فالطفل الذي يتلقى لغة نسقية فصيحة أو قريبة من الفصحى، ومعجما غنيا، ولغة مهذبة، وموضوعات متنوعة، تربط بين اليومي والثقافي والعلمي والفني، سيختلف تكوينه النفسي والذهني والاجتماعي جذريا عن طفل يعيش في وسط فقير لغويا، محدود الموضوعات، تكثر فيه الطابوهات اللغوية، والعنف اللفظي، وخشونة الألفاظ، وتقل فيه صيغ التأدب، واللياقة اللغوية الاجتماعية، وتنعدم فيه صيغ الفصاحة والبلاغة، وإلى
بعض هذا أشار الجاحظ حين قال: "إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق ولا
ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السلمية ولا أفتق للسان ولا أجود تقويما
للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء"([44]).
ومن مظاهر سلوكية اللغة، تأثيرها في السلوكات الحركية والذهنية، يقول الجاحظ منبها إلى ذلك:
"ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد والدني الساقط، يعشش في القلب، ثم يبيض، ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وقرّح، فعند ذلك يقوى داؤه ويمتنع دواؤه، لأن اللفظ الهجين الرديء والمستكره الغبي أعلق باللسان وآلف للسمع، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهال والنوكى والسخفاء والحمقى شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وجبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا، لأن الفساد أسرع إلى الناس وأشد التحاما بالطبائع"([45]).
في مقابل ذلك يرى الجاحظ أن اللغة وسيلة لتطوير الذكاء وترقيق المشاعر، يقول:
"وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلدت نفسه، وفسد حسّه، وكانوا يروون الصبيان الأرجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتق اللهاة ويفتح الجرم"([46]).
ومن مظاهر سلوكية اللغة، رفض المجتمع لعيوب الكلام؛ كالعي والحصر، خاصة في مقام الخطابة والمناظرة([47])، يقول الجاحظ: "والناس لا يعيرون الخرس، ولا يلومون من استولى على بيانه العجز، وهم يذمون الحصر، ويؤنبون العيّ، فإن تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء، وتعاطيا مناظرة البلغاء، تضاعف عليهما الذم، وترادف عليهما التأنيب"([48]).
أما باقي العيوب الكلامية، كاللجلاج والتمتام والألثغ والفأفأة وذي الحبسة والحلكة والرتة وذو اللفف والعجلة وصاحب التشديق والتقعير والتعقيب، فكلها عيوب تحول دون تحقيق التواصل الجيد، وتورث صاحبها مشاكل نفسية واجتماعية، كما تؤكد على ذلك الدراسات التي أنجزت حول هذا الموضوع، كما تورث سلوكات من الجماعة اللغوية المستقبلة يطبعها العنف والإقصاء، وقد أورد الجاحظ عددا من الأمثلة التي تؤكد ذلك، فأهم المداخل الحجاجية التي اعتمدها فرعون في تسخيف موقف موسى عليه السلام، هو الانتقاص من قدرته اللغوية، "حين خبرنا القرآن الكريم بقوله: "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين، و لا يكاد يبين"،
وما كان من موسى إلا أن دعا الى الله أن يفك تلك العقدة، ويطلق تلك الحبسة، ويعينه بأخيه هارون رغبة منه في الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة، لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع"([49]).
ومن مظاهر العيوب اللغوية الإكثار من الروابط، فقد أشار "رومان جاكبسون" إلى أن من بين وظائف اللغة الوظيفة اللَّغويّة، وهي التي تضمن استمرار قناة التواصل بين المرسل والمرسل اليه، وعليه، فهي وظيفة ثانوية وليست مركزية، ولهذا انتبه الجاحظ إلى أن الإكثار من هذه الروابط مخالف للتواصل البليغ، يقول: "فما الاستعانة؟ قال أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه، يا هذا، ويا هيه، واسمع مني، واستمع إلي، وافهم عني، أو لست تفهم، أو لست تعقل"([50]).
وتشكل كل هذه العيوب منقصة تحرم صاحبها من امتلاك الرأسمال الرمزي والمكانة الاجتماعية، وتبعده إلى الهامش، في مجتمع كانت البلاغة والفصاحة فيه من أبرز مقومات هذا الرأسمال.
ج- الازدواجية اللغوية:
من الظواهر التي حظيت باهتمام السوسيولسانيين، ظاهرة الازواجية اللغوية، خاصة بعد المقالة التي نشرها شارل فرغسونCh. Ferguson سنة 1959م في مجلة "
In word" عن" Diglossia "، وقد عرفها بقوله: "في عدة مجموعات كلامية Speech Community توجد منوعتان أو أكثر لنفس اللغة، يستعملها المتكلمون تحت ظروف مختلفة، وأكثر الأمثلة انتشارا لهذا النموذج هو"اللغات المعيارية" The Standard Language و"اللهجات المحلية" The Regional Dialects كما هو الحال في إيطاليا وإيران، حيث يوجد عدد من المتكلمين الذين يستعملون لهجتهم المحلية في البيت ومع الأصدقاء، لكنهم يستعملون اللغة المعيارية في التواصل مع المتكلمين من لهجات مختلفة، أو في المناسبات العامة([51]).
وقد اصطلح فرغسون على المنوعة التي تحظى بوضعية متميزة "المنوعة العليا"High variety بينما اصطلح على المنوعة التي تستعمل في المقامات اليومية البسيطة والعلاقات الحميمية "المنوعة السفلى" Low variety ([52])، كما وضع مجموعة من المعايير التي تميز بين المنوعتين، بعضها لغوي، كالصواتة والنحو والمعجم، وبعضها سوسيوتاريخي كالوظائف والهيبة والاعتبار والإرث الأدبي وطريقة الاكتساب والمعيارية والاستقرار([53]).
وقد لاحظ فرغسون أن الازدواجية اللغوية ظاهرة منتشرة، لا يكاد يخلو مجتمع منها، كما لاحظ وجود حدود صارمة بين المنوعتين، بحيث يشكل استعمال إحداهما مقام الأخرى، خرقا لقواعد التواصل اللغوي السليم، وقد انتبه الجاحظ إلى هذه الظاهرة في المجتمع العربي، ووصفها وصفا غاية في الدقة، يقول: "لا
يكلّم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل التصرف
في كل طبقة"([54])،
ويقول في نفس السياق: "ومتى سمعت- حفظك الله- بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها، ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية، وعليك فضل كبير، وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها"([55])، ويشير هذا الأمر إلى أن اختلاف المقامات الاجتماعية وتنوع المخاطبين، تفرض استعمال أنساق لغوية مختلفة.
وإلى جانب اختلاف اللغات باختلاف الطبقات الاجتماعية، يشير الجاحظ إلى اختلاف المعاني باختلاف الطبقات وملابسة اللغة للمعنى، يقول: "ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنها"([56])، ثم يحدد معنى شرف اللفظ بأن يكون مطابقا لمقتضى الحال، فشرفه مرتبط بالطبقة الاجتماعية التي يستعمل فيها، يقول الجاحظ: "والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال"([57]).
لقد لاحظ فرغسون أن ظاهرة الازدواجية غير مستقرة، إذ تتجه أحيانا تحت ضغط الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى منوعة وسيطة اصطلح عليها "لغة النوادي" أو "الكريول" في هايتي، و قد انتبه الجاحظ، وهو يناقش قضية شرف المعنى واللفظ إلى أن هذا الأمر يتطلب، حين يكون في سياقات معينة، كما هو حال سياق إفهام العامة معاني الخاصة، نوعا من اللغة الوسيطة، يقول: "وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك، إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام"([58]).
د- المفاضلة بين اللهجات:
لاحظ فيشمان في نقده لفرغسون أن الازداوجية اللغوية تشمل كل نسقين لغويين يتعايشان أو يتصارعان في مجتمع معين، بغض النظر عن أصولهما السلالية، وإلى هذا أشار جومبيير إذ يقول: "لا توجد الازدواجية فقط، في المجتمعات التي تمارس عدة لغات بصفة رسمية، ولا في المجتمعات التي تستعمل العاميات المختلفة والأنماط اللغوية المتباينة، وذلك باعتبار الوظائف التي يؤديها كل نمط على حدة"([59]).
كما لا تشمل هذه
الازدواجية منوعات لغة واحدة فقط، بل قد تشمل لهجاتها أيضا، وإلى هذا أشار الجاحظ إلى المفاضلات اللغوية القائمة على أساس لهجي، يقول: " قال
أهل مكة لمحمد بن المناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما
الفصاحة لنا أهل مكة، فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن،
وأكثرها له موافقة"([60]).
ه- بين لغة المدينة ولغة البادية
أظهرت الدراسات السوسيولسانية الحديثة الفروق الكبيرة بين لغات المدن ولغات البوادي، مما أدى الى ظهور فرع مستقل اصطلح عليه ب"سوسيولسانية المدينة Urban Sociolinguistics"([61])، إذ أكدت هذه الدراسات ميل لغات المدينة إلى استعمال الكلمات السهلة والتراكيب البسيطة، مع كثرة الاقتراض من لغات الآخرين والتداخل اللغوي، والسنن المستعار Code Switching، وغنى المعجم، والإكثار من صيغ التأدب، واختلاف مستويات اللغة باختلاف نوعية المخاطبين، وسياقات الاستعمال...وقد لاحظ الجاحظ بنظرته الثاقبة هذه الفروق في الحواضر التي عاش فيها، خاصة في البصرة وبغداد، وسجل ذلك في بعض كتبه ك"البيان والتبيين"، في سياق عرضه لموقف النبي صلى الله عيه وسلم من بعض الظواهر اللغوية المعيبة، يقول: "وعاب الفدادين والمتزيدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق، ورحب الغلاصم وهدل الشفاه، وأعلمنا أن ذلك في أهل الوبر أكثر منها وفي أهل المدر أقل"([62])، كما لاحظ جمال لغة
المدينة ورقة ألفاظها وتساهلها في اللحن، يقول: "لأهل المدينة ألسن ذلقة، وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش"([63]).
ومن خصائص لغة المدن، كما يشير إلى ذلك الجاحظ، كثرة الاقتراض واختلاط الألسن، يقول: "ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم أناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البطيخ الخربز، و سمون السميط الرزدق، ويسمون المصوص المزور، ويسمون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء، وكذلك أهل الكوفة، فإنهم يسمون المسحاة بال، وبال بالفارسية"([64]).
و- التداخل اللغوي واختلاط اللغات
لاحظ السوسيولسانيون عموما أن تجاور لغتين في مجتمع واحد تنتج عنهما أشكال من التداخل، منها وجود ثنائية لغوية على صعيد الدولة، كما هو الحال في بلجيكا وكندا، أو تداخل يولد شكلا هجينا، كما هو الحال في كل اللغات الرومانية التي نشأت من خلال الامتزاج بين اللغات المحلية واللغة اللاتينية، وحالة الكريول والبدجين في عدد من المستعمرات الفرنسية والإنجليزية السابقة، ويمكن أن تحافظ اللغتان أو المنوعتان على وضعيتهما كما هو الحال في العالم العربي واليونان، كما لاحظ الدارسون أن الثنائية اللغوية تأخذ أشكالا منها الثنائية المتوازنة Symétrique وتحصل عندما يستعمل الفرد لغتين أو منتوعتين بنفس الكفاءة، والثنائية غير المتوازنة Asymétrique وتحصل عندما يفقد المرء هذه الكفاءة، لكنهم يكادون يتفقون على أن الثنائية المتوازنة نموذج نادر التحقق، بسبب التداخل الناتج عن اختلاف الأنساق)[65](. وقد عبر الجاحظ عن هذا الموقف، باندهاشه من قدرة موسى بن سيار الأسواري على استعمال لغتين بنفس الكفاءة، يقول: "ومن أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس، فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بـأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد، أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكر من لسان موسى بن سيار الأسواري"([66]).
وإذا كانت ثنائية بن سيار الأسواري استثنائية، فلم يفت الجاحظ التمثيل لظواهر التداخل بين اللغتين، وغلبة إحداهما على نسق الأخرى، ومن ذلك ظاهرة اللكنة Accent التي عرفها بأنها تداخل أصوات اللغتين حيث يقول: "ويقال في لسانه لكنة إذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب، وجذبت لسانه العادة الأولى إلى المخرج الأول"([67])، وقد مثل لذلك بتداخل أصوت العربية مع بعض لغات المناطق الأخرى كالنبطية، يقول: "وقد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية المعروفة، ويكون لفظه متخيرا فاخرا، ومعناه شريفا كريما، ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي، وكذلك إذا تكلم الخراساني على هذه الصفة، فإنك تعلم مع إعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه أنه خراساني، وكذلك إن كان من كتاب الأهواز"([68]).
ز- تخفف اللهجات من القواعد:
يميز السوسيولسانيين بين مستويين من اللغة، مستوى الفصحى ومستوى اللهجة، وتتفرع اللهجات من لغات أصلية تحت ضغط الحياة الاجتماعية اليومية التي تتطلب السرعة والخفة في الأداء، لهذا فهي تتميز عموما بالبساطة، وقلة القواعد، ومحدودية المعجم، والاستعمال الفضفاض لدلالة الكلمات، وقد لاحظ الجاحظ نفس الشيء حين أشار إلى ذلك إذ يقول: "وقد يسخف الناس، ويستعملون ألفاظا، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب، أو في موقع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب، ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة"([69]).
كما يرى أن: "العامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما، وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا، وتدع ما هو أظهر وأكثر، ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه، وكذلك المثل السائر"([70]).
س- لغة الأطفال ولغة الكبار:
لاحظ اللسانيون المعاصرون أن اكتساب اللغة لا تتم على نسق وحيد وبطريقة كلية، بل على مراحل مخصوصة، فقد تحدث "جان بياجيه" عن مراحل أربعة، وأكد شومسكي أن الوصول إلى المرحلة القارة يمر عبر تثبيت الوسائط من خلال التفاعل بين النحو الكلي ولغة المحيط، أما السوسيولسانيون المعاصرون فقد لاحظوا وجود فوارق عدة بين لغات الأطفال والراشدين، وبين لغة المراهقين والكبار، وهي فروق تمس مستويات لسانية عدة، خاصة المستويين المعجمي والأسلوبي، كما لاحظ الجاحظ، بخصوص مراحل التطور
اللغوي، الفروق الكبيرة بين لغة الأطفال ولغة الراشدين، وقد أدركت السوسيولسانيات المعاصرة هذا الفرق وخصصت له دراسات متعددة، بل تتعدى لغات أطفال طبقات مختلفة، كما هو حال الدراسة التي قام بها "بازل برنشطاين" حول الفروق بين لغة أطفال السود والبيض في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد رصد الجاحظ اختلاف لغة الأطفال باختلاف مراحل تطورها ([71])، إذ تبدأ بأصوات مفردة شفوية، إذ يقول: "والميم والباء أول ما يتهيأ من أفواه الأطفال"([72])، كما لاحظ غلبة المحاكاة الصوتية في لغة الأطفال في مراحلها الأولى، فقد حكى عن الهيثم بن عدي: "قيل لصبي: من أبوك؟ فقال: وو وو، لأن أباه كان يسمى كلبا"([73]).
إلى جانب ذلك لاحظ الجاحظ قدرة الأطفال على اكتساب أنساق لغوية متعددة، وهي القدرة التي تضعف مع مرور الوقت، يقول: "ألا ترى أن السندي إذا جلب كبيرا فإنه لا يستطيع أن يجعل الجيم زايا ولو أقام في عليا تميم، وفي سفلى قيس، وبين عجز هوازن خمسين عاما"([74]).
كما لاحظ تطور النسق الصوتي وتغيره عند الأطفال، إذ يحتاج جهاز النطق إلى تمارين لضبط مخارج بعض الأصوات في العربية وصفاتها، ولهذا تعتري لغة الأطفال مظاهر من اللثغة التي تزول مع مرور الوقت، يقول الجاحظ: "والذي يعتري اللسان مما يمنع من البيان أمور منها: اللثغة التي تعتري الصبيان إلى أن ينشؤوا"([75]).
ص- اللغة والمرأة:
اهتم السوسسيولسانيون
كثيرا بالفروق النوعية بين لغة الرجال ولغة النساء، وأهم الدراسات حول الموضوع،
دراسة هاس Haas
ودراسة روبين لاكوف Robin Lakof،
وقد كشفت هذه الأبحاث عن اختلافات بنيوية بين لغة الجنسين تشمل الأصوات والتركيب
والمعجم والأسلوب.
وقد لاحظ الجاحظ بعض الظواهر اللسانية الخاصة بالنساء، بما فيهن الجواري، إذ كان المجتمع الرجولي يقبل منهن اللحن وأحيانا يستحسنه، يقول: "واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذات الخدور الغرائر أيسر، وربما اسمتلح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف، ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد، وكما يستحسنون اللثغة، إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة، فإذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح"([76]).
خاتمة:
حاولنا في هذه المقالة أن نقف عند أهم
القضايا السوسيولسانية التي أشار اليها الجاحظ في بعض
كتاباته، وتؤكد الملاحظة الأولية إلى أن معالجته تميزت بالجدة والطرافة والأسبقية،
مما يؤكد عبقرية هذا الرجل، وغنى التراث اللغوي العربي الذي يكشف في كل مرة عن
ذخائره النفيسة، التي يمكن أن تمد الدرس اللغوي المعاصر بمجموعات من المعطيات
والملاحظات.
المصادر والمراجع
اكتساب اللغة في
الفكر العربي القديم، محمد الأوراغي، دار الكلام، ط1، الرباط،
المغرب، 1990م
البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1987م.
الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، جميل جبر، منشورات دار
الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، ط1، بيروت، لبنان،1968م.
الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبد
السلام محمد هارون، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان،1969م.
الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بدون تاريخ.
السوسيولسانيات عند العرب، هادي نهر لعيبي، عالم الكتب
الحديثة، ط1، إربد، الأردن، 2009م.
عنف اللغة، جان جاك لوسركل، ترجمة وتقديم د. محمد بدوي، مراجعة د. سعد مصلوح، المعهد العالي العربي للترجمة. ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2005م.
فرضية الحتمية
اللغوية واللغة العربية، حمد عبد الله حامد، مجلة عالم الفكر، مجلد 8 ،ع 30 يناير/مارس، 2000.
في التربية اللغوية
وأنحاء التواصل، أحمد الوالي العلمي، منشورات اختلاف، ط1، الجزائر، 2001م.
في اللسانيات
العامة واللسانيات العربية: تعاريف-أصوات، عبد العزيز حليلي، منشورات دراسات سيميائية أدبية لسانية – دراسات سال، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 1991م.
اللسانيات التوليدية،
من النموذج ماقبل المعيار إلى البرنامج الأدنوي: مفاهيم وأمثلة، مصطفى غلفان
وآخرون، عالم الكتب الحديث، ط1، إربد، الأردن، 2010م.
اللسانيات الوظيفية:
مدخل نظري، أحمد المتوكل، منشورات عكاظ، ط1، الرباط، المغرب، 1989م.
اللغة والهوية، محمد نافع العشيري، منشورات دائرة الثقافة بالشارقة، ط1، الشارقة،
الإمارات العربية المتحدة،2017م.
اللغة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار
توبقال، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 2005م.
المزهر في علوم
اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي، شرحه وصححه وعنون موضوعاته وعلق حواشيه محمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر للطباعة
والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.
مفاهيم وقضايا سوسيولسانية، محمد نافع العشيري، دار كنوز المعرفة، ط1، عمان، الأردن، 2015م.
موجز تاريخ علم
اللغة (في الغرب)، روبنر،ر،ه، ترجمة أحمد عوض، سلسلة عالم المعرفة، عدد227 ، نوفمبر، 1990م.
Kaynakça / References
Albayan wa
ttabyin ,
abu othman amru bno bahr aljahiz , dar ihyae aturath
alearabii, bayrut, lubnan, 1987.
Alhayawan , abu othman amru
bnu bahr aljahiz , tahqiq abd
asalam muhamad harun , dar alkitaab alearabii , bayrut , lubnan ,
1969.
Aljahiz fi hayatihi wa adabihi wa fikrih, jamil jabr , manshurate dar
alkitab allubnanii littibaea wa nnashr , t 1 , bayrut , lubnan , 1968.
Alkhasaes, abu alfath othman bnu
jini ,
tahqiq muhamad ali a nnajaar , almaktaba al alamiat ,
bidun tarikhi.
Allisaniaat altawlidia , min annamudaj maqabla lmiayar ila al barnamaj al adnawi: mafahim wa amthila , mustafaa gholfan wakhrun ,
alkutub alhadith, t 1 , irbid , al ordon , 2010 .
Allisaniaat alwazifia: madkhal nadari , ahmad almutawakil , manshurat ukaz , t 1, arribat ,
al maghrib , 1989 .
Allughat walhuwiya , muhamad nafie al ashiri , manshurat dayirat althaqafat bi alshaariqa,
t 1, alshaariqa, al iimarat
al arabia almutahida , 2017.
Allughat, iedad watarjama muhamad sabila wa abd
alsalam bno abad aleali , dar tubaqal , t 1 , addaar albayda,
almaghrib
, 2005.
Almuzhar fi ulum allugha wa
anwaiha , sharahaho wa sahaha
mawdoatiti wa alaqa hawashih muhamad jad al mawlaa wa ali
muhamad albijawi wa muhamad abu
alfadl ibrahim , dar al fikr
littibaea walnashr wa ttawzie , al qahirat , misr , bidun tarikh.
Assusiyolisaniaat ind al arab , hadi nahir lieibi , aalam
al kutub al haditha, t 1 , irbid , al urdun, 2009.
Bernstein,B,1975, Langage et classe sociale: les codes socio-linguistique et contrôle social, Traduit de l’anglais
par jean claude Chamboredon, édition Minuit. Paris
Faradiat alhatmia allughawia wa allughat al arabia , hamad abd allah
hamid ,
majalat alam al fikr , mujalad 8 , 30 yanayir
/ mars , 2000.
Ferguson,Ch, (1959), Diglossia, in word,
vol 15,pp325-340
Fi allisaniaat aleamat wallisaniaat alearabiati: taearif 'aswat , eabd aleaziz
halili ,
manshurat dirasat simiayiyat 'adabiat lisaniat - dirasat sal , matbaeat alnajah aljadidat ,
t 1 , aldaar albayda' , almaghrib , 1991 mi.
Fi attarbiat allughawia wa anhae attawasul, ahmad alwali al almi , manshurat ikhtilaf , t 1 , aljazayir , 2001.
Iktisab allughat fi alfikr alarabi alqadim, muhamad al awraghii, dar alkalam , t 1, al ribat , al maghrib , 1990
Lafarg.P, 1894, la langue Française avant et après la révolution,https://www.marxists.org/francais/lafargue/works/
Lebov,W.(1976),La Sociolinguistique, traduction Alaun kihm ,
édition Minuit ,Paris.
Mafahim waqadaya sosyolsania , muhamad nafie al ashiri ,
dar kunuz al maerifa , t 1 , amaan , al ordon , 2015.
Marcillisi,J.B. et Gardin,B.(1974), Introduction à la sociolinguistique:
la linguistique sociale, librairie, Larousse, Paris.
Mujaz tarikh ilm allugha (fi algharb), rubins , r , h ,
tarjamat ahmad elwad , silsilat aalam al maerifa ,
adad 227 , nuvambar , 1990.
Onfu allughat, jan
jak liwsrkl, taqdim muhamad badawi, murajaeat saed masluh, al maehad al aali al arabi littarjama.
t 1 , markaz dirasat alwahdat al arabiat , bayrut , lubnan , 2005.
Youssi.A.(1989a), Changements socioculturels et dynamique linguistique.
In langue et société au Maghreb,pp.101- 118.Rabat, Publications da la
faculté des lettres.
([1]) من أهم الأعمال التي تناولت فكر الجاحظ نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب "الجاحظ من خلال عصره" لطه الحاجري وكتاب" الجاحظ في حياته وأدبه وفكره" لجميل جبر.
([10]) محاضرات في علم اللسان العام: 17، وانظر أيضا اللسانيات العامة
واللسانيات العربية، تعاريف، أصوات:19.
([14]) من بين أهم المؤتمرات العلمية نذكر المؤتمر الذي عقد من 11 الى
13 ماي سنة1963 حول اعمال وليان برايث وحضره عدد كبير من الباحثين أمثال شارل
فرغسون وديل هابمز ووليان ليبوف حيث استعمل لأول مرة مصطلح السوسيولسانيات، انظر
كتابنا " قضايا ومفاهيم سوسيولسانية.
([16]) نشر الكاتب والمناضل الماركسي الفرنسي بول لافارج هذا العمل سنة 1894م
تحت عنوان "اللغة الفرنسية قبل الثورة وبعدها" la langue Française avant et après la révolution