د. محمد عبد الحليم عثمان أحمد
أستاذ مساعد، جامعة سينوب، تركيا
البريد الإلكتروني: mhaleam@gmail.com
معرف (أوركيد): 0000-0002-8440-594X
الاستلام: 15-3-2023 |
القبول: 25-4-2023 |
النشر: 30-4-2023 |
الملخَّص:
يهدف
البحث إلى إغناء شروح الحديث والدراسات التحليلية فيه بالكشف عن وسائل التماسك
النصي في حديث أم زرع، والإفادة من النظريات والمعطيات اللسانية الحديثة مع الحفاظ
في الوقت نفسه على ما ورثناه من المنجزات التراثية العربية الأصيلة. وقد حرَّر البحث الحديثَ
المعدَّ للتطبيق بتخريجه والوصول إلى أصح رواياته لَفظًا، ثم تناول وسائل السبك
النحوي فيه كالإحالة المقالية والعطف والحذف، ثم تناول وسائل السبك
المعجمي فيه والذي تمثل في التكرار والتضام أو المصاحبات المعجمية، وبين البحث دور
كل من هذه العناصر في تماسك النص مع تنويع معانيه، وضبط إيقاع حركته، وتنشيط ذهن
المتلقي للتأويل والتقدير، وتوصّل
إلى نتائج منها: أن وسائل السبك النحوي والمعجمي ساهمت في سبك بنية النص وربطه
وتماسكه من ناحية، ومن ناحية أخرى ساهمت في توحيد الوظيفة الدلالية في حديث أم زرع
في التركيز على الموضوع الرئيس للحديث الشريف وهو وصف الأزواج.
الحديث، اللسانيات، التماسك، النص، أم زرع.
للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation عبد
الحليم عثمان أحمد، محمد (2023). التماسك النصي في حديث أم زرع. ضاد مجلة لسانيات
العربية وآدابها. مج4، ع7، 9- 35 https://www.daadjournal.com/ /
Textual
Coherence in Hadith of Umm Zar`
Dr. Mohamed Abdelhalim Uthman Ahmed
Assistant Professor,
Sinop University, Turkey
E-mail: mhaleam@gmail.com
Published:
30.04.2023 |
Accepted: 25.04.2023 |
Received: 15.03.2023 |
Research Article |
Abstract:
The research is aimed at enriching the
interpretations of the hadith and the analytical studies thereon by exposing
the means of textual coherence in the Hadith of Umm Zar` and benefiting from modern linguistic
theories and literature while preserving the genuine Arabic heritage
achievements we have inherited. The research touches on the means of
syntactical cohesion therein such as the article reference and conjunction and
the ellipsis. Then, the research addresses the means of lexical cohesion
therein which are materialized in repetition, combination, or lexical collocations. The research has
reached that the means of syntactical
and lexical cohesion contributed to the cohesion of the text structure,
conjugation, and
coherence and they contributed to unifying the semantic function in the Hadith
of Umm Zar` as regards the focus on the main subject matter of the noble
hadith.
Key Words:
Hadith, Linguistics, Coherence, Text, Umm
Zar`.
تقديم:
هذا البحث بعنوان "التماسك النصي في حديث أم زرع "، يسعى إلى تطبيق
النظريات الحديثة في "لسانيات النص" والتي ترى أن النص يحمل وسائل
تماسكه التي تؤدي إلى وحدته الشكلية والدلالية، على الحديث الشريف ممثلًا بحديث أم
زرعٍ الشهير.
وميدان الحديث الشريف ما يزال مفتقرًا إلى هذا
النوع من الدراسات اللسانية النحوية المعاصرة، نظرًا إلى الإشكالية التقليدية في القطيعة
المصطنعة بين النحو والحديث بحججٍ كوجود الرواية بالمعنى وأضرابها، مما أدَّى ليس
إلى حرمان علم شرح الحديث من الدرس اللغوي المعاصر وحسب، بل إلى حرمان الدرس
اللغوي أيضًا من الإفادة من نصوص الحديث الشريف، التي هي كلام أفصح العرب، فإذا تهيأ تحرير النص الحديثي الشريف وتقديم
الصحيح منه المروي بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم أو لفظ صحابته وجيل العرب
الفصحاء، فقد زال المحذور وهذا ما تم في هذا البحث إذ قدِّم حديث أم زرع بعد
التيقن من صحته وأنه لفظ عائشة رضي الله عنها معزَّزًا بتقرير النبي صلى الله عليه
وسلم ولفظٍ منه ختامَ الحديث، ليكون تطبيقًا لنظرية التماسك النصي.
وسبب اختيار حديث أم زرع زيادة على صحته العالية
إذ اتفق عليه البخاري ومسلم أنَّ الأنظار اللغوية اتجهت لنوع تقليدي من الدرس
البلاغي فيه وهو الكنايات التي يزخرُ بها، وغفلت عن فنونه اللغوية والبلاغية
الأخرى ومنها تماسكه النحوي والبنيوي.
ويهدف البحث إلى بيان أدوات التماسك النصي في حديث
أم زرع؛ وإلى إثبات أن كثيرًا من المعايير النصية تتحقق فيه، علاوة على هدفه الأعم الذي هو إغناء شروح الحديث بتقديم دراسة نصية لسانيّة
تتعلق بالحديث الشريف.
والأدوات المحدثة للتماسك النصي كثرة كاثرة داخل
النص وخارجه، وقد حاول البحث بيان دور هذه الأدوات في العملية النصية، والكشف عن
المعايير والروابط النصية التي أدت إلى التماسك النصي في حديث أم زرع كالإحالة،
والحذف، والتكرار، وغيرها.
واتبع البحث منهج نحو النص، وهو منهج تطبيقي ينظر إلى النص اللغوي بوصفه كلًّا
متماسكًا، وهو أكثر المناهج وضوحًا وإفادة من المقولات السابقة
عليه في دراسة النصوص العربية، واستيعابًا لها لإدراجها في منظومته العلمية بعد أن
كانت مبثوثة في أشتات مُبعثرة([1])،
ويستعين في عمله بمناهج أخرى كالمنهج الوصفي والمنهج التحليلي.
وقد ألّفت الشروح والدراسات
والكتب والمقالات في حديث أم زرع قديمًا وحديثًا، ومن أقربها لبحثنا: "بلاغة
النساء في حديث أم زرع" لعبد الله عبد الخالق دسوقي، نشر في حولية كلية
الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة، جامعة الأزهر، المجلد الثاني العدد 23،
2005م، ركز فيه الباحث على الناحية البلاغية، لكنه لم يتعرض إلى التماسك النصي
فيه، ومثله في ذلك "حديث أم زرع دراسة بلاغية تحليلية" للدكتور عبد
العزيز العمار، مجلة جامعة أم القرى لعلوم اللغة وآدابها، العدد الأول، محرم
1430هــ. و"جماليات العلاقة بين الجنسين في حديث أم زرع: دراسة في تحليل
الخطاب" للأستاذة فوزية صالح الحبشي، مجلة التشريع الإسلامي والأخلاق، 2014م،
ركزت فيه الباحثة على الجوانب النفسية والثقافية، والأخلاقية، والتاريخية.
وجديد هذا البحث يتمثل في دراسة التماسك النصي في
حديث أم زرع، بالإضافة لتقديم نموذج معياري لتخريج الحديث وتحريره وتقديمه للدرس
اللغوي بعد الوصول لأصح ألفاظه.
1.
تخريج حديث أم زرع وتحريره للتطبيق:
رُوي حديث أم زرع من طرق عديدة مرفوعًا وموقوفًا
ومختصرًا ومطولًا، لكن أصح طرقه وأثبت متونه تلك التي اتفق عليها البخاري(ت.
256هـ، 870م) ومسلم (ت. 261هـ، 875م)، وقد رويا الحديث بلفظ شبه متطابق إلا بعض
الأحرف اليسيرة، وقد اخترت لفظ مسلم لما يذكره العلماء من عناية مسلم بالألفاظ
وتحريه لها([2])،
وأن كثيرًا من كتب الجمع المتقدم منها والمتأخر اعتمدت رواية مسلم والتي فيها
"فلو جمعت كل شيء أعطاني" بحذف الضمير، منها الحميدي (ت. 488هـ، 1095م) في الجمع بين الصحيحين([3])،
والقاضي عبد الحق (ت.581ه، 1185م) في الجمع بين الصحيحين([4])،
وابن الصلاح (ت.643ه، 1245م) في الأنوار اللمعة في الجمع بين الصحاح السبعة (الستة
والدارمي)([5])،
وابن كثير (ت.774هـ، 1373م) في جامع المسانيد والسنن([6]).
1.1.
نص حديث أم زرع:
نص حديث أم زرع كما ورد في
صحيح مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: جلس إحدى عشرةَ امرأة،
فتعاهدنَ وتعاقدن أن لا يكتُمن من أخبار أزواجهنَّ شيئا، قالت الأولى: زوجي لحم
جملٍ غثٍّ، على رأس جبل، لا سهلٌ فيُرتقى، ولا سمينٌ فيُنتَقل. قالت الثانية: زوجي
لا أبثُّ خبره، إني أخاف أن لا أذرَه، إن أذكرْه أذكرْ عُجَرَه وبُجَره، قالت
الثالثة: زوجي العَشنَّق، إن أنطِقْ أُطلَّقْ، وإن
أسكُت أعلَّقْ، قالت الرابعة: زوجي كليلِ تِهامة لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة،
قالت الخامسة: زوجي إن دخلَ فَهِد، وإن خرج أسِدَ، ولا يسأل عمّا عهِد، قالت
السادسة: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرِب اشتفَّ، وإن اضطجع التفَّ، ولا يُولج الكفَّ
ليعلمَ البثَّ، قالت السابعة: زوجي غَياياء أو عَياياء طَباقاء، كلُّ داءٍ له
داء، شجَّكِ أو فلَّكِ أو جمعَ كلًّا لكِ، قالت الثامنة: زوجي الريحُ ريحُ زَرنَب،
والمسُّ مسُّ أرنب، قالت التاسعة: زوجي رفيعُ العماد طويل النِّجاد عظيم الرماد،
قريب البيت من الناد، قالت العاشرة: زوجي مالِك، وما مالك؟ مالكٌ خيرٌ من ذلك، له
إبِلٌ كثيرات المبارك، قليلاتُ المسارح، إذا سمِعن صوتَ المِزهَر أيقنَّ أنهنَّ
هوالِك، قالت الحاديةَ عشرة: زوجي أبو زرعٍ، فما أبو زرع؟ أناسَ من حُليٍّ
أذنَيَّ، وملأ من شَحمٍ عضُدَيَّ، وبجَّحني فبجِحت إليّ نفسي؛ وجدني في أهل
غُنَيمةٍ بشِقٍّ، فجعلني في أهل صهيلٍ وأطيطٍ ودائسٍ ومنَقٍّ، فعنده أقول فلا
أقبَّح، وأرقدُ فأتصبَّح، وأشرب فأتقنَّح، أم أبي زرعٍ
فما أم أبي زرع؟ عُكومُها رَداح وبيتُها فَساح، ابنُ أبي زرع فما ابن أبي زرع؟
مضجَعهُ كمسلِّ شَطبة ويُشبعه ذراعُ الجَفرة، بنتُ أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوعُ
أبيها وطوع أمها، وملءُ كسائها وغيظُ جارتها، جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا
تبثُّ حديثنا تبثيثًا، ولا تُنقِّثُ
مِيرتَنا تنقيثًا، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا، قالت: خرج أبو زرعٍ والأوطاب تُمخَض،
فلقيَ امرأة معها ولَدان لها كالفَهدين، يلعبان من تحت خَصرِها برمَّانتَين
فطلَّقني ونكَحها، فنكحتُ بعده رجلًا سريًّا، ركِب شريًّا، وأخذ خطِّيَّا، وأراح
عليَّ نعمًا ثريَّا، وأعطاني من كلِّ رائحةٍ زوجًا، قال: كُلِي أمَّ زرع ومِيري
أهلكِ، فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أعطاني ما بلغَ أصغرَ آنيةِ أبي زرع، قالت عائشةُ: قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرعٍ لأمِّ زَرع»([7]).
2.المطلب الثاني:
تعريفات ومصطلحات البحث:
1.2.نحو النّص:
نحو
النّص اتجاه حديث في الدرس اللغوي، يهتم بدراسة الأبنية النَّصية، وأشكال التواصل
النصي؛ ولهذا فهو يهتم بدراسة "ظواهر تركيبية نصية مختلفة منها علاقات
التماسك النحوي النصي، وأبنية التطابق والتقابل والتراكيب المحورية، والتراكيب المجتزأة، وحالات الحذف، والجمل المفسرة، والتحويل إلى الضمير
والتنويعات التركيبيبة، وتوزيعاتها في نصوص فرعية،
وغيرها من الظواهر التركيبية التي تخرج عن إطار الجملة المفردة، والتي لا يمكن
تفسيرها تفسيرًا كاملًا دقيقًا إلا من خلال وحدة النص الكلية"([8])،
ويرى (Robert De Beaugrande (ت2008)، Wolfgang Dressler)([9])
أن النص "حدث تواصلي، يلزم لكونه نصًّا أن تتوافر له سبعة معايير للنصية
مجتمعة، ويزول عنه هذا الوصف إذا تخلَّف واحد من هذه المعايير".
وهذه
المعايير هي: السبك cohesion (الربط النَّحوي)، والحبك coherence (التماسك الدلالي)، القصد intentionality أي هدف النَّص، القبول أو المقبولية acceptability
وتتعلق بموقف المتلقي من قبول النص، الإعلام أو الإخبارية informativity أي
توقُّع المعلومات الواردة فيه أو عدمه، المقامية (الموقفية)
situationality وتتعلق بمناسبة النص للموقف، التَّناص intertextuality.
2.2. التماسك النصي:
يُعد
التماسك النصي من أهم الركائز التي يقوم عليها النص، وقد عرَّفه بعض الباحثين بأنه
"تعلُّق وحدات النص بعضها ببعض، بوساطة علاقات أو أدوات شكلية ودلالية، تسهم
في الربط بين عناصر النص الداخلية، وبين النص والبيئة المحيطة به من ناحية أخرى؛
لتكون في النهاية رسالة يتلقاها مُتلقٍّ فيفهمها ويتفاعل معها سلبا أو إيجابا"
([10])،
وهو سمة بارزة من سمات النص العربي ولاسيما الحديث الشريف؛ فقد أوتي الرسول صلى
الله عليه وسلم جوامع الكلم.
3.2. السبك:
يُعد
السبك أهم المعايير النصية، وهو مرتبط بالعناصر الصغرى وهي العلاقات النحوية أو
المعجمية بين العناصر الشكلية للنص التي تؤدي إلى التواصل والتتابع الرصفي والترابط بين أجزاء النص عن طريق تعاقبها أو تواليها
الزمني سواء أكان النص مكتوبًا أو مسموعًا أو مقروءًا([11]).
ويُعبر
عن هذا المعنى سعد مصلوح بقوله: "ويختص معيار السبك بالوسائل التي تتحقق بها
خاصية الاستمرارية في ظاهر النص؛ ونعني بظاهر النص الأحداث اللغوية التي ننطق بها
أو نسمعها في تعاقبها الزمني، والتي نخطها أو نراها؛ بما هي كَمٌ متصل على صفحة
الورق، وهذه الأحداث أو المكونات ينتظم بعضها مع بعض تبعا للمباني النحوية، ولكنها
لا تشكل نصًّا إلا إذا تحقق لها من وسائل السبك ما يجعل النص محتفظًا بكينونته واستمراريته([12]).
وللسبك
وسائل نحوية ومعجمية([13])،
وسوف يتناول البحث مظاهر التماسك النصي في حديث أم زرع المتمثلة في السبك النحوي
والسبك المعجمي.
3. السبك النحوي في حديث
أم زرع:
1.3. الإحالة:
لقد درس النحاة القدامى
الإحالة في إطار الحديث عن مستوى الجملة لأنهم تكلموا كثيرًا على الضمير وعائديته، وقرينة الرتبة في تحديد عائده المتقدم أو المتأخر([14])،
وكذلك في حديثهم عن الألفاظ المبهمة([15])،
ودرس البلاغيون أمثال عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) الإحالة المقامية لاسيما عندما تحدث عن سياق
الحال ومعنى المعنى ([16]).
وأما عند النصيين فالإحالة
من الوسائل المهمة في وسائل التماسك النصي، وتسهم في الكفاءة النصية، وتمييز النص
مما ليس نصًّا ويشار بها إلى العناصر اللغوية التي لا تملك دلالة بمفردها، وإنما
تحيل إلى عناصر دلالية أخرى ليفهم معناها، وقد تكون هذه العناصر داخل النص أو
خارجه سابقة على العنصر المحيل أو لاحقة به([17]).
وتبرز أهمية الإحالة في
قدرتها على الربط بين الأجزاء المتباعدة ربطًا واضحًا([18])؛
فهي تعمل على تحقيق مبدأ الاقتصاد اللغوي، "وتُعد إحدى الوسائل -بل من
أقواها- التي ترسو بالقارئ على روض التنوع والتشويق"([19]).
وتنقسم الإحالة على نوعين
أساسيين: أولهما: الإحالة النصية وهي التي تكون داخل النص
نفسه، وقد تكون قبلية، وفيها يعود العنصر الإحالي على
عنصر إشاري سابق، أو بعدية تشير إلى عنصر إشاري لاحق([20])،
وثانيهما: الإحالة المقامية وهي التي تعمل على ربط النص بسياقه
الخارجي، فهي تحيل إلى غير مذكور في النص، فيُستنبط العنصر الإشاري من السياق
الخارجي للنص لتكمل العلاقة بين المحيل والمحال إليه
([21]).
وللإحالة
وسائل هي الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة ([22]).
1.1.3. الضمائر:
الضمير
لغة: السِّرُّ وداخل الخاطرِ، والشيءُ الذي تُضمره في قلبك ([23])،
واصطلاحًا: ما دل وضعًا على متكلم أو مخاطب أو غائب ([24])،
والضمائر من أبرز أدوات السبك النصي؛ إذ تؤدي
إلى الربط بين أجزاء النص المقامية أو المقالية القبلية أو البعدية، علاوة على أن
دلالة الكلام قد تكون غامضة، والضمير هو ما يوضحها ويجمع ما تناثر من عبارات ليربط
بينها([25]).
وقد وردت الضمائر في حديث أم
زرع (124) مرة، منها (64) ضمائر متصلة، و (60) ضميرًا مستترًا، ولم ترد الضمائر
المنفصلة في الحديث الشريف وهنا يظهر كثرة استعمال الضمير المتصل، وهذا تأكيد
لمقولة النحاة في كثرة استعمال الضمير المتصل ([26]).
وقد توزعت الإحالات بحسب كثرة ورودها في حديث أم
زرع فكانت الإحالة المقالية القبلية، ثم المقامية ولم ترد في الحديث إحالات مقالية
بعدية.
في هذا الحديث نجد أنفسنا
أمام أحد عشر نصًا فرعيًا داخل نص إطار يجمعها كلها في ترابط غاية في الدقة
والإحكام، ونجد كل نص من هذه النصوص متماسكًا مع نفسه كأنه جملة واحدة، فكل زوجة
من الزوجات تصف زوجها وصفًا معبرًا عن حاله موحيًا في
ألفاظه، ومن وسائل هذا التماسك الإحالة بالضمائر الشخصية التي انتظمت الحديث
الشريف من أوله إلى آخره، نجدها في كلام
كل زوجة على حدة، ثم ارتبطت نصوص الزوجات ببعضها عن طريق وسيلة أخرى من وسائل
التماسك وهي التكرار لكلمة زوجي وهذا ما سيأتي في مبحث السبك المعجمي، ويمكن إدراك
أثر الضمائر في تماسك الحديث عن طريق بعض الأمثلة، ومن ذلك:
المحال عليه (أبو زرع) وهو
الشخصية الرئيسة في الحديث:
أَناس (هو)، ملأ (هو)، بجحني
(هو)، وجدني (هو)، جعلني (هو)، فعنده (الهاء)، أبيها (الهاء)، فلقي(هو)، فطلقني
(هو)، نكحها (هو)، بعده (الهاء).
المحال عليه (الزوج السادس): الضمير المستتر
في: أكل، لف، شرب، اشتف، اضطجع، التف، يولج، ليعلم.
ومن هذين المثالين نجد أن
ثمة تركيزًا على الضمائر أكثر من أي عناصر إحالية أخرى؛
لما فيها من اختصار واقتصاد أسلوبي وثبات معنوي في النص ودقة دلالية؛ إذ يشير
اللفظ إلى العنصر الإشاري من دون الحاجة لتكراره، فيمنع ذلك اللبس والغموض
والتناقض وينتقل بالنص من رتابة الأسلوب إلى الإحكام النصي والاتساق جميعًا معًا([27]).
وكذلك إذا تناولنا كلام كل
زوجة من الزوجات نجد أنها تعتمد على الضمائر في سبك كلامها، وعند التأمل في وصف أم
زرع نجد أنها عندما تحدثت عن أبي زرع استمرت في حديثها باستعمال ضمير الغائب إلى
أن ذكرت قصة طلاقها ثم زواجها بزوج غير أبي زرع بدأت بالحديث عن هذا الزوج الجديد
بضمير الغائب أيضًا ثم التفتت إلى ضمير المخاطب في قولها على لسانه: كلي أم زرع
وميري أهلك، إشارة منها إلى أنها الآن في كنف هذا الزوج، ثم عادت للحديث عنه بضمير
الغائب في قولها: أعطاني، ما بلغ؛ لتؤكد على أنها ما زالت تحب أبا زرع وما ذكرت
هذه القصة إلا زيادة في مدحه وتأكيدًا لحبها له.
2.1.3. أسماء الإشارة
الإشارة لغة من أشار: يقال
أَشار الرّجل يُشير إِشارةً إِذا أومأ بيديه. ويُقال: شَوَّرْت إِليه بيدي وأَشرت إِليه
أَي لَوَّحْت إِليه وأَلَحْتُ أَيضًا. وأَشارَ إِليه باليد: أومأ، وأشار عليه
بالرَّأي، وأَشار يُشير إِذا ما وجَّه الرَّأي([28]).
واصطلاحًا: يعرّف النحاة أسماء الإشارة بأنه: اسم مظهر دال
بإيماء على اسم حاضر حضورًا عينيًا، أو ذهنيًّا([29])،
وقد أسماها سيبويه (ت.180هـ، 796م) الأسماء المبهمة ([30])، ولعل
هذا الإبهام هو من جعل ابن هشام (ت.761هـ، 1360م) يعدها من روابط الجملة ([31]).
والإحالة الإشارية تسهم بدور
كبير في تماسك النص، وقد وردت الإحالة الإشارية في حديث أم زرع مرة واحدة فقط، وهي
قول الزوجة العاشرة: "مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ"، إذ تشير هذه الزوجة إلى كلام
الزوجات السابقة مما يجعل النص الخاص بهذه الزوجة متماسكًا مع ما قبله من نصوص
للزوجات.
3.1.3. الأسماء الموصولة:
الاسم الموصول هو الذي لا يتم بنفسه فهو اسم مبهم لا
يزول إبهامه إلا بالصلة، إذن فهو دائم الافتقار إلى كلام بعده يتصل به برابط ما؛
ليتم اسمًا فإذا تم بما بعده كان كسائر الأسماء ([32])، ويسهم الاسم الموصول في سبك النص؛ لأنه يربط أجزاء
الجملة بعضها ببعض أو بين الجمل المختلفة، علاوة على أنها تربط النص بسياقه
المقامي الذي قيل فيه([33]).
وقد ورد الاسم الموصول في الحديث الشريف في قول الزوجة
الخامسة:" وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ "أي إن الذي عهده مما يتعلق
بشؤون البيت، فقد جاءت الإحالة هنا مقامية تحيل إلى عنصر لغوي غير موجود في النص
وهو شؤون البيت، وقد ساهم ذلك في تماسك نص هذه الزوجة فهي تتحدث عن حال زوجها داخل
البيت أو خارجه.
2.3.العطف:
العطف لغة ما دل على انثناء وعياج، عطف عليه بعطف
عطفًا رجع عليه بما يكره ... يقال عطف فلان إلى ناحية كذا يعطف عطفًا إذا مال إليه
وانعطف نحوه ([34]).
وأما في الاصطلاح فهو تابع موضح أو مخصص، جامد غير مؤول([35])، وهو حمل الاسم على الاسم،
أو الفعل على الفعل، أو الجملة على الجملة، بشرط توسط حرف بينهما من الحروف
الموضوعة لذلك ([36]).
والعطف هو أحد الأدوات التي تؤدي إلى التماسك النصي، وهو
"عبارة عن وسائل متنوعة، تسمح بالإشارة إلى مجموعة المتواليات السطحية، بعضها
ببعض، بطريقة تسمح بالإشارة إلى هذه المتواليات النصية"([37]).
وتُعد أدوات العطف من أدوات التماسك والانسجام داخل
النص، وبمعنى آخر تعد أدوات ذات وظائف دلالية وبلاغية، والعطف يقوم بتوليد علاقات
دلالية أفقية على مستوى الجملة، وعلاقات دلالية رأسية بين الفِقر في بنية النص؛ علاوة
على أنه يربط بين الجمل على المستوى الخطي، فأدوات العطف تجعل من المتتالية الجملية مسارًا خطيًّا متماسكًا([38]).
وقد اهتم النصيون بقضية
العطف، ودوره في العملية النصية اهتمامًا بالغًا، ومن أكثر ما يبرز هذا الاهتمام
تصنيفهم العطف في ضمن أدوات التماسك النصي، بل نصّوا على كثير من أبواب التوابع في
ضمن هذه الروابط، "فيذكر هاليداي: أننا نستطيع أن نصنف العلاقات الدلالية إلى
عدد من الفصائل الجلية، هي: المرجعية، الإبدال، الحذف، العطف، ثم التماسك المعجمي)
وهي فصائل تمثل روابط واضحة للتماسك"([39]).
والواقع أن علماء العربية قد فطنوا إلى دواعي
الاستعمال اللغوي لحروف العطف، وأدركوا أهميتها في تحقيق التماسك على مستوى
الجملة، والجملة أكثر على مستوى النص. يقول ابن يعيش (ت 643ه، 1245م): "الغرض
من عطف الجمل ربط بعضها ببعض واتصالها والإيذان بأن المتكلم لم يُرد قطع الجملة
الثانية من الأولى، والأخذ في جملة ليست من الأولى في شيء"([40]).
وقد وردت حروف العطف في حديث أم زرع على النحو
التالي:
وردت الواو (29) مرة، ووردت الفاء (10) مرات، ووردت
(أو) ثلاث مرات.
ومن استعمال الواو قول أم زرع:" أَنَاسَ مِنْ
حُلِيٍّ أُذُنـَيَّ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي "فقد جاءت
الواو لتعطف الأفعال ملأ، وبجحني على الفعل أناس، وقولها: "صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ
وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ" لعطف أطيط، ودائس، ومنق، على صهيل فهي تعدد أفضال أبي
زرع عليها سواء كانت خاصة بزينتها ومظهرها من حلي ولباس وطيب طعام وشراب جعلها
ممتلئة العضد من الشحم أو بحالتها النفسية يظهر ذلك في الفعل بجحني، أو بحالتها
المادية، فقد جمع لها كل أنواع الخير من الخيل والإبل والزروع والغلال. وقد نوعت
أم زرع في استعمالها لحروف العطف بين الواو والفاء كل في موضعها، فالواو تدل على
مطلق الجمع، والفاء تدل على السرعة والتعقيب، ومن ذلك عطف فجعلني على وجدني لتدل
على سرعة تغير حالها بمجرد زواجها من أبي زرع.
ويتضح مما سبق أن حروف العطف أدت إلى سبك النص عن
طريق ربط المفردات أو الجمل بعضها ببعض، زيادة على الوظيفة الدلالية التي أداها
معنى حرف العطف نفسه.
3.3.
الحذف:
الحذف أحد طرق الإيجاز وهو " إسقاط كلمة من بناء
الجملة، وقد تكون هذه الكلمة ركنًا من أركانها كالمبتدأ، أو الخبر، أو الفعل، أو
الفاعل، وقد تكون حرفا، وقد تحذف الجملة كجملة جواب الشرط أو جملة جواب القسم عند
اجتماع شرط وقسم" ([41]).
ويعبر عبد القاهر الجرجاني عن سر الحذف فيقول "
هو بابٌ دقيقُ المسلك لطيفُ المأخذ عجيبُ الأمر شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك
الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإِفادة أزيد للإِفادة، وتجدك أنطق ما تكون إِذا
لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِن"([42]).
وقد تحدث النصيون عن الحذف بعبارات لا تختلف عن عبارات النحاة العرب،
فيقول بوجراند فيه أنه: استبعاد العبارات السطحية التي
يمكن لمحتواها المفهومي أن يقوم في الذهن، أو أن يوسع،
أو أن يعدل بواسطة العبارات الناقصة ([43]).
ومما تقدم نجد أن النحاة والبلاغيين القدامى قد
تحدثوا عن الأثر البلاغي للحذف لدرجة أن منهم من قَصرَ البلاغة على الإيجاز، ومنهم
من بيَّن أن الفصاحة قد تكون في عدم الذكر، كما يظهر من كلامهم أن هذا الحذف يؤدي
إلى سبك النص؛ إذ يؤدي إلى تحريك ذهن المتلقي في ماهية المحذوف وتقديره، وربطه ذلك
التقدير بمعلومات النص سواء كانت داخل النص أو أحال النص إليها، زيادة على عدم
التشتيت الذي قد يؤدي إليه طول الجملة.
وللحذف شروط منها: "وجود القرينة الدالة على
المحذوف"([44])،
وهذه القرينة تكون "بحكم التضام، أو فهم من سياق الجملة، أو اعتماد على
المسرح اللغوي كله"([45]).
إذًا يجوز الحذف إذا دل على المحذوف دليل بشرط أن
يكون المعنى واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
وقد ورد حذف الحرف والاسم والفعل في حديث أم زرع، فمن
حذف الحرف قول الزوجة التاسعة "قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ" فقد
حذفت الياء من النادي؛ وذلك للسجع ولا يخفى أثر السجع في ربط الذهن بالجمل المتتالية
المسجوعة في تماسك الجمل ولاسيما إذا لم يكن مجلوبًا
متكلفًا، ويلاحظ هنا أن السجع لم يكن محسنًا بديعيّا شكليًا وحسب، بل له عمق معنوي
إذ أشعرنا بقرب بيت هذا الزوج من الناد، الأمر الذي يتناسب مع حذف الياء فلا وقت
للتلفظ بها كما أن الذهاب إلى بيته لا يستغرق وقتًا.
ومن حذف الاسم في حديث أم زرع حذف المبتدأ في قول
الزوجة الأولى: (لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ)، والتقدير:
لا الجبل سهل فيرتقى، ولا اللحم سمين فينتقل، وقد دل على ذلك السياق فقد قالت:
زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ. وقد حصل جرّاء هذا الحذف تكثيف
معنوي لأنه يطلق عنان التأويل لتقديرٍ آخر وهو: لا زوجي سهل فيرتقى ولا هو سمين
فينُتقل فيكون استعارة كنائية بتشبيه الزوج بالجبل الوعر واللحم الهزيل، فالحذف
هنا فتح الباب لكل هذه المعاني ويسّر توحيد المشبه والمشبه به فيصلح المحذوف للجبل
والزوج معا وهذا مما يعزز التماسك في النص.
ومن حذف الاسم في الحديث حذف خبر لا النافية للجنس في
قول الزوجة الرابعة: "لا حرَّ ولا قرَّ ولا مخافةَ ولا سآمةَ.
وحذف المفعول به في (وَلَا
يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ)، والتقدير عما عهده، وفي (فلو جمعتُ كلَّ شيءٍ أعطاني
ما بلغَ أصغرَ آنيةِ أبي زرع)، والتقدير: أعطانيه، كما
حذف المفعول به من الأفعال: أكل، لفّ، شرب، اشتف، أقول، أتصبح، أشرب، أتقنح.
وحذف المضاف إليه والتعويض عنه بــ (أل) في قولها: (الرِّيحُ
رِيحُ زَرْنَبٍ، وَالْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ) والتقدير: ريحه، ومسه، فقد أجاز
الكوفيون وبعض البصريين وكثير من المتأخرين نيابة أل عن الضمير المضاف إليه، وقيد
ابن مالك الجواز بغير الصلة([46]).
وقد حذف الموصوف في قول أم زرع: (فَجَعَلَنِي فِي
أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ)، والتقدير: خيل صهيل، وإبل أطيط، وزرع
دائس، وحصاد منق، فالصهيل صوت الخيل، والأطيط صوت الإبل والدائس بمعنى مدوس الزرع
الذي يُداس بعد الحصاد، والمنق الغِلال التي تُنقى من التبن ونحوه بالغربال. وهو
حذف كثَّف الصورة البيئية الصوتية وجعلها تعجّ بالحياة والحركة. وكذلك حذف الموصوف
من قولها: (رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا)، والتقدير فرسًا شريًّا، رمحًا
خطيًّا.
والحق أن أجمل حذف حصل في الحديث جاء في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت
لك كأبي زرعٍ لأم زرعٍ) فحذف وجه الشبه الذي يعبر عنه وصف أم زرع لأبي زرع على طول
ما ذكرت. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة إلى موضع المثل المكثف أو العنوان
المعبّر عما وراءه.
والحاصل أن الحذف أسهم في سبك النص عن طريق دفع
التكرار في الكلام، ويترك التقدير للمتلقي معتمدًا على ما يمتلكه من أدوات معرفية،
فمعرفة الكلام المحذوف يعتمد على ذكاء القارئ والسامع، وإثارة حسه وبعث خياله،
وتنشيط نفسه.
4.المطلب الرابع: السبك المعجمي في حديث أم زرع:
السبك المعجمي من الوسائل التي تساهم في تماسك النص،
وهو الرابط الذي يتحقق عن طريق اختيار المفردات عن طريق إحالة عنصر إلى عنصر آخر،
فيحدث الربط بواسطة استمرارية المعنى، ويتحقق السبك المعجمي عن طريق وسيلتين هما
التكرار والتضام.
1.4. التكرار:
التكرار لغة: من الكر وهو الرجوع، كرر الشيء وكركره:
أعاده مرة بعد أخرى([47])،
أما في الاصطلاح فقد عرفه ابن الأثير (ت 637هـ) بقوله: "واعلم أن هذا النوع
من مقاتل علم البيان، وهو دقيق المأخذ. وحده هو: دلالة اللفظ على المعنى مرددا"
([48])،
وإنما قال من مقاتل علم البيان لأنه مفسد له إن جاء من غير سبب وجيه وفائدة
بلاغية، و"غير المفيد منه لا يأتي في الكلام إلا عيًا وخطلًا من غير حاجة
إليه" ([49]) .
أما التكرار الملحوظ في حديث أم زرع فله فائدة جليلة
في تحديد القضية الأساسية للنص بالتأكيد على المحتوى المعين، أو بتكرار
الكلمات المفاتيح.
وينقسم التكرار في حديث أم زرع على:
أ – تكرار مباشر للعنصر المعجمي: ويطلق عليه التكرار
البسيط ويحدث عندما يتكرر العنصر المعجمي من دون تغيير([50])،
وتجده في حديث أم زرع في تكرار كلمة (زوجي) اثنتا عشرة مرة، وهي الكلمة المحورية
للحديث فهو حديث زوجات تتحدث كل واحدة منهن عن زوجها، وكلما انتهت زوجة من حديثها
بدأت التالية حديثها بكلمة (زوجي)؛ ليظل ذهن القارئ منتبهًا رابطًا أجزاء النص
ببعضها، فعلى الرغم من تعدد المتكلمين في هذا النص، الأمر الذي قد يفرض تفككًا، نجد
أن تكرار هذه الكلمة المحورية وحَّد وربط أجزاءه ربطًا محكمًا؛ فلم تخرج زوجة من
الزوجات عن القضية الأساسية التي يدور حولها المجلس وهي قضية وصف الزوج أو الإخبار
بخبره، وفي مقدمة الحديث جاءت كلمة (أزواجهن) بالجمع وفي هذا إجمال وما بعده
تفصيل، وقد ادى ذلك إلى ربط النص الإطار بالنصوص الجزئية ربطًا محكمًا.
وتكرار المركب الإضافي (أبو زرع) ثلاث عشرة مرة؛ وذلك
لتجعل من (أبي زرع) الشخصية الأساسية التي يدور حولها الوصف، بل ما يتصل بها من
أحداث وشخصيات، وقد نسبَت كل ما يتصل به إليه: أمه وابنه وابنته وجاريته، وفي هذا
دلالة على حب هذه المرأة لزوجها على الرغم من أنه طلقها ونكح غيرها وما زالت تحبه،
وقد ساهم هذا التكرار في سبك النص عن طريق امتداد عنصر ما من بداية حديث هذه
الزوجة إلى نهايته.
ب – التكرار الجزئي: ويقصد به استعمال المكونات
الأساسية للكلمة( الجذر الصرفي) مع نقلها إلى فئة أخرى([51])،
ونجد التكرار الجزئي في حديث أم زرع في تكرار مادة أكل: أكل، كلي ، وعلى الرغم من
اختلاف دلالة كل منهما فقد جاءت (أكل) في معرض ذم الزوجة السادسة لزوجها فهو يأكل
جميع ما يقدم إليه من دون انتباه لها، وجاء الأمر (كلي) في مدح أم زرع لأبي زرع
فهو دليل على إكرامه لها ولأهلها، وهذا الامتداد اللفظي لكلمة أو جذر صرفي مع
اختلاف الدلالة في كل مرة يلفت انتباه السامع ويساهم في تماسك النص علاوة على
عوامل أخرى كالإحالة.
2.4. التضام (المصاحبات المعجمية):
وهو من أنواع الربط المعجمي، حيث يرتبط عنصر بعنصر
آخر عن طريق الظهور المشترك المتكرر في سياقات متشابهة([52])،
وهو أحد المعايير النصية التي تسهم في الترابط النصي على المستوى المعجمي، إذ إنه
عبارة عن: "توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظرًا لارتباطهما بحكم هذه
العلاقة أو تلك"([53])،
ويندرج تحت هذه العلاقات علاقة التلازم الذكري أو كما يسميها علماء البلاغة مراعاة
النظير، وعلاقة الترادف، ومن صور التضام: التقابل والتضاد، علاقة الجزء بالجزء
وعلاقة الجزء بالكل، والتضام عن طريق المشترك اللفظي([54]).
ومن علاقات التضام في حديث أم زرع التلازم الذِّكري
في عُجَرَه وَبُجَرَه، أكل وشرب، إبل والمبارك والمسارح، حلي وأذني، وشحم وعضدي.
فالتلازم بين هذه المفردات أدى إلى سبك النص عن طريق تجاور هذه الألفاظ فالعُجر
والبُجر متقاربان في اللفظ والمعنى؛ فالعُجرة نفخة في الظهر فإن كانت في السرة
فهي بُجرة([55])،
وهما صفتان ذميمتان، والتعبير بالعجر والبجر- وإن كان مجازيًا هنا بمعنى الظاهر والباطن-
يستخدم في المذموم من العيب أو من الهم والغم، وكذلك الأكل والشرب متلازمان،
والإبل تلزمها المبارك والمسارح. ويزداد السبك كلما زاد التلازم بين الكلمات كما
في هذه الأمثلة فلا تكاد تلفظ كلمة حتى تتبعُها الأخرى.
ومن علاقات التضام في حديث أم زرع التقابل بين:
وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ
وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ؛ إذ تقارن أم زرع بين حالتها قبل أن تتزوج بأبي زرع
وحالتها مع أبي زرع بأنها كانت في حالة من شظف العيش وقلة المال ونقلها أبو زرع
إلى رغد العيش وكثرة المال وتنوعه، وقد ساعد هذا التقابل في سبك النص؛ إذ يربط ذهن
القارئ أو السامع بين الجملتين المتقابلتين بالمقارنة بينهما للوصول إلى سبب من
أسباب مدح أم زرع لأبي زرع.
ومن علاقات التضام في الحديث الشريف علاقة الجزء
بالكل، فقد تحدثت أم زرع عن زوجها وما يتعلق به: أمه وابنه وبنته وجاريته إشارة
منها إلى محبتها لأبي زرع؛ فالإنسان إذا أحب شيئًا فإنه يكثر من ذكره وذكر ما
يتعلق به، ونسبة كل ما يتعلق بأبي زرع إليه ساهم في سبك النص سبكًا محكمًا.
خاتمة
توصل البحث إلى النتائج الآتية:
ساهمت وسائل التماسك النصي في سبك بنية النص وربطه
وتماسكه من ناحية ومن ناحية أخرى ساهمت في توحيد الوظيفة الدلالية في حديث أم زرع
في التركيز على الموضوع الرئيس الذي يدور حوله الحديث وهو وصف الأزواج.
من وسائل التماسك النصي في حديث أم زرع: الإحالة
المقالية التي ربطت العناصر اللغوية بعضها ببعض، داخل الحديث نفسه وربطت أوله بآخره،
ومنها العطف الذي ساهم في ربط المفردات والجمل ربطًا قويًا، وقد تنوع استعمال حروف
العطف بحسب السياق؛ فقد استعملت الواو لمطلق الجمع بين مظاهر الترف النفسية
والمادية التي منحها أبو زرع لأم زرع، واستعملت الفاء لتدل على سرعة تغير حال أم
زرع بزواجها من أبي زرع، ومنها أيضًا: الحذف الذي ساهم في منع الإطالة المؤدية إلى
تشتت المتلقي للنص سامعًا أو قارئًا، وفي الوقت نفسه يلفت انتباهه وينشط ذهنه
لتقدير المحذوف.
وقد ساهم السبك المعجمي الذي تمثل في التكرار والتضام
أو المصاحبات المعجمية في تماسك حديث أم زرع؛ فقد تمثل التكرار في تكرار لفظ الكلمة
المحورية (زوج)، يليها لفظ (أبو زرع)؛ للتأكيد على قضية وصف الزوجات لأزواجهن، كما
يؤكد على حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته. وتمثلت المصاحبات المعجمية في الترادف والتضاد
والمقابلة والتلازم الذكري وعلاقة الجزء بالكل مما ساهم في سبك النص؛ لأنها لا
تفهم منعزلة عن مصاحباتها.
الإحالة في نحو النص، أحمد عفيفي، القاهرة: دار كتب عربية، د.ت.
الأنوار اللمعة في الجمع بين الصحاح السبعة، ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري، تحقيق:
سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، 2006م.
التماسك النصي في جزء عمَّ، نوال فالح
محمد ربابعة، الأردن: جامعة
اليرموك كلية الآداب، قسم اللغة العربية، دكتوراه، 2015م.
التماسك النصي: دراسة تطبيقية في نهج البلاغة، عيسى جواد فضل، الأردن: الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا، 2005م.
جامع المسانيد والسنن، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي،
دمشق: دار الفكر، 1994م.
الجمع بين الصحيحين، ابن الخراط، عبد الحق بن عبد الرحمن القاضي أبو محمد الإشبيلي، تحقيق:
حمد الغماس، الرياض: دار المحقق للنشر والتوزيع، ط1، 1419ه/ 1999م.
الجمع بين الصحيحين، الحميدي، محمد بن فُتوح، تحقيق: علي البواب، بيروت: دار ابن حزم، 2002م.
التماسك النصي بالإحالة، حمادة عبد الإله حامد، حولية كلية اللغة العربية بجرجا، العدد: 19، 2015/2016م.
الخصائص، ابن جني، عثمان، تحقيق: محمد النجار، بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1990م.
دلائل الإعجاز في علم المعاني، الجرجاني، عبد القاهر، تحقيق: محمود محمد شاكر، القاهرة، مكتبة الخانجي
ط5، 2004م.
سورة هود دراسة في ضوء نحو النص، عادل علي عبد الرحيم مناع، القاهرة: جامعة القاهرة، دكتوراه، 2009م.
شرح المفصل، ابن يعيش، أبو البقاء يعيش بن علي، بيروت: دار
الكتب العلمية، ط1، 2001م.
شرح تسهيل الفوائد، ابن مالك، جمال الدين محمد بن عبد الله، تحقيق: د. عبد الرحمن السيد، د.
محمد بدوي المختون، الجيزة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط1، 1990م.
شرح كتاب
الحدود في النحو، الفاكهي عبد الله أحمد، تحقيق: المتولي رمضان، القاهرة: مكتبة وهبة، ط2،
1993م.
شعر أبي تمام دراسة نحوية، شعبان صلاح، القاهرة: دار الثقافة، ط1، 1991م.
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج
النيسابوري، إستانبول: دار الطباعة العامرة،1334ه/1916م.
علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، صبحي إبراهيم الفقي، القاهرة: دار قباء، ط1، 2000.
علم لغة النص النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، القاهرة: مكتبة الآداب، ط1، 2007م.
علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد حسن بحيري، القاهرة: الشركة المصرية
العالمية لونجمان، ط1، 1997م.
في البلاغة العربية والأسلوبيات
اللسانية آفاق جديدة، سعد مصلوح، الكويت: جامعة الكويت، مجلس النشر
العلمي، 2003م.
كتاب المؤتمر الثالث للعربية والدراسات النحوية:
العربية بين نحو الجملة ونحو النص، أحمد عفيفي، القاهرة: كلية
دار العلوم، جامعة القاهرة، فبراير، 2005م.
الكتاب، سيبويه، عمرو بن عثمان،
تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة: مطبعة الخانجي 1988م.
لسان العرب، ابن منظور، القاهرة: دار
المعارف، د.ت.
لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، لبنان: بيروت، المركز الثقافي
العربي، ط1، 1991م.
اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان، المغرب: الدار البيضاء، دار الثقافة، 1994م.
المعجم الكبير، الطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي أبو القاسم،
تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي. ط2، الموصل: مكتبة العلوم والحكم، 1404ه/1983م.
معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية، محمد إبراهيم عبادة، القاهرة: مكتبة الآداب،
ط3، 2005م.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، أبو محمد عبد الله جمال الدين، تحقيق: مازن مبارك،
دمشق: دار
الفكر، 2005م.
مقالات في اللغة والأدب، تمام حسان، القاهرة: عالم
الكتب، ط1، 2006م.
المقرب، ابن عصفور، أبو الحسن علي
بن مؤمن، تحقيق: أحمد الجواري، عبد الله الجبوري، بغداد:
مطبعة العاني، ط1، 1972م.
مناهج المحدثين، آل حميد، سعد بن عبد الله، الرياض:
دار علوم السنة، 1999م.
مناهج النقد المعاصر ومصطلحاته، صلاح فضل، القاهرة: بيروت للنشر والمعلومات، ط1، 2002م.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، محيي الدين يحيى بن شرف النووي، بيروت: دار إحياء التراث العربي،
ط2، 1392ه/ 1972م.
نحو النص: اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي.، القاهرة: مكتبة زهراء الشرق، 2001م.
نسيج النص: بحث فيما يكون به الملفوظ نصًّا، الزناد الأزهر، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1993م.
النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة: تمام حسان، القاهرة:
عالم الكتب، ط1، 1998م.
([19]) العربية بين نحو الجملة ونحو النص: 2/525.
([27]) التماسك النصي بالإحالة دراسة تطبيقية في سورة الواقعة: 6/ 5101.
([46]) مغني اللبيب: 1/77، وقد عد بعض المتأخرين هذه المسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين. وأنكر ذلك أبو الحسن علي بن محمد بن علي المعروف بابن خروف (ت. 609هـ، 1212م) وقال: لا ينبغي أن يجعل بينهما خلافٌ، لأن سيبويه قد جعل الألف واللام عوضًا من الضمير في قوله في باب البدل: "ضُرِبَ زيدٌ الظَهرُ والبطنُ" وهو يريد: ظهره وبطنه، ولم يقل الظهر منه ولا البطن منه. انظر: شرح التسهيل: 1/ 262.