الرمز في عنوان الرواية ما
بعد الحداثية
روايتا "سرايا بنت الغول" و"لعبة دي نيرو" أنموذجا
أ.د. نهاد المعلاوي
كليّة العلوم
الإنسانيّة والاجتماعيّة، تونس
البريد الإلكتروني: nihedmouhaj@gmail.com
معرف (أوركيد): 0000-0002-4730-1818
بحث أصيل |
الاستلام: 1-11-2022 |
القبول: 25-4-2023 |
النشر: 30-4-2023 |
الملخص:
العنوان الرّوائيّ "كائنٌ اجتماعيٌّ" تتغيّر صياغتُه من عصرٍ إلى آخر، وتتحوّل وتتطوّر بتطوّر الأجناس الأدبيّة، والحياة الفكريّة، والمعطيات الاِجتماعيّة، وهو ما تقوم دليلًا عليه عناوين روايات الحساسيّة الجديدة الّتي قطعت مع مفاهيم "الاِنعكاس" و"الواقعيّة" و"المباشرتيّة"، وتحوّلت إلى موقعٍ من مواقع الصّنعة الأدبيّة القائمة على مفاهيم "الخرق" و"الاِنزياح" و"التّكثيف" و"الإيحاء"، وهي مفاهيم فتحت أفق القراءة على تنوّع التّأويلات وتعدّدها، وقد قاد اِلتقاء هذه الخصائص (التّحوّل والتّنقّل والتّعدّد والتّكثيف والإيحاء) في عتبة عنوان الرّواية الجديدة، إلى أنْ شرّعت أبوابها أمام الرّمز الّذي يقاسمها نفس الخصائص، فقد وجدت فيه طاقاتٍ دلاليّةً تُوسّع أفق القراءة، وتُغنيها، وتُشيّد للعنوان سيميائيّته الّتي تحوّله إلى علامةٍ تختبئ خلف سطحها اللّغويّ المختزل طبقاتٌ دلاليّةٌ، تكشف عنها الدّراسة السّيميائيّة الّتي سنتّخذ منها منهجًا في تأويل عنواني روايتي "سرايا بنت الغول" لإميل حبيبي و"لعبة دي نيرو" لراوي حاج المكوّنتين لمدوّنة هذا البحث.
الكلمات المفتاحية:
ما بعد حداثيّة، نيوكولونياليّة،
عتبة العنوان، رمز، توسيع الرّمز، استحداث الرّمز
للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation المعلاوي، نهاد. (2023). الرّمز في عنوان الرّواية ما بعد الحداثيّة: روايتا "سرايا
بنت الغول" و"لعبة دي نيرو" أنموذجا. ضاد مجلة لسانيات العربية
وآدابها. مج4، ع7، 99- 145 https://www.daadjournal.com/ /
The Symbol in
the Title of the Postmodernist Novel: "Saraya Bint
El Ghoul" and "loubatou Deniro"
Models.
Prof. Dr. Maalaoui Nihed
Faculty of Humanities and Social Sciences,Tunis
E-mail: nihedmouhaj@gmail.com
Orcid ID: 0000-0002-4730-1818
Published: 30.04.2023 |
Accepted: 25.04.2023 |
Received:
01.11.2022 |
Research
Article |
Abstract:
The title of the novel is a social object that
changes from one age to the next, and transforms and evolves with the
development of literary genres, intellectual life, and social data. This is
evidenced by the titles of new sensitivity novels, which were cut with the
concepts of "reflection", "realism" and
"directivity" On the concepts of "breach",
"displacement", "condensation" and "inspiration",
concepts that opened the horizon of reading on the diversity of interpretation
and multiplicity. The convergence of these characteristics (transformation,
mobility, multiplicity, condensation and revelation) led to the title paratext of new novel, until it opened its doors to the
symbol, shared by the same characteristics. It has found the energies of the
expansion of the reading, and enrich
reading, and tribute of the title a semiotic turning it in to a sign, hiding
behind the surface of the language reduces, the semantic layers revealed by the
semiotic study, wich we will take a method in the
interpretation of the titles of the novels “ saraya bint al ghoul” by novelist “emile
habibi” and “denero’s game”
by novelist “rawi hajj”.
Keywords:
post-modernism,neocolonialism,
title, paratext, symbol, expand symbol, create a symbol.
تقديم:
مازال الرّمز، بوصفه مقولةً ثقافيّةً، يمارس كلّ ألوان الغواية والسّحر على
الإنسان، حتّى جعل منه هذا الأخير أساسًا لكلّ تنظيماته ومؤسّساته وعلومه وفنونه ولُغاته،
وقد حمل هذا الحضور المكثّف للرّمز في حياة البشر صاحب كتاب "فلسفة الرّمز"
على تعريف الإنسان بأنّه حيوانٌ رمزيّ، وبهذا التّعريف، يؤكّد )كاسيرر(
أنّ قدرة الإنسان على الاِنفصال عن المباشر الملموس، وتفكيره بالرّموز،
شرطٌ أساسيٌّ من شروط إنسانيّته، ذلك أنّ "السّلوك غير الرّمزيّ عند الإنسان العاقل
هو سلوك المرء من حيث هو "حيوانٌ"، أمّا السّلوك الرّمزيّ فهو سلوك الشّخص
نفسه من حيث هو إنسانٌ"([1])،
فسلوك الإنسان الرّمزيّ لا ينشأ من عجزٍ عن التّعبير باللّغة، وإنّما من نزعةٍ نحو
التّجريد والإيحاء والتّلميح، خرقًا للحجب، ونفاذًا للأصقاع الخفيّة، وكشفًا عن أسرار
الوجود، وقبضًا على الجوهر، وهكذا يقف الرّمز دليلًا ساطعًا على اِرتقاء الإنسان في
سلّم المعرفة، وعلى التّطوّر الّذي طرأ على أفكاره وعواطفه، وعلى نضج نظرته إلى الكون،
وعلى تنظيم علاقته به، فقد نجح الرّمز في تخليص الإنسان مِن قيود المكان والزّمان،
ومِن أعباء المباشر والتّقريريّ والمحسوس والماثل والعينيّ والجزئيّ والفرديّ، ومِن
ثقل التّسمية والتّصريح والوضوح، ليتخطّى الظّاهر والسّطحيّ والتّافه واليوميّ نحو
"درجةٍ عليا تتعدّد فيها مستويات الدّلالة، وتعمُق، ويصل فيها الذّهن إلى خصوبةٍ
فكريّةٍ تمكّنه مِن إدراك العلاقات والنّماذج والصّيغ والكلّيّات"([2])،
ويتمّ فيها التّعبير عن الأفكار والعواطف "ليس بوصفها مباشَرةً، ولا بشرحها من
خلال مقارناتٍ صريحةٍ وبصورةٍ ملموسةٍ، ولكن بالتّلميح إلى ما تكون عليه صورة الواقع
المناسب لهذه الأفكار والعواطف، وذلك بإعادة خلقها في ذهن القارئ من خلال استعمال رموزٍ
غير مشروطةٍ"([3])
لا تحلّل الواقع، ولا تمثّل شيئًا بعينه تمثيلًا محضًا، وإنّما تعمل على تكثيف الواقع
تكثيفًا يضفي عليه مسحةً من الغموض الموحي، فتنفتح الرّموز
على تأويلاتٍ متنوّعةٍ ولا محدودةٍ، وتقطع مع الدّلالة الواحدة الّتي لا تقبل التّنويع،
وتنفر من الثّبات، وتميل إلى الحركة والتّنقّل والحياة، فالرّمز-كما يذهب إلى ذلك )أرنست كاسيرر(-
"عامّ الاِنطباق، أي يوحي بأكثر من شيءٍ واحدٍ، وهو متحرّكٌ ومتنقّلٌ ومتنوّع"([4])،
وقد حملت هذه السّمة -الّتي يختصّ بها الرّمز- المنظّرين على التّمييز بينه وبين مجموعة
من المفاهيم الّتي تتلبّس به، من قبيل المجاز والاستعارة والدّليل اللّغويّ والشّعار
والإشارة، فإذا كان المجاز تجسيدًا وتجسيمًا لحقيقةٍ مجرّدةٍ، ومجرّد انتقالٍ من معرفةٍ
ضمنيّةٍ إلى معرفةٍ مجسّدةٍ تتساوى معها في الدّلالة، فإنّ الرّمز -على حدّ قول )اشبنجلر(-
"لمحة من لمحات الوجود الحقيقيّ يدلّ عند النّاس ذوي الإحساس الواعي على شيءٍ
من المستحيل أن يترجم عنه بلغةٍ عقليّةٍ"([5])؛
إذ يتبدّى الرّمز لنا من خلال لغةٍ لا يمكن تعويضها ولا ترجمتها، فهو "أفضل طريقةٍ
للإفضاء بما لا يمكن التّعبير عنه"([6])،
وحسم )بول ريكور( في كتابه "نظريّات
التّأويل، الخطاب وفائض المعنى" الفرق بين الاِستعارة والرّمز، فالاِستعارة ليست
في نظره "سوى إجراءٍ لغويٍّ أي شكل غريب في الإسناد (...) فليست سوى السّطوح اللّغوية للرّموز"([7])،
أمّا الرّمز، فإنّه "ظاهرة ذات بعدين بحيث يشير الوجه الدّلاليّ فيه إلى الوجه
اللّا-دلاليّ"([8])،
ممّا يدخلنا إلى تجاربَ غامضةٍ، تمتدّ جذورها في أصقاع الحياة وأعماق الشّعور، أمّا
)يونغ(، فقد أوضح أنّ الدّليل اللّغويّ أقلّ دلالة من المتصوّر
الّذي يمثّله بينما ينطوي الرّمز على مضمونٍ أكثر اتّساعًا وثراءً من معناه الفوريّ
الحاصل في الذّهن، وقد ثبت أنّ العلاقة بين الرّمز والشّعار تقوم على مبدأ الاِختلاف،
فإذا كان الشّعار صورةً مرئيّةً تعاقدت عليها المجموعة بطريقةٍ اعتباطيّةٍ اصطلاحيّةٍ،
فإنّ "الرّمز مقيّدٌ بالكون"([9])،
وذو جذورٍ ممتدّةٍ في أعماق التّجربة الإنسانيّة، فالرّمز "يتردّد على الخطّ الفاصل
بين الحياة واللّوغوس، فهو يتحقّق في نقطة التّجذّر الأولى
للخطاب في الحياة لأنّه يولد حيث يتطابق القوّة والشّكل"([10])،
وأرجع )آرنست كاسيرر(
في كتابه "فلسفة الرّمز" الفرق بين الإشارة والرّمز إلى
أنّ "الإشارة جزءٌ من عالم الوجود المادّيّ أمّا الرّمز فجزءٌ من عالم المعنى
الإنسانيّ، والإشارة مرتبطة بالشّيء الّذي تشير إليه على نحوٍ ثابت، وكلّ إشارةٍ واحدةٍ
ملموسةٍ تشير إلى شيءٍ واحدٍ معيّن، أمّا الرّمز فعامّ الاِنطباق أي يوحي بأكثر من
شيءٍ واحدٍ وهو متحرّكٌ ومتنقّلٌ ومتنوّع"([11])،
ويتبيّن من خلال هذه الموازنات ما يتميّز به الرّمز عن سائر مكوّنات "الغابة الرّمزيّة"([12])،
لأنّه مبنيّ على ركنين أساسيّين -هما الإيحاء والغموض- يجعلانه "مبعث تفسيرٍ لا نهاية له"([13])
فهو يرفض التّعيين، ويسمو على التّحديد، ويستقي مادّته الأوّليّة من الحياة ومجالاتها
المتنوّعة، ويعبّر عن الواقع بطريقة فنّيّةٍ غير مباشرة.
ولمّا كان الأدب -وخاصّة الأصيل منه- يتعالى عن عمليّة استنساخ ظواهر الحياة،
وينفر من المباشرتيّة والتّقريريّة في تمثيل العالم، ويرتفع
فوق تفاهات الحياة اليوميّة وسراب المحسوس والعينيّ، ويعمل على إظهار "ما هو متميّزٌ
ونموذجيٌّ، ويكشف عن الاتّجاهات في عمليّة تطوّر الواقع"([14])،
فقد وجد في الرّمز ضالّته المنشودة، ولئن فتح الأدب فضاءه للرّمز منذ ظهوره، فإنّ حاجته
إليه قد تضاعفت في الحقبة ما بعد الحداثيّة، ذلك أنّ التّعبير عن إشكالات ما بعد الحداثة،
بما يسودها من لا يقين ونسبيّة، وما يستبدّ بها من رغبةٍ في تفكيك السّرديّات الكبرى
والتّعبير عن التّعدّد في الرّؤى والاِختلاف في زوايا النّظر والهجنة، وجد في الرّمز
ما يحرّر الأدب والأديب معا، ويعطيهما إمكانات أفضل للكشف عن عوالم الرّعب الّتي اشتدّت
فيها المخاوف، وتكشّفت فيها أغرب الأسرار وأشدّها رعبا، من خلف المظاهر المألوفة، ومن
هنا استعاد الرّمز بريقه لما فيه من تكثيفٍ وثراءٍ دلاليّ، واشتدّت حاجة الأدب إليه
لما فيه من طاقاتٍ على تنويع التّأويلات حدّ تصارعها وتقابلها، ولقدرته على النّفاذ
إلى العمق والإمساك بالجوهر والحقيقة.
وقد سعت الرّواية ما بعد الكولونياليّة إلى تفكيك
السّرديّات الكبرى، وفضح إيديولوجيّاتها وخبراتها في ابتداع
أشكال العسف والتّدمير، وقدرتها على تقديمها في شكل شعاراتٍ برّاقةٍ تراوغ وتخاتل ولا
تمنح حقيقتها بيُسرٍ وسهولةٍ، ولم يتسنّ لها ذلك إلّا عبر الاِنفتاح على التّعدّد الدّلاليّ،
والاِحتفاء بالمرور من السّطح إلى العمق، وتشريع أبواب النّصّ أمام الهجنة والاِختلاف
والتّركيب بين المتضادّات والمتنافرات، وهي كلّها من سمات الرّمز وطبيعته، ولم تكتف
الرّواية ما بعد الحداثيّة ببذر الرّموز في متونها، وإنّما فتحت أبوابها أمام التّعدّد
الدّلاليّ منذ عناوين الأعمال الّتي تأتي مشبعة بالرّموز، مفتوحة على تعدّد إمكانات
التّأويل، فقد كفّت عناوين الرّواية ما بعد الحداثيّة عن أن تكون مجرّد مرآةٍ تعكس
موضوع الرّواية، أو مفتاحًا ييسّر على القارئ ولوج عوالمها، وأصبحت، بما تمّ حشده فيها
من طاقاتٍ ترميزيّةٍ، تشتغل بوصفها علاماتٍ أو "دليلًا يلمع إلى معنًى خفيٍّ أو
معنًى مفردٍ للمطّلعين أو معنًى ثانٍ ينضاف إلى المعنى السّطحيّ"([15])،
فتعدّدت دلالاتها، وتأبّت عن القراءة الواحدة، وتعذّر تفكيكها
بسبب التصاقها بالعوالم الاستعاريّة والرّمزيّة.
1. المنهج السّيميائيّ في قراءة الرّمز الرّوائيّ:
حملنا اشتغال عناوين الرّواية ما بعد
الحداثيّة بوصفها علاماتٍ، على اختيار المنهج السّيميائيّ في دراستها، فالسّيميائيّة، بما هي "العلم الّذي يدرس حياة العلامات داخل
الحياة الاِجتماعيّة"([16])
أداةٌ فعّالةٌ تمكّن القارئ من تجاوز البنية السّطحيّة والدّلالات الحَرْفيّة للعنوان،
والنّفاذ إلى بنيته العميقة، واستكناه المعاني الخفيّة الّتي تختبئ تحت كلماته المباشرة
الماثلة للعيان، وهو ما يفتح بوّابة التّأويل على مصراعيها، ويعزّز دور القارئ في هذه
العمليّة الّتي يتحوّل بموجبها من مجرّد مستهلكٍ إلى منتجٍ لنصٍّ جديدٍ، فتأويل القارئ
"يظلّ أساسيّا في كلّ الأحوال بما يمتلكه من ثقافةٍ شخصيّةٍ يسقطها على النّصّ"([17])،
فتتعدّد التّأويلات بتعدّد القرّاء.
وقد وقع اختيارنا في هذا البحث على عنوانين لروايتين ما بعد حداثيّتين هما رواية
"سرايا بنت الغول" للرّوائيّ الفلسطينيّ "إميل حبيبي"، ورواية
"لعبة دينيرو" للرّوائيّ اللّبنانيّ الكنديّ
"راوي حاج"، راعينا في اختيارهما التّنوّع والاختلاف في مصادر الرّمز من
ناحيةٍ، وفي نوعه من ناحيةٍ أخرى، فإذا كان الرّمز في رواية "سرايا بنت الغول"
متجذّرًا في الموروث الحكائيّ الشّعبيّ الفلسطينيّ، تأكيدًا
لتشبّث مؤلّفها بالأرض وبقائه فيها، فإنّ الرّمز في عنوان رواية "لعبة دينيرو" يحيل على عوالم الحداثة الغربيّة، وعلى فنٍّ من الفنون
الّتي نافست الرّواية على عرش الحكي وهو السّينما، وبهذا الانتقاء، يكون "إميل
حبيبي" قد آثر رمزًا عامًّا، يأتي إلى عالم الرّواية محمّلًا بدلالاتٍ أصليّةٍ
يحيّنها الرّوائيّ، ويوسّعها، لتصبح قادرةً على آداء أفكاره
والتّعبير عن واقعه، بينما ينحت "راوي حاج" رمزه الخاصّ من عوالم السّينما
الأمريكيّة، فالرّوائيّ حرٌّ في اختيار رموزه من مصادرَ مختلفةٍ، غير أنّ هذه الحرّيّة
لا تعني الاِعتباطيّة، فالرّمز ينبع من النّصّ الرّوائيّ في حدّ ذاته، ومن تجربة المبدع
الّذي يكتبه، فهو يرتبط بالحالة الفرديّة أكثر ممّا يرتبط بالحالة الجماعيّة.
2. الموروث الحكائيّ الشّعبيّ خزّانٌ
للرّمز: قراءةٌ سيميائيّةٌ في عنوان رواية (سرايا بنت الغول)
للرّوائيّ الفلسطينيّ (إميل حبيبي):
العنوان مفتاح الرّواية، وبوّابتها الرّئيسيّة الّتي تيسّر الولوج إلى عوالمها،
فهو نصٌّ مصغّرٌ، موجزٌ، يجسّد أعلى اقتصادٍ لغويٍّ ممكن، ولكنّه يكشف، في المقابل،
عن فعاليّةٍ تأويليّةٍ تفتحه أمام تعدّد القراءات، وتنوّع التّأويلات، وهو علامةٌ سيميائيّةٌ تتكثّف فيها دلالات المتن، وتتحقّق من خلالها الوظيفة
الإيحائيّة الّتي تهدف إلى إفشاء السّرّ الرّوائيّ وتوحي بما يعتمل في صدر الرّوائيّ
من أحاسيس ومشاعرَ، وما يغلي في ذهنه من أفكارٍ ومواقفَ، يتوصّل إليها القارئ عبر سلسلة
من عمليّات التّأويل أو الكشوفات الّتي ينطلق فيها من المادّة اللّسانيّة الّتي اختارها
الرّوائيّ لتعيين روايته، وللإيحاء بأفكاره ومواقفه، لذلك أظهر الرّوائيّون، وخاصّة
ما بعد الحداثيّين منهم، عنايةً فائقةً بالعنونة الّتي فتحت أبوابها أمام الرّمز نظرا
إلى التّقارب والتّماثل بين خصائص ووظائف العالمين، ولا يتقيّد الرّوائيّ في استقاء
رموزه الّتي يستدعيها في عتبة العنوان بمجال معيّن أو محدّد، فالرّمز يمكن أن يكون
نباتيًّا أو حيوانيًّا أو طبيعيًّا أو تاريخيًّا أو أسطوريًّا أو دينيًّا أو شعبيًّا
أو فنّيًّا، إنّه ضاربٌ بجذوره في جميع مجالات الحياة، إلّا أنّ اختيار الكاتب لهذا
المجال أو ذاك، كمصدرٍ للرّموز، يرجع بالأساس إلى استراتيجيّته وإلى مواقفه من قضايا
عصره وإلى أهدافه المزمع تحقيقها.
وكثيرا ما شكّل الموروث الحكائيّ الشّعبيّ مصدرًا
من المصادر الثّريّة والحافلة بالرّموز الّتي أعاد الرّوائيّ العربيّ استعمالها، مفجّرًا
ما فيها من طاقاتٍ، ومتجاوزًا ما ارتبط بها من معطيات، شاحنًا إيّاها بمواقفه وأفكاره
ورؤاه، ويعزى هذا الإقبال على الرّموز التّراثيّة في عناوين الرّواية ما بعد الحداثيّة
إلى ما تشيعه من ألفة، وما تعقده من صلة بين القارئ والرّمز التّراثيّ، فعندما
"يتعامل الأديب مع الموروث الشّعبيّ، ويصوغه أدبا،
ويعاود تقديمه للنّاس مجدّدا بعد تحميله الأفكار الّتي يريد، لا يشعر النّاس بالغربة
أو النّفور ممّا يقدّم إليهم، فيتمّ قبوله والتّفاعل معه بسهولةٍ، وبهذا ينجح الأديب
في نقل التّأثير المراد للمتلقّين"([18])،
ونظرًا لما يوقظه الرّمز التّراثيّ من ذكرياتٍ مشتركةٍ في وجدان المتلقّي، لحظة الاِلتقاء
به في عتبة روايات الحساسيّة الجديدة، فقد كان مطلب الرّوايات الّتي تتصدّى للسّياسات
الكولونياليّة، ويسعى من خلالها كتّابها إلى تعزيز الوحدة
الوطنيّة، والوقوف في وجه المستعمر، والتّصدّي لمحاولات العدوّ السّطو على التّراث
الوطنيّ وطمس الهويّة، شأن روايات الرّوائيّ الفلسطينيّ "إميل حبيبي"، وخاصة
"خرافيّته" المعنونة ب "سرايا بنت الغول"،
فما هي الدّلالات الإيحائيّة الّتي كثّفها الرّوائيّ في هذا العنوان-الرّمز؟
1.2. رمزيّة التّركيب البدليّ:
اختار المؤلّف لعنونة روايته التّركيب البدليّ ليكون وعاءً تركيبيًّا نحويًّا
يحمّله أفكاره ومشاعره ومواقفه، وتجب الإشارة إلى أنّ المؤلّف اختار التّركيب البدليّ
من بين إمكانيّاتٍ تركيبيّةٍ متعدّدةٍ تتيحها اللّغة العربيّة للمتكلّم، وهو ما يؤكّد
قصديّة هذا الاختيار، وارتباطه الوثيق بمقاصد المؤلّف، فالتّركيب النّحويّ، كما يجمع
على ذلك المحدثون، جسرٌ واصلٌ بين المعنى والشّكل النّحويّ، وهو، كما يذهب إلى ذلك
(تشومسكي)، يضطلع بمَهمّةٍ مركزيّةٍ تتمثّل في تأدية الحساب عن البنية الدّاخليّة العميقة
للجمل.
وفي عنوان رواية حبيبي، يحضر المركّب البدليّ بين اسم العلم "سرايا"
والكنية([19])
"بنت الغول" بنيةً سطحيّةً تخفي خلفها بنيةً عميقةً طافحةً بالدّلالات والمعاني،
فإذا كان اختيار بدل التّطابق يوهم، في ظاهره، بالتّساوي والتّماهي التّامّين بين المبدل
منه "سرايا" والبدل "بنت الغول"، فإنّ اختيار الكنية يفضح هذه
المخاتلة المراوغة لذهن القارئ، فالكنية، في أصل الوضع، ممّا يعدل إليه "قصدًا
إلى تعظيم المكنيّ وإجلاله لأنّ بعض النّفوس تأنف أن تذكر باسمها أو لقبها"([20])
فيسكت المتكلّم عن الاِسم ويطلق الكنية على المسمّى، أمّا تركيب البدل، في العلامة
اللّسانيّة "سرايا بنت الغول"، فقد انزاح عن القاعدة النّحويّة ليجمع بين
الاِسم والكنية -وهما في الأصل متفرّقان لا يجتمعان- وهو ما يحدث مجافاةً أو منافرةً
دلاليّةً أو تناقضًا بين المبدل منه، القائم على التّعيين والوضوح والتّصريح، والبدل،
القائم على التّكنية والإخفاء والتّلميح، ويكفّ هذا الجمع بين الاسم والكنية معنى الإجلال
عن الاِسم المكنيّ، لنخرج إلى معنًى آخر خفيٍّ هو مركزيّة الكنية "بنت الغول"
وهامشيّة اسم العلم "سرايا" الّذي يفقد كلّ خصائصه التّعيينيّة
والتّحديديّة والتّمييزيّة، ليصبح تابعًا تتحدّد هويّته ببنوّته للغول، فإذا هو غير
مقصودٍ، يأتي ليمهّد لذكر البدل لا غير، وهذا ما قد يبرّر اختيار التّنكير في المفردة
"سرايا"، ويشكّل الجمع بين اسم العلم، الّذي يقوم على التّعيين الصّريح،
وبين الكنية، الّتي تقوم على التّلميح، توتّرًا وصراعًا بين قوّة حضور الاِسم باعتباره
أعلى درجات التّعيين، وبين محاولة طمسه وإسكاته ومحوه، فهو لا يعرف بنفسه، وإنّما بغيره،
وهذا ما يعزّزه تركيب الإضافة في البدل "بنت الغول"، إنّ تركيب البدل
"بنت الغول" إلى المبدل منه "سرايا"، رغم قدرة هذا الأخير على
الاكتفاء بذاته في التّعيين والتّحديد وإثبات الحضور والكينونة، هو تركيب تدمير وطمس
ومحو تقاومه "سرايا" بإصرارها على الحضور، نفيًا للمساواة، ورفضًا للتّماهي
والتّطبيع مع الكنية، وتمسّكًا بالاِستقلال عن التّابع، وتأكيدًا على معنى مركزيّة
"سرايا" المحفوظ في المعنى البلاغيّ للتّنكير، وتوضّح هذه القراءة أنّ
"فائض الدّلالة"([21])
في التّركيب بين الاِسم والكنية، هو الصّراع بين سرايا والغول على الحضور ومن أجل البقاء.
2.2. الوحدات المعجميّة في العنوان رموزٌ فائضة الدّلالة:
ارتبط المعنى باللّفظ في النّقدين العربيّ والغربيّ، وارتبطت الشّعريّة، في
جميع مراحل تطوّرها، باللّسانيّات، وليس الرّمز الأدبيّ إلّا لفظ يرمز إلى شيءٍ تعقد معه
الذّات علاقاتٍ خفيّةً، وتشحنه بدلالاتٍ ثريّة، وقد حضرت في عنوان رواية "سرايا
بنت الغول" وحداتٌ معجميّةٌ لم يمنعها انتماؤها إلى الواقع الموضوعيّ أو المتخيّل
الجمعيّ من أن تتحوّل في عنوان الرّواية إلى رموز تعمل على إيصال "مشاعر شخصيّة
فذّة عن طريق وسائل مدروسة بعناية، وعن طريق تداع معقّد للأفكار ناجم عن خليط من الصّور"([22]).
1.2.2. سرايا:
استدعى المؤلّف في عنوان الرّواية لفظ "سرايا"، وهي كلمة من اللّغة
الفارسيّة، دخلت إلى العثمانيّة ثمّ إلى التّركيّة، لاحقا، بمعنى "القصر"،
وبما أنّ الدّولة العثمانيّة حكمت المنطقة العربيّة برمّتها لفترة تجاوزت الأربعة قرون،
فقد دخل استعمال المصطلح "سرايا" في القاموس الحياتيّ للمجتمعات العربيّة،
ولفظ "سرايا" في العربيّة اسم جنسٍ بمعنى القصر أو الدّار أو المبنى الشّامخ،
وتحتفظ المعاني الحرفيّة الحافّة بالجذر الّذي اشتقّ منه هذا الاِسم بدلالة المكان
المرتفع، فالسّرو في اللّسان "ما ارتفع من الوادي وانحدر من غلظ الجبل، وقيل:
السّرو من الجبل ما ارتفع عن موضع السّيل وانحدر من غلظ الجبل"([23])،
غير أنّه يتركّب في الجذر (سرا) العلوّ المادّيّ و العلوّ المعنويّ، فالسّرو
"المروءة والشّرف ... والسّرو سخاء في مروءة ... والسّريّ الرّفيع ...أي نفيسًا
شريفًا ... وسراة المال خياره ..."([24])،
ويتّسع الجذر (سرا) لتشتقّ منه أسماءٌ تُسمّي الطّبيعة ومكوّناتها الّتي تبعث الحياة
فيها، فالسّريّ هو "النّهر الصّغير كالجدول يجري إلى النّخل"([25])،
والماء السّريّ هو ماء النّهر والسّاقية المنقّى والمصفّى من الشّوائب، والسّرو
"من كبار الشّجر ينبت في الجبال"([26])،
تتّخذ منه القسيّ لعتق عيدانه ومقاومتها للكسر.
ولعلّ التقاء معاني الرّفعة والعلوّ والمروءة والشّرف والسّخاء والنّقاء والعتق
والضّخامة في الجذر (سرا) هي الّتي رشّحت كلمة "سرايا" لتكون تعيينًا للمباني
الضّخمة العظيمة المهيبة العتيقة الّتي تنتشر في عدة مدن فلسطينيّةٍ، ومنها مدينة حيفا،
فتتحوّل "سرايا" إلى علامةٍ لسانيّةٍ لا تكتفي بتعيين شيءٍ مادّيٍّ فحسب
(هو المبنى)، وإنّما تسعى إلى "نقل تأثيرها في النّفس بعد أن يلتقطها الحسّ"([27])،
وهو ما يحوّلها إلى رمزٍ يُستدعى للدّلالة على ما وراء المعنى الظّاهريّ، دون أن يُمحى
المعنى الظّاهريّ الّذي سيكون منطلق المؤوّل نحو المعاني الفائضة، فيتجاوز المؤوّل
دلالة اللّفظ الحرفيّة التّعيينيّة الدّالّة على المبنى
العظيم، إلى ما يوحي به هذا المبنى من دلالات الشّموخ والعزّة والأبّهة والصّمود والمقاومة
والرّسوخ، وما يحرّكه في النّفس من مشاعر الاِنبهار والتّعلّق والحنين، فالرّمز ينشأ
من دلالة التّرابط بين أمرين، أحدهما محسوسٌ (المبنى/السّرايا)، والآخر مجرّدٌ (رسوخه/
صلابته/ مقاومته لفعل الزّمن/ شهادته على التّجربة البشريّة...).
2.2.2. الغول:
الغول، في المعجم، اسم جنسٍ يعيّن حيوانًا خرافيًّا من فصيلة الجنّ والشّياطين،
ويحفل الجذر (غول) الذي اشتقّ منه هذا الاسم بالكثير من المعاني الّتي قد يكون الغول
تجسيدًا لها، فالغول، في اللّسان([28])
المنيّة والحيّة والدّاهية، والاغتيال والغيلة هما القتل والإهلاك خفيةً، والتّغوّل
التّلوّن والتّخيّل والتّضليل والتّتويه، والغول ما انهبط
من الأرض، وهو التّراب الكثير، وهو السّكر، وهو الخيانة، والمغول سوطٌ في جوفه سيفٌ
دقيقٌ يشدّه الفاتك على وسطه ليغتال به النّاس، وغائلة الحوض ذهاب مائه، ولا يخفى،
ما حفّ بالجذر (غال) من معانٍ، وما يتركّب فيه من هبوطٍ مادّيٍّ تضاريسيٍّ، وهبوطٍ
معنويٍّ أخلاقيٍّ، ووحشيّةٍ، ومعاداةٍ للحياة والجمال والوضوح والحقيقة، فلا يكون
"الغول"، حينئذٍ، إلّا تجسيمًا لكلّ هذه المعاني الّتي تتولّد عن طريق الإيحاء
والإثارة النّفسيّة، لا عن طريق التّقرير والتّصريح، فالحقيقة المرئيّة (الغول كما
نستحضر صورته) تستحضر في الوعي حقيقةً أخرى مجرّدةً، ملازمةً للأولى، هي كلّ ما يرتبط
بالغول من دلالات الهبوط الأخلاقيّ والحيوانيّة والرّعب.
وباختياره لوحدات معجميّة (سرايا-الغول) يتركّب فيها الوجه المادّيّ (المبنى-الحيوان
الخرافيّ) والوجه المعنويّ (العلوّ الأخلاقيّ-الهبوط الأخلاقيّ)، يكون المؤلّف قد وضع
قارئه أمام عنوان لا يلخّص الرّواية ويقوم مقام الدّليل الّذي يهدي القارئ في شعابها،
وإنّما يختار أن يضعه أمام عنوان فيه من التّناقض والتّركيب والهجنة بين العوالم المتضادّة
ما يؤهّله لكي يكون عنوانا-رمزا.
3.2. المفردة: (بنت) واسطةٌ تعكس التّوتّر العلائقيّ بين (سرايا)
و(الغول):
جمع المؤلّف في العنوان "سرايا بنت الغول" بين قطبيه "سرايا"
و "الغول" برابطة (بنت)، هي رابطة البنوّة، وهي، كما هو معلوم، رابطةٌ يتمّ
من خلالها تحديد النّسب بين الأب وابنته اللّذين يشترط فيهما انتماؤهما إلى جنسٍ واحدٍ،
وأمام ما كشف عنه البحث المعجميّ من تناقضٍ و طباقٍ بين عوالم "سرايا" المادّيّة
الفيزيقيّة (المبنى-النّهر-الشّجرة-المرتفع من الأرض) والمعنويّة المتّسمة بالرّفعة
والجمال والعظمة والأصالة والعراقة والوضوح، وما ارتبط بعوالم "الغول" من
وجودٍ وهميٍّ ميتافيزيقيٍّ (حيوان خرافيّ) وهبوطٍ ماديٍّ (ما انهبط من الأرض) ومعنويٍّ
(الخيانة والتّلوّن والتّضليل...) ووحشيّةٍ، وقبحٍ، تتحوّل الرّابطة في العنوان إلى
واسطةٍ تعكس التّوتّر العلائقيّ بين قطبيه، وتضفي هذه المفارقة بين المعقول (المباني
العظيمة الرّفيعة) واللّامعقول (الغول) عنصر العجيب على العنوان الّذي يفضي بالقارئ
إلى الذّهول أو الاِستغراب أو الاِستنكار لما يحفّ بالعنوان من غموضٍ وتناقضٍ يشوّش
الذّهن ويولّد السّؤال، إذ كيف يمكن لسرايا بدلالتها على العلوّ بنوعيه المادّيّ والمعنويّ
أن تكون ابنة للغول بكلّ ما يرتبط به من هبوط مادّيّ ومعنويّ؟ ويصرف هذا التّناقض والتّنافر
دلالة العنوان عن الدّلالة الحرفيّة المباشرة نحو دلالةٍ أخرى ثانويّةٍ لا يدلّ عليها
العنوان دلالةً صريحةً مباشرةً، وإنّما دلالة تقوم على الإيحاء.
4.2. (سرايا بنت الغول) عنوانٌ محمّلٌ بدلالاتٍ جاهزةٍ:
يكشف خزّان العنوان عن تناصٍّ واضحٍ بين عنوان رواية إميل حبيبي وحكاية شعبيّةٍ
فلسطينيّةٍ هي حكاية "سرايا بنت الغول"، وتعدّ هذه الحكاية الشّعبيّة واحدةً
من بين ثراثٍ حكائيٍّ هائلٍ أبدعته مخيّلة الشّعب الفلسيطينيّ استقطارًا وتكثيفًا لتجاربه
الثّريّة مع واقعه، وتعبيرًا عن آماله وطموحاته وهواجسه ومخاوفه، وهو ما جعلها حافلةً
ب"نماذج للبطولة الّتي تخلّقت من وجدان الشّعب وحملت بأهدافه وأمانيه وأسبغ عليها
من الصّفات والميزات ما يجعلها قادرة على تحقيق الهدف، نماذج لا تمثّل ذاتها بقدر ما
تمثّل الشّعب كمجموع، وهي لذلك تمثّل عنصرا ممكنا للصّلة من حيث إمكانيّة استلهامها"([29])،
وتحويل ما فيها من نماذج إلى رموز.
ولا تعني عودة الأديب أو المثقّف إلى التّراث الشّعبيّ، يستلهم منه ما فيه من
نماذج ليحوّلها إلى رموز، أنّ عمليّة الاستلهام تلك عمليّة اعتباطيّة غير مدروسةٍ،
فلكي ينجح الرّمز في تحقيق وظائفه وبلوغ أهدافه، عليه أن يتوافق مع أفكار المؤلّف ومواقفه
الّتي يريد التّعبير عنها، وتتضاعف أهميّة هذا الشّرط عندما يربض الرّمز الشعبيّ في
عتبة عنوان الرّواية، وهي العتبة التي تقنع القارئ بقراءتها أو بالانصراف عنها، وتحملنا
هذه القاعدة على ضرورة النّظر في حكاية "سرايا بنت الغول" الشّعبيّة لنقف
على ما فيها من رموز رشّحتها لتكون عنوان رواية إميل حبيبي.
تقول الحكاية الشّعبيّة أنّ "سرايا" فتاة فلسطينيّة جميلة، مشهورة
بجدائل شعرها الطّويلة الّتي لم يمسّها مقصٌّ، وكانت سرايا محبّةً للاستطلاع، فكانت
تخرج كلّ يوم لتقطف الغلال والزّهور، آمنةً، لأمّها وزوجة عمّها، وتعود سالمةً إلى
منزلها قبل الغروب، وكان في تلك البقاع من الأرض غول هام بها هيام الأب بابنته، فخطفها،
وبنى لها قصرا حبسها فيه، وكان لسرايا ابن عمٍّ يحبّها، فهام على وجهه يبحث عنها، حتّى
وجد القصر الّذي كانت محبوسةً فيه، فنادى عليها أن "سرايا يا بنت الغول دلّيلي
شعرك لأطول" فدلّت له جديلة من جدائلها الّتي تسلّقها للوصول إليها وتهريبها من
سجن الغول بعد تسميمه.
ويتّضح في الحكاية الشّعبيّة الانزياح الّذي حصل في المفردة "سرايا"
الّتي تم نقلها من دلالات المبنى والمكان المقاوم للسّيل والنّهر الجاري والشّجر الرّاسخ
العظيم والشّرف والمروءة، إلى الدّلالة على اسم العلم "المؤنّث" الّذي تكثّفت
فيه كلّ الدّلالات المعجميّة السّابقة، واسم العلم، كما هو معلومٌ في الدّراسات السّيميائيّة، ليس مجرّد بطاقةٍ تلصق على ظهر الشّيء المعيّن لتسمّيه
وتعيّنه، وإنّما هو تمثيلٌ لغويٌّ لمجموعةٍ من الدّلالات الثّقافيّة والجغرافيّة والتّاريخيّة
والقيميّة والأركيولوجيّة، فهو مرآةٌ عاكسةٌ لحياة مجموعةٍ
بشريّةٍ مّا وتمثّلها للكون، ويتّضح، من خلال اسم العلم المنقول "سرايا"،
حالة الخير والجمال والسّلام والطّمأنينة والأمان الّتي كانت تعمّ المكان، وأصالة أهله
وشرفهم ومروءتهم ورسوخهم في الأرض ومسالمتهم حتّى للغول
الّذي كان يجاورهم ويسكن نفس الأرض.
أمّا الغول الّذي استغلّ ذهول "سرايا" وأهلها عن نوائب الدّهر وخديعة
الأجوار، فإنّه في المقابل يتحوّل إلى علامةٍ على القبح والشّرّ والمخاتلة والإغارة،
كما ترتبط به دلالات التّزوير والتّضليل لأنّه فرض على الجميع أن ينسوا اسم "سرايا"،
وألّا ينادوها إلّا بكنيتها "بنت الغول" الّتي تعطي للغول شرعيّة حبسها واختطافها،
لكنّ سرايا، بآيات الجمال الّتي تجتمع فيها (صوتيّا ودلاليّا)، تظل شهادة على أنّ الغول
القبيح (صوتيّا ودلاليّا) لا يمكن أن يكون والدها، وعلى أنّها مخطوفةٌ ومغصوبةٌ على
فراق الأحبّة.
إنّ الحكاية الشّعبيّة "سرايا بنت الغول" تتحوّل، بعد هذه القراءة،
إلى استقطارٍ وتكثيفٍ لثنائيّاتٍ ضدّيّةٍ متصارعةٍ هي ثنائيّة الخير والشّرّ والجمال
والقبح والحبّ والمادّة والإنسانيّة والوحشيّة والسّلم والحرب والحقيقة والتّزوير والصّدق
والكذب، ولربّما كان توافق الوضع الفلسطينيّ المعبّر عنه في رواية إميل حبيبي مع هذا
الصّراع الثّنائيّ هو الّذي رشّح عبارة "سرايا بنت الغول" لتتحوّل إلى عنوان-رمز
يربض على عتبة رواية حبيبي محمّلا بدلالاتٍ ماقبليّةٍ جاهزةٍ،
ولكنّه مشحونٌ أيضًا بتفاصيل واقع المؤلّف والقضايا الّتي يريد أن يعبّر عنها ومواقفه
منها، وهو ما يدعونا إلى التّساؤل حول مدى اتّساع الرّمز الّذي استدعاه المؤلّف إلى
عتبة العنوان لكلّ الهموم والقضايا الّتي تؤرّق المؤلّف ومدى نجاحه في التّعبير عنها؟
5.2.
الدّلالات الرّمزيّة في عنوان رواية إميل حبيبي: (سرايا بنت الغول):
وجد إميل حبيبي في حكاية "سرايا بنت الغول" الشّعبيّة رموزا ثريّةً
مليئةً بالحياة، وضاجّةً بالدّلالات الّتي انتظمت في شكل
ثنائيّاتٍ ضدّيّةٍ أقطابها قيمٌ كونيّةٌ تسيّر كلّ التّجارب الإنسانيّة، بصرف النّظر
عن الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وإذا كان هذا الإطلاق في المكان والزّمان، وهذا التّرفّع
عن الاختلافات والخصوصيّات، مقبولًا في الحكاية الشّعبيّة الخرافيّة ذات البعد الوعظيّ التّعليميّ الّذي يرغّب في القيم الإيجابيّة وينفّر من
نقيضها، فإنّ الرّواية، على الرّغم من البعد التّخييليّ
الّذي يصبغها، تظلّ تمثيلا للواقع وتعبيرا عنه والتزاما بقضاياه، وتجبر هذه السّمة
المميّزة للرّواية، الّتي تستلهم الموروث الشّعبيّ، مؤلّفيها على أن يحيّنوا رموزهم،
وأن يكتشفوا ما فيها من "القدرات الموحية والملهمة للإنسان المعاصر لإعادة بناء
نفسه بوعي"([30]) وللتّعبير
عن قضايا واقعه وهموم شعبه، ويزداد هذا المطلب تأكيدا في الرّواية الفلسطينيّة، عموما،
وفي روايات إميل حبيبي تحديدا، فقد تعاطى إميل حبيبي مع الكتابة الرّوائيّة "
من منظور الأديب المنتمي، إذ يتّخذها وسيلةً من وسائل مجابهة الواقع الأليم الّذي يرزح
تحته شعبه الفلسطينيّ في ظلّ سطوة الاِحتلال المتغوّل على
كلّ ما هو فلسطينيّ"([31])،
وتعدّ البواعث على كتابة رواية "سرايا بنت الغول" دليلا قاطعا على التزام
حبيبي بقضيّة وطنه الّتي لم يكفّ عن الدّفاع عنها وعن الكتابة فيها صحفيّا وسياسيّا
وروائيّا، وتلعب بواعث الكتابة هذه دورًا مهمًّا في إماطة اللّثام عن الرّموز المستدعاة في متن الرّواية، وفي عتبة عنوانها، فالرّواية تنطلق
من الصّمت العربيّ الشّائن حيال الهزائم الّتي مني بها العرب أمام المحتلّ الإسرائيليّ،
والّتي تبدأ بنكبة عام 1948، وتنتهي بمجزرة صبرا وشاتيلا واستتباعاتها
الوخيمة على فلسطين والفلسطينيّين، الّذين تحوّلت أصوات عذاباتهم وأنّاتهم المخلوطة
بدويّ المدافع الإسرائيليّة "سمفونيّة رائعة" في أذن مذيع إذاعة "صوت
إسرائيل"، إسرائيل الكيان الغاصب المحتلّ الغازي الّذي شجّعه صمت العرب البغيض
على اتّباع سياساته الاِستيطانيّة الّتي تهدف إلى اقتلاع جذور الفلسطينيّ من أرضه والسّطو
عليها تحقيقا لأسطورة الأرض الموعودة، تماما مثلما اختطف "الغول" "سرايا"
في الحكاية الشّعبيّة وحاول محو أصلها ونسبها بتبنّيها وحبسها داخل قصره.
وبهذا الرّبط بين التّاريخيّ والتّخييليّ الرّوائيّ
يستطيع القارئ أن يمسك بنقاط الائتلاف بين نماذج الحكاية الشّعبيّة (سرايا والغول)
الّتي تحكي قصّة الصّراع بين قوى الخير والشّرّ وتؤكّد على حتميّة انتصار الخير والجمال
واستئصال الشّرّ وبين الرّموز الّتي تربض على غلاف رواية "سرايا بنت الغول"
باعتبارها معادلا موضوعيّا مجسّما لصراع الخير والشّرّ في الحكاية الخرافيّة.
لقد حيّن إميل حبيبي شخصيّتي "سرايا" و "الغول" الخرافيّتين،
واتّخذ منهما قناعا للتّعبير عن صمود فلسطين في وجه الكيان الإسرائيليّ الغاصب.
1.5.2. دلالة سرايا الرّمزيّة:
سرايا، في رواية حبيبي، هي فلسطين المدينة
الجميلة العريقة الرّاسخة رسوخ جبل الكرمل، الّذي كان الرّاوي يتخيّله وهو نازل عليه
من مرتفعات النّاصرة وشفا عمرو "ثورا أقعى متحفّزا للانقضاض على مصارع ثيران جاءه
من الأندلس يهمله في ترقّب غفلة منه فإذا غفل عنه لم يمهله لحظة واحدة"([32])،
وهي الأرض-العرض يتمّ تجسيمها في المتن الرّوائيّ عبر كثافة حضور المؤنّث أمّا وأختا
وعمّات وجارات وزوجات أعمام وحبيبة يستحلفها الرّاوي أن تدلي له ضفيرة من ضفائر شعرها
الكستنائيّ الطّويل المدلّى الّذي لم يمسسه مقصّ لأنّ الحرّة لا تبيع شعرها، سرايا
هي الحقيقة الكونيّة الّتي يراد تزويرها، ولكنّها تظلّ بما فيها من صفير السّين وتكرار
الرّاء وطول المدّ تصدح بأنّها فلسطينيّة الهوى، هي الهويّة الّتي يراد طمسها بالتّبنّي،
ولأنّ مغتصبيها من أبناء العمومة تشبه "سرايا" في رواية حبيبي "سرايا"
الحكاية الشّعبيّة فكلاهما ضحيّة الطّيبة الّتي لا تستطيع تفكيك شفرات الخديعة ولا
اكتشاف الخيانة، إنّ دود سرايا من عودها، فقد اغتصبت من "ابن عم لنا "متصعلك"
من أصل فارسيّ فما أدراك أن يكون في أصله وفصله إسماعيليا متهوّدا؟
حوّل بيت المختار إلى متحف جمع فيه آثار الزّيب العربيّة
من أحجار الرّحى حتّى الجماجم، فلمّا أرادوا الاستيلاء عليه وضمّه إلى الحديقة العامّة
الّتي أقاموها سيّج المنطقة من جميع جهاتها وأعلنها دولة الزّيب
الحرّة المستقلّة، سرايا هي سيرة الشّعب الفلسطينيّ الّتي تثبت أحقيّته في الأرض، هي
الوطن التّاريخيّ الّذي عاش فيه الآباء والأجداد لآلاف من السّنوات وكان "مسرحا
لموجات الغزاة الّتي تلاحقت على بلادنا طول التّاريخ المعروف، وارتطمت بهذه الوهاد
والوديان، وبأهلها ممّن لم يبق لهم الغزاة ما يملكونه سوى حياتهم"([33])،
هي الشّخصيّة الفلسطينيّة بملامحها المميّزة وبقامتها وشعرها الكستنائيّ الطّويل الجميل
الّذي لم يمسّه مقصّ، لأنّ الشّعر والشّرف واحد، هي آمون آلهة الخصب والنّماء يسترق
الرّاوي الخطو إلى صخرتها ويحدّثها عن آمين و"الآمونيا"
ويضمّها إلى صدره "فتتنهّد وتقول آمين"([34])
وهي "واحة من ينابيع ماء ومن أشجار دائمة الخضرة ذات ظلال وارفة" فمنها
"التّين الغزاليّ والخرتمانيّ الأحلى من العسل"([35])
الّذي أبت أشجاره العربيّة الرّحيل ومنها الزّعتر والبرتقال والزّيتون ومنها
"الأمليسيّ وهو الرّمّان الّذي ليس له حبّ إنّما هو
ماء في قشر ومن الحبّ لا الحبّ جاء الحبيبيّ الشّهير بأنّه كلّه سكّر"([36])،
سرايا هي التّضاريس الفلسطينيّة المقاومة لفعل الزّمن تسأل عاشقها "من أكون أنا
لك؟"، فيجيبها "أنت الكرمل يا سرايا"، فتلحّ في السّؤال "والبحر
ورمله وأسماكه وأصدافه؟"، فيجيبها "والبحر ورمله وأسماكه وأصدافه"،
سرايا هي الصّخور العنيدة المزروعة في الأرض تنفرج من تحتها الحياة و"كان الماء
يرشح من تحتها وكانت طلوع البطمة والعنّاب والزّعرور والشّومر
والنّعناع وتفّاح الجنّ"، هي التّراث الفلسطينيّ، بآثار الزّيب
العربيّة وأحجار الرّحى وبلباس الفلسطينيّ التّقليديّ وأهازيجه وأغانيه الشّعبيّة وحكاياته
الخرافيّة كحكاية "سرايا" وحكاية "لونجة"
وحكاية "النّوريّة"، الّذي يعمل المحتلّ على استلابه فيصمد في وجه كلّ أشكال
الاستلاب والسّرقة، هي اللّهجة الفلسطينيّة الّتي يسرق المغتصب من معجمها، من قبيل
"المنقل" و"كسّح و"دخيلك" و"تسلم"
و"دبكة" و"مبسوط" أو"مبسوطة"
وينسب لنفسه لأنّه لا ماضي له ولا أصل له ولا لغة له وبالتّالي لا هويّة له.
ولكن " مادامت اللّغة سالمة لا
جرح علينا ولا هم يحزنون"([37])
فسرايا، أيضا، الوجه المتسامح لفلسطين بما فيها من تعدّد واختلاف قبل أن يغذّي الكيان
الغاصب النّعرات الطّائفيّة، فلا فرق فيها بين "مسلم أو درزيّ أو مسيحيّ إلّا
في الأصالة الشّفاعمريّة"([38])،
هي "ثورة السّواد والأعراب والعيّارين والنّجّارين والحدّادين والحذّائين والفعلة
على الظّلم والظّالمين ولكن ليس بالعنف الباطنيّ بل بالتّسامح العلنيّ"([39])،
وهي موطن الأديان الإبراهيميّة الثّلاثة الّتي كانت أطواق عصا العمّ الثّلاثة رموزا
عليها، سرايا هي حلم العودة إلى أرض الوطن والخلاص، وهي قصّة الشّعب الفلسطينيّ المسلوب
الحقوق المغتصب، المغيّب عن أرضه ووطنه من قصّة سعاد الأولى إلى قصّة سعاد الثّانية،
إنّها اليقين الّذي لم يمسّه شكّ بحتميّة العودة والخلاص من العدوّ الغاصب، وسرايا
هي مقبض عصا العمّ إبراهيم أو هي مفتاح العودة أو "مفتاح الحياة" أو
"مفتاح النّيل"، إنّها الحقيقة الّتي تكمن "وراء كلّ أجمةٍ وكلّ موجةٍ
وكلّ سورٍ وكلّ حائطِ بيتٍ وكلّ قرنةٍ معتمة"([40]).
وتمثّل "سرايا"، في وجه من وجوهها، حلم الرّاوي الّذي كان دائم التّوق
لتحقيقه، فهو يؤمن أنّ لكلّ منّا سراياه الهائمة على وجهها كما هامت يمامة سيّدنا نوح
بحثا عن اليابسة قبل أن غيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي([41])،
وهو ينتظرها انتظارا مريعا أشدّ إيلاما من يقين المؤمن بأنّ الموت حقّ، وهي، بما فيها من قدرةٍ على الصّمود والمقاومة،
تتحوّل إلى رمزٍ للكتابة المقاومة الّتي تكتب الذّاكرة الفلسطينيّة حمايةً لها من النّسيان
والتّلاشي والتّزوير، إنّها الرّواية الّتي تعيد صياغة الهويّة التّاريخيّة واللّغويّة
والحضاريّة للإنسان الفلسطينيّ، فليست ظاهرة الهويّة في عمومها إلّا ظاهرة لغويّة،
إنّها الذّاكرة الحيّة الّتي لا تموت بالتّقادم ولا تلغى، فإذا هي الجسر الرّابط بين
الماضي والمستقبل، وهي الحقيقة الّتي لا تزداد إلّا ثباتا وإشراقا بتعاقب الأزمنة،
وهو ما يتأكّد عندما ينصب الرّاوي عصاه المنذورة عموديّة
أمام صدره وما فوقه حتى ما فوق الرأس وينفخ من روحه نفخات ثلاث في دوائرها الثّلاث
"في الدّائرة الأولى باسم سعاد الأولى وفي الدّائرة الثّالثة باسم سعاد الثّانية
وفي الدّائرة الوسيطة باسم سرايا بنت الغول"([42])،
وهي، في تقليب من تقليباتها، ملكة الإبداع الّتي تقوم على خصلتين مميّزتين لسرايا هما
الصّدق والطّفولة اللّذان أثّر فيهما الغول، أمّا الغول فلا يمكن أن يكون، هنا، سوى
رمز للعمل السّياسيّ الّذي يعتمد مبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة"، وهو ما يثبته
حبيبي الّذي يرى "أنّ هناك فرقا كبيرا بين العمل السّياسيّ القياديّ وبين الإبداع
الفنّيّ، الفرق في الأساس هو أنّه في السّياسة لا يمكن أن تعمل بما أسمّيه صدق الطّفولة،
أمّا في الأدب فلا يمكن أن يستحقّ العمل هذا الاسم إلّا إذا التزمت بصدق الطّفولة،
بالعكس تماما، أنا لا أتحدّث عن سياسة شيوعيّة أو يساريّة، كلّ السّياسات فيها نوع
من الميكيافيليّة، لا يمكن غير ذلك"([43]).
إنّ سرايا هي الإبداع الأدبيّ الّذي كان من الخطإ
الجمع بينه وبين العمل السّياسيّ، لأنّ غول العمل السّياسيّ سيبتلع صدق العمل الأدبيّ
وطفولته، مثلما اختطف الغول المزوّر سرايا الصّادقة وسجنها بين ردهات قصره المشيّد
في أعالي الجبل، ولذلك كانت خرّافيّة "سرايا بنت الغول" رسالة تعبير عن النّدم،
واعتذارا لسرايا-فلسطين ولسرايا-الكتابة الأدبيّة.
وتبيّن هذه القراءة التّأويليّة للقارئ أنّ الرّمز الّذي استدعاه إميل حبيبي
من عالم الحكاية الشّعبيّة الخرافيّة ظلّ محافظا على دلالاته الرّمزيّة الجاهزة الّتي
ترفض أن تموت رغم اختلاف الجنس، واختلاف الحقبة التّاريخيّة، واختلاف القضايا والمشاغل
والهواجس، ولكنّه شرّع أبوابه أمام دلالات جديدة حمّله بها المؤلّف الّذي اتخّذ سرايا
قناعا رمزّيا يبلّغ عبره رسالة إلى المحتلّ المتغوّل وحلفائه
الجشعين، مضمونها أنّ هذه الأرض تبقى وفيّة لأصحابها، وتلفظ مغتصبيها مهما طال مقامهم،
فالحقّ يعود إلى أهله وإن طال الزّمان به.
2.5.2. دلالة الغول الرّمزيّة:
يحضر الغول في رواية حبيبي محمّلا ما قبليّا بدلالات القبح والقذارة والوحشيّة
والالتذاذ بأكل اللّحم البشريّ، وقد وجد المؤلّف تطابقا بين هذه الدّلالات وبين ما
يتّصف به الكيان الإسرائيليّ من وحشيّة، وما يظهره من شهوة مفتوحة على إراقة الدّماء
وتقتيل الشّعب الفلسطينيّ، فاتّخذه قناعا رمزيّا مفتوحا على الثّراء الدّلالي والتّعدّد
التّأويليّ، فالغول هو شعب إسرائيل الّذي لا أرض له ولا هويّة له، يطلب الجوار، مثلما
طلبه الغول في قرية "سرايا" الآمنة، ثم يسطو على الأرض، ويدّعي ملكيّتها
محتجّا بتاريخيّة مملكة إسرائيل القديمة الّتي تروّج لها الدّراسات التّوراتيّة، وهو
الفكر الصّهيونيّ الاستيطانيّ الّذي يرفع عاليا شعار "أرض إسرائيل الكبرى"،
ويصادر الأراضي في المناطق المحتلّة، ويجرّد أصحابها من ملكيّتها غصبا، وهو دبّابات
وجرّافات المستعمر الّتي هدمت مساكن وديار الفلسطينيّين فوق رؤوسهم، فلم ينج منهم إلّا
من كان في حقله، ونسفت الزّيب وأخواتها دفعة واحدة، ووضعت
مشروع "شيكمونا" في العام 1949 القاضي بهدم كلّ
البلدة القديمة، منعا لعودة العرب إليها، وتغيير معالم المدينة لتتحوّل إلى مدينة يهوديّة
لا عربيّة.
إنّ الغول هو عزرائيل، ملك الموت، الّذي أوكلت له مهمّة استئصال الشّعب الفلسطينيّ،
فقد "كانوا علّمونا أنّ ملك الموت اسمه عزرائيل ولكنّهم لم يعلمونا باسم الملك
المفوّض بأن يعبر بنا هذا الجزء من الطّريق هل هو يرحبيل
أم عجلبيل أم هو إسرائيل الّذي أسرى بعباده هذه المرّة من
المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام معتبرا الأمر ردّة رجل"([44])
والغول، في رواية حبيبي، هو عدوّ الحياة، حبيب الظّلام، هو تلك القوّة الوحشيّة الّتي
تقتل الحياة، وتدنّس المقدّس، وتعبث بالمقابر والجماجم، وتغيّر جغرافيّة المكان، وتحوّل
الدّرب التّرابيّ المستقيم الّذي "تحفّ به أشجار الصّنوبر من جانبيه في تناسق
خصّ به الخالق سبحانه وتعالى دروب الفردوس"([45])
إلى "مقبرة أفيال تنتظر ساعة الحشر"([46])،
وتقتل الجبال، فيصرخ الرّاوي أن "تعالوا وقفوا معي فوق هذه الصّخرة وانظروا كيف
تموت الجبال كيف يموت الكرمل ؟ "([47])،
والغول هو الموساد الإسرائيليّ المكوّن من مفتّشين ومفتّشات إسرائيليّين وإسرائيليّات
يفعلون ما يفعلون "تحت أثواب المسافرين العرب في مطار بن غوريون"([48])
فينالون من حرمة الجسد ويعرّونه ويمزّقون لحم فريستهم فترى فيهم "شبه أسد وشبه
عجل وشبه نسر وشبه عنز وشبه بقرة وشبه ثور وشبه بغل وشبه حمار وشبه حمارة وشبه طاووس
وشبه ناقة وشبه جاموس وشبه جاموسة وشبه سيد أشطة وشبه ست
أشطة"([49])
ولكنّك لا ترى "بين وجوههم وجه شبه إنسان"([50])،
والغول في رواية حبيبي هو المفرّق بين الأحبّة الّذي كان لا يجيز اللّقاء بينهم إلّا
في مواسم الأعياد و"أمام حواجز نصبوها على الحديد في وادي عارة أو في بيت صفافا
(بين القدس وبيت لحم) وما كانوا يعودون من هذه الطّلعة إلّا وأجسادهم تنزف دما"([51]).
ويتّسع لفظ الغول، في رواية "سرايا بنت الغول"، ليتحوّل إلى رمز على
تغوّل المحتّل، وتزويره لكلّ الحقائق، واستيلائه على كلّ ما هو فلسطينيّ، وتهويده،
وهو ما يبكيه حبيبي في "سرايا بنت الغول" الّتي قدّم فيها "مرثية شجيّة
للمكان الفلسطينيّ وهو يتهوّد بالقدر المحتوم دون أن يملك لذلك ردّا"([52])،
وهو، في وجه من وجوهه، قناع للتّعبير عن حيوانيّة المحتلّ وذئبيّته
المغتصبة لبراءة سرايا وعذريّتها، فقد "كانت الذّئاب والدّببة والأوبار كثيرة
في هذه النّواحي ومتكاثرة"([53])،
ولم تخل فلسطين من أسماك القرش الكبيرة، الآتية من البرّ ومن البحر بفمها الفاغر وأسنانها
المدبّبة الّتي تريد أن تبتلع كلّ ما هو فلسطينيّ، ولا من الغربان النّهّاشة والنّوارس النّاقمة على الأنا الفلسطينيّة أرضا وهويّة
وخريطة وتاريخا وثقافة، والغول هم الصّعاليك من اليهود العرب واليهود المغاربة الّذين
كانوا يتعاونون على البرّ والتّقوى في الاستيلاء على أرض الفلسطينيّين، ولا فضل لصعلوك
على صعلوك إلّا بالخبرة والإبداع في طرق العسف والتّقتيل والوحشيّة والتّزوير والتّضليل،
إنّ الغول، في تقليب من تقليباته، هو ذلك الآخر المتغوّل
مادّيّا كان أو سياسات ميكيافيليّة تبيح كلّ شيء، وتبرّر
الوسائل بالغايات، كما يصرّح بذلك حبيبي في الحوار الّذي أجرته معه مجلة (مشارف) قائلا
"سرايا هي الصّدق، الصّدق الّذي يولد مع كلّ طفل والغول الّذي سرق سرايا هو الميكيافيليّة السّياسيّة"([54])،
وهو ما يحملنا مباشرة إلى تأويل آخر يكون فيه الغول تعبيرا رمزيّا عن الإيغال في الصّدق، بل الإيغال
في تصديق السّياسات الّتي تخفي خلف شعاراتها البرّاقة أشدّ الأسرار رعبا، ومن أجل هذا
نصح إميل حبيبي الكتّاب بأن "لا يوغلوا إلى قفص حتى يحافظوا على صدق الطّفولة،
ألّا يدخلوا إلى قفص"([55])،
فالعمل السّياسيّ في وجه من وجوهه قفص يسيّج حرّيّة تعبير الأديب، مثلما سيّج قصر الغول
حرّيّة سرايا، لأنّ السّياسة تقوم على الكذب، وقد أضرّ الكذب السّياسيّ بملكة الإبداع
عند حبيبي، وأضرّ بفلسطين فصحّ اتّخاذ "الغول" معادلا موضوعيّا له.
وبهذه القراءة، يتأكّد ما ذهبنا إليه في القسم النظريّ من أنّ الرّمز لا يشير
إلى شيء واحد بعينه، وأنّه متعدّد الدّلالات، ومتنقّل، وحيّ لا يموت، وكذلك كان
"الغول" في خرّافيّة حبيبي، فقد وجد المؤلّف في توهّجه وقدرته على التّعبير
عن قضايا العصر قناعا رمزيّا يعرّي من خلاله وحشيّة المستعمر، ويستعطف، من خلال فضح
سياساته التّضليليّة، أحرار هذا العالم من أجل دعم القضيّة الفلسطينيّة وتجريم التّطبيع
مع الكيان الإسرائيليّ والعمل على استئصال هذا السّرطان الّذي استشرى في جسد فلسطين
والبلدان العربيّة.
3. السّينما الأمريكيّة خزّان للرّموز المستحدثة والمصنوعة:
رواية "لعبة دينيرو" لراوي حاج أنموذجا:
تعدّ السّينما وسيلة من أهمّ وسائل الاتّصال الجماهيريّ الّتي نافست الرّواية
على عرش الحكي، فقد استطاعت أن تحقّق نجاحات باهرة في مجال اجتذاب الجمهور، وتغيير
بنية المجتمع والثّقافة، والتّأثير في اتّجاهات النّاس وآرائهم وسلوكاتهم، وذلك من خلال براعتها في بناء عوالم واقعيّة يتمّ عرضها
بشكل افتراضيّ وتحت تأثير وابل من المؤثّرات السّمعيّة والبصريّة الّتي تغوي المتفرّج،
وتستهويه، بصرف النّظر عن إيجابيّة الموضوع الّذي ترمي إلى الاستمالة إليه أو عن سلبيّته،
وقد أدركت الدّول العظمى وسياساتها هذا الوجه الخطير والفعّال للسّينما، فاستعملتها
في تجسيد أجنداتها، وبلوغ مصالحها الفرديّة الضّيّقة، وروّجت من خلالها لعلويّة العقل
الغربيّ ومركزيّة الغرب وأفضليّة الرّجل الأبيض باعتباره مصدرا للعلم والمعرفة والإبداع،
وعملت في المقابل على ترسيخ فكرة تبعيّة الدّول المستعمرة وهامشيّتها، إلّا أنّ هذه
السّرديّة الكبرى، الّتي حاول الغرب تحويلها إلى حقيقة ثابتة، لن تصمد طويلا أمام الرّواية
النيوكولونياليّة الّتي حملت على عاتقها مهمّة تفكيك تلك
السّرديّات، محتجّة في ذلك بالوجه الأسود القاتم والخفيّ فيها، ولتكشف الرّواية النيوكولوناليّة عن ذلك الوجه الأسود للدّعاية السّينمائيّة الغربيّة،
عادت إليها تصنع منها رموزا تفضح الإيديولوجيّات الغربيّة، وتقوّض أسسها الّتي تقوم
عليها، مستخدمة في ذلك مقولة التّقويض الدّرّيديّة ومقولات
ميشال فوكو وكارل ماركس وانطونيو غرامشي وادوارد سعيد ما
بعد الحداثيّة.
وتعدّ رواية "لعبة دي نيرو" لراوي حاج أحد أشهر روايات ما بعد الاستعمار
التي انتبهت إلى خطر السّينما الأمريكيّة في تكوين القابليّة الاستعماريّة لدى الشّعوب
المستعمرة، وبيّنت دورها في تمثّل النّاس لذواتهم، محاولة تفكيك سردياتها المتمركزة حول الأنا الغربي المتعالي، ولأنّ من أدوات
تقويض المركزيّة الغربيّة التّهجين، فقد كسر المؤلّف الحدود بين الرّواية والسّينما،
ورحّل "لعبة دي نيرو" من عالم الشّاشة والفرجة إلى عالم الرّمز اللّغويّ،
فاتحا إيّاها على تعدّد التّأويلات، فاضحا من خلالها كلّ أشكال وحشيّة الرّجل الأبيض
الّذي يتقنّع بالحضارة، فماهي الدّلالات الرّمزيّة الّتي تراكبت وتكثّفت في هذا العنوان-
الرّمز؟
1.3. رمزيّة تركيب الإضافة التّعريفيّة:
صاغ المؤلّف عنوان الرّواية تركيبا إضافيّا وظيفته خبر لمبتدإ
محذوف (هذه لعبة دي نيرو)، واختار من الإضافة وأنواعها إضافة التّعريف، فنسب اسم علم
معرفة أصالة "دي نيرو" إلى اسم نكرة "لعبة" لغاية تعريف المضاف
بالمضاف إليه، فإذا نظرنا إلى المضاف، وجدناه مفردة وردت في حالة الإفراد والتّنكير
الّلذين يجتمعان فيها للدّلالة على تمييزها، وإخراجها من المجرّد الذّهنيّ (اللّعب)
إلى المجسّم الملموس (لعبة كذا)، ومن المشترك (ألعاب) الى الخاصّ (لعبة)، وبهذه المعطيات،
يعدّ اللّفظ "لعبة" القارئ للتّعرّف على لعبة محدّدة معيّنة، وهو ما يجعله
ينتظر من المضاف إليه تعريفا وتخصيصا بتسمية اللّعبة (لعبة النّرد/لعبة الشّطرنج/...)،
وتحديد نوعها (نشاط حركيّ أو نشاط ذهنيّ/ فرديّة أو ثنائيّة أو جماعيّة/ مكان لعبها
وزمانه...)، واستحضار قوانينها، فإذا أدرك القارئ المضاف إليه، خابت كلّ توقّعاته،
وانهارت كلّ انتظاراته، ليجد نفسه أمام اسم علم يعيّن شخصا
محدّدا باسمه العائليّ (دي نيرو)، وهو ما يوجّه ذهن القارئ نحو الممثّل الأمريكيّ،
أيقونة السّينما الأمريكيّة، "روبرت دي نيرو" الّذي ارتبط اسمه بأفلام العنف
والمخدّرات والمافيا والجريمة، حتّى صار مجرّد النّطق باسمه يوحي بطرق غير مباشرة بمجموعة
من الدّلالات الّتي لا يدلّ عليها اسم العلم بالتّصريح، وإنّما بالتّلميح والإيحاء،
ويتولّد من الجمع بين المضاف "لعبة" والمضاف إليه "دي نيرو" تنافر
دلاليّ يرجع بالأساس إلى التّناقض بين تعريف اللّعب وما يرتبط باسم العلم "دينيرو" من دلالات، فاللّعب، سواء تعلّق الأمر بنظريّة
"اللّعب الغريزيّ" أو نظريّة "الإعداد للحياة" أو نظريّة
"الطّاقة الفائضة"، "نشاط موجّه (DIRECTED) أو غير موجّه FREE)) يقوم به الأطفال من أجل تحقيق المتعة والتّسلية ويستغلّه
الكبار ليسهم في تنمية سلوكهم وشخصيّاتهم بأبعادها المختلفة العقليّة والجسميّة والوجدانيّة"([56])،
ويعرّف اللّعب، في قاموس علم النّفس لشابلين، بأنّه "نشاط يمارسه النّاس أفرادا
وجماعات بقصد الاستمتاع ودون أيّ دافع آخر"([57])،
ويتّضح من خلال هذين التّعريفين ارتباط اللّعب بالمتعة والتّسلية، وإسهامه في النّماء
العقليّ والجسميّ والوجدانيّ للكائن البشريّ، وتتعارض هذه الوظائف الّتي ترتبط باللّعب
مع ما يرتبط بالاسم "دي نيرو" من دلالات الرّعب والتّطبيع مع الموت والقتل
العبثيّ الّذي عبّر عنه رمزيّا بلعبة الرّوليت الرّوسيّة
الّتي مارسها روبرت دي نيرو في فلمه "صائد الغزلان" الّذي تعيد رواية راوي
حاج كتابته، والّتي تسبّبت محاكاتها في مقتل الكثيرين حول العالم.
وبهذه القراءة يكون المؤلّف قد قصد الجمع بين التّسلية والرّعب، وبين الإنسانيّة
ونماء العقل البشريّ والحيوانيّة واستلاب العقل، وهكذا يبتعد هذا العنوان عن العناوين
الكلاسيكيّة الّتي تشتغل بوصفها مداخل للرّواية تتّسم بالمباشرتيّة
والتّقريريّة والتّصريح، ليتحوّل إلى عنوان-رمز تنضوي خلف دالّه اللّغويّ الموجز طبقات
متراكمة من الدّلالات تتنوّع بتنوّع القرّاء وتختلف باختلاف معارفهم الموسوعيّة الشّخصيّة
الّتي يتمّ إسقاطها على النّصّ من أجل تأويله، إنّ التّوتّر الدّلاليّ بين المضاف والمضاف
إليه يصرف العنوان عن الوظيفة التّصريحيّة المباشرة نحو وظيفة إيحائيّة تكتسب فيها
مفردة "لعبة" دلالات جديدة ليست من أصل الوضع، خاصّة وأنّها مفردة تسجل حضورها،
استعاريّا، في عالم بعيد كلّ البعد عن عوالم الإمتاع والتّسلية والنّماء والحرّيّة
وهو عالم السّياسة، فإذا كانت اللّعبة تهدف إلى تحقيق المتعة والتّسلية، وتتّسم بالحرّيّة
-إذ اللّاعب فيها ليس ملزما على المشاركة وإلّا فقدت اللّعبة جاذبيّتها وطبيعتها المرحة-
وتوصف بكونها إيهاميّة أو خياليّة لأنّ اللّاعب يعي كلّ
الوعي أنّ الأمر لا يعدو أن يكون بديلا للواقع ومختلفا كلّ الاختلاف عن الحياة اليوميّة
ولا يمكن أن يحدث ضررا حقيقيّا للمشاركين في اللّعبة؛ فإنّ اللّعبة السّياسيّة لعبة
خطرة لا مكان فيها للتّخييل والإيهام، وهي تبيح كلّ المحظورات من أجل تحقيق الهيمنة
والاضطهاد والاستغلال، ومن أجل الإبقاء على التّفاوت تبريرا للسّيطرة على الشّعوب،
كما أنّ اللّاعب في اللّعبة السّياسيّة ليس مخيّرا بل مجبرا على الانخراط فيها من طرف
صانع اللّعبة وواضع قواعدها وشروطها، فاللّعبة السّياسيّة لا يمكن أن تكون البتّة غير
موجّهة أو محسوبة، فهي لعبة صنعيّة يحبكها الأقوياء من أجل استنزاف الضّعفاء، ومن أجل
اضطهادهم.
وقد يثير ترحيل اللّعبة من عوالم الإمتاع والتّسلية والنّماء وإعداد الكائن
للمستقبل إلى عوالم السّياسة العمليّة البراغماتيّة الميكيافيليّة،
ثمّ ربطها بالممثّل الأمريكيّ "روبرت دي نيرو"، حيرة القارئ واستغرابه، إذ
ما هي العلاقة الّتي تربط بين أفلام الجريمة والعنف والمافيا والمقامرة الّتي يلعب
فيها "دي نيرو" دور البطولة وبين اللّعبة السّياسيّة؟ لكنّ هذه الحيرة سرعان
ما تتبدّد عندما يأخذ القارئ في إسقاط معارفه على الدّالّ اللّغويّ "دي نيرو"
الّذي يمثّل أيقونة السّينما الأمريكيّة، والّتي لا يخفى على القارئ أنّها فضاء يزدهر
فيه التّرويج للجريمة والعنف واشتغال المافيات، فقد تفطّنت القوى العظمى الامبرياليّة
والرّأسمال الغربيّ إلى أنّ السّينما من أهمّ وسائل الاتّصال الّتي تسهم في صياغة تمثّلنا
للعالم الّذي نعيش فيه لما لها من قدرة هائلة على التّأثير في المتلقّي الّذي يوضع
في حالة تلقّ طويلة زمنيّا أمام شاشة تتعاظم فيها المؤثّرات الصّوتيّة والسّمعيّة الّتي
توجّه نحو وعي المتفرّج، والّتي تهدف إلى شحنه بأفكار معيّنة تكرّس هيمنة القوى العظمى
الثّقافيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والعسكريّة، وليس من العسير أن يظفر النّاظر في
أفلام هوليود الأمريكيّة بتجلّيات الدّعاية الّتي يعرّفها (كاتلر)
بأنّها "المحاولة المقصودة الّتي يقوم بها فرد أو جماعة من أجل تشكيل اتّجاهات
جماعات أخرى أو التّحكّم فيها وتغييرها وذلك عن طريق استعمال وسائل الاتّصال والهدف
من ذلك هو أن يكون ردّ فعل الّذين تعرّضوا لتأثير الدّعاية في أيّ موقف من المواقف
هو نفسه الّذي يرغبه الدّاعية"([58])،
ويبيح اِرتباط "دي نيرو" بالدّعاية الأمريكيّة وتكراره للأدوار الّتي تريد
أنْ تُعولم النّموذج الثّقافيّ الأمريكيّ وأنْ تصدّره إلى بقيّة شعوب العالم ترسيخا
للحلم الأمريكيّ، اِتّخاذه بديلا رمزيّا عن كلّ هذه الدّلالات.
وتقودنا كلّ هذه المعارف والمعلومات والدّلالات الأول إلى مجموعة من الدّلالات
الفائضة أو الثّواني، هي الدّلالات الّتي تمّ تكثيفها في الرّمز "دي نيرو"
الّذي تمّ تحويله من أيقونة إلى رمز متعدّد الدّلالات ومرتبط بمجالات الحياة المختلفة
المشارب الّتي تكوّن تجربة "راوي حاج" الخاصّة والّتي سيساعدنا الاطّلاع
عليها على تبديد بعض غموض الرّمز.
2.3. خصوصيّة تجربة راوي حاج([59])
الحياتيّة ترشّح الرّمز (دي نيرو):
يمتلك راوي حاج جنسيّة هجينة، فهو كاتب لبنانيّ-كنديّ ترعرع في بيروت وقبرص
وعاش أجواء الحرب الأهليّة اللّبنانيّة ثم انتقل إلى نيويورك عام 1982 حيث درس اللّغة
الإنجليزيّة الّتي ستصبح لغة رواياته.
امتهن راوي حاج الكثير من المهن، فعمل بائعا متجوّلا ونادلا في مطعم وسائق سيّارة
أجرة، كشأن كلّ المهاجرين الّذين تجبرهم القوى العظمى على ترك بلدانهم باتّجاه بلدان
الغرب حيث يمتهنون أرذل المهن، وفي العام 1992 انتقل إلى مونتريال بكندا ليدرس التّصوير
حيث لعبت الصّدفة دورا كبيرا في اكتشاف قدراته على الكتابة الأدبيّة فنشر مقالات وقصصا
قصيرة ثم انكبّ على الكتابة الروائيّة، فكانت "لعبة دي نيرو" الّتي تصوّر
بشاعة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة وتكشف الخيوط المحرّكة للّعبة باكورة رواياته الّتي
ترجمت إلى العديد من اللّغات وحصدت العديد من الجوائز منها جائزة الحاكم الكنديّة وجائزة
هيوماكلينان الكنديّة الّتي يمنحها اتّحاد كتّاب الكيبيك([60])
وبذلك يكون راوي حاج قد كتب عن الحرب الأهليّة اللّبنانيّة بعد انتهائها وزوال الخطر
وبعد استقراره في كندا وهو ما قد يفسّر الهجنة بين الرّمز المستقى من عوالم الحداثة
الغربيّة وفنونها وبين تسخيره الرّواية للتّعبير عن قضايا وطنه الأمّ، فهو لا يعيش
هاجس النّقاء الهوويّ الّذي يحرّك إميل حبيبي وغيره من الكتّاب
الفلسطينيّين المقيمين داخل فلسطين والرّافضين للتّطبيع مع الكيان الصّهيونيّ الّذي
ما يزال رابضا على صدورهم.
وتساعدنا هذه السّيرة الموجزة لحياة راوي حاج على رصد أمرين مهمّين في تجربته
الحياتيّة، يبرّران استحداث العنوان-الرّمز الّذي اختاره لباكورة أعماله، يتعلّق الأمر
الأوّل بعامل الهجنة الّذي وسم جنسيّته ولغته وثقافته وتكوينه وإبداعه الفنّيّ، أمّا
العامل الثّاني، فيتعلّق بعاملي الصدفة والمقامرة اللّذين طبعا حياته الّتي كانت أشبه
بلعبة قمار ينتقل فيها صاحبها، المهاجر هربا من أتّون الحرب، من مستوى أوّليّ (بائع
متجوّل ونادل في مطعم وسائق سيّارة أجرة) إلى مستوى أعلى (مصوّر فوتوغرافيّ ثم روائيّ
عالميّ)، خاصّة وأنّه شابّ من الشّباب اللّبنانيّين الّذين اكتووا بنار الحرب الأهليّة
اللبنانيّة الّتي حوّلت حياتهم إلى ضرب من المخاطرات والمقامرة، ويؤّكد راوي حاج هذا
الأمر عندما يتحدّث في أحد حواراته([61])
عن هوس مسلّحي الحرب الأهليّة اللّبنانيّة بلعبة "الرّوليت
الرّوسيّة" الّتي تحوّلت إلى تسلية نموذجيّة في مدينة اليأس ومصائر الغبار: بيروت،
ويضيف راوي حاج أنّ انتشار هذه اللّعبة يعود إلى عرض فيلم أمريكيّ هو فيلم "صائد
الغزلان" الّذي تزامن مع اندلاع فتيل الحرب، والّذي اضطلع بدور البطولة فيه الممثّل
الأمريكيّ "روبرت دي نيرو"، وهو دراما حرب أمريكيّة حائز على أوسكار أفضل
فيلم للعام 1978 من كتابة وإخراج مايكل كيمينو يدور حول
قصّة ثلاثيّ أمريكيّ يعملون في صناعة الصّلب شاركوا في حرب فيتنام وأجبروا على أن يمارسوا
لعبة الرّوليت الرّوسيّة ضدّ بعضهم بعضا من طرف جنود فيتناميّين
أرادت الدّعاية الأمريكيّة أن تخرجهم مخرج التّافهين المجانين، ويشير "حاج"
إلى أنّ الشّباب اللّبنانيّ المستلب حاكى في حياته اليوميّة لعبة "الرّوليت الرّوسيّة" ممّا تسبّب في مقتل الكثيرين، ويضيف
أنّه كان حاضرا على انتحار العديد منهم، وهو ما بقي مطمورا في أعماق اللّاشعور حتّى
صعّدته الكتابة الرّوائيّة هاتكة الأسرار، وقد أدّى التقاء
هذه التّفاصيل المرتبطة بتجربة المؤلّف الخاصّة، وبما ترسّب منها في أعماق اللّاوعي،
إلى استحداث رمز يستمدّ مقوّماته من خصوصيّة تلك التّجربة الّتي لا ترفع شعار النّقاء
الهوويّ مثلما هو شأن تجربة إميل حبيبي الّذي أصرّ على البقاء
في حيفا حتى بعد موته، وإنّما تعمل على فضح السّياسات الصّهيو-أمريكيّة
باستعمال أدواتها ومن داخلها وذلك بغية تفتيت المركزيّة الغربيّة وإسقاط مقولة الفكر
الاِستعلائيّ الّذي لا يعترف إلّا بقوّتين هما أمريكا وإسرائيل.
3.3. الدّلالات الرّمزيّة المكثّفة في العنوان: "لعبة دي
نيرو":
لا يقتصر التّفاعل العلاميّ INTERSEMIOTICITE بين المكتوب الرّوائيّ
والبصريّ السّمعيّ السّينمائيّ، في رواية "لعبة دي نيرو"، على اسم أيقونة
السّينما الأمريكيّة روبرت دي نيرو ولا على الإشارة إلى لعبة الرّوليت
الرّوسيّة الّتي مورست في فيلم "صائد الغزلان"، فقد حضرت السّينما بنوعيها
العربيّة والأمريكيّة في مواضع كثيرة من الرّواية، ولئن كان هذا الحضور المكثّف دليلا
قاطعا على إسهامه في بناء العالم التّخييليّ الرّوائيّ،
فإنّه يقيم الدّليل على أنّ تمثّل النّاس للعالم والوجود أصبح تمثّلا يمرّ عبر السّينما،
والصّادم في هذا التّمثّل أنّ اللّبنانيّين لا يميّزون بين الشّخصيّة الّتي تؤدّي دورا
في فلم وتلعب لعبة الإيهام بالواقع والشّخص الواقعيّ، وبهذا الانزياح الصّادم من الشخصيّة
إلى الشّخص، وبهذا التّوتّر الحاصل في الذّهن بين دينيرو
الفنّان ودينيرو الشّخصيّة، تنشأ رمزيّة لعبة دي نيرو، إذ
يبدو جليّا أنّ اللّبنانيّين الّذين تتحدّث عنهم الرّواية لا يميّزون كثيرا بين التّخييليّ والواقعيّ، وهكذا تتأكّد رمزيّة لعبة دينيرو، فهو يلعب دورا في فيلم بينما يحمل غيره على أن يعيش الدّور
فعلا وشتّان ما بين اللّعب الوهميّ الّذي تعرضه شاشة العرض واللّعب على أرض الواقع.
ويتأكّد ما ذهبنا إليه عندما يجد القارئ نفسه أمام أشخاص يتحرّكون داخل المتن
الرّوائيّ وكأنّهم في حالة غيبوبة يصبح معها الممثّل محرّكا للمشاعر وباعثا على الفعل،
وفي هذا الإطار يسرد جورج أطوار ما حصل في مجزرة صبرا وشاتيلا فيقول "قامت طائرة
حربيّة إسرائيلية بإسقاط قنابل مضيئة بعيار 81 مم مضيئة المنطقة بأسرها وكأنّنا في
فيلم هوليوديّ وأنا دي نيرو أشارك في الفيلم"([62])،
ويضحك جورج ويلقم مسدّسه ويكمل مخاطبا صديق طفولته "دي نيرو ممثّل رائع بحقّ،
أتذكر يا بسّام أحد مشاهد ذلك الفيلم حين قام دينيرو بخداع
صديقه المقرّب؟ أنت صديقي المقرّب وأخي، أنت كذلك"([63])،
والمتأمّل في الخطاب الّذي ينطق به البطل، الّذي يحمل هو ذاته اِسم الممثّل لقبا، يفهم
إلى أيّ مدى يتلبّس التّخييل بالواقع، فجورج الملقّب بدي نيرو يعيش أدوار دينيرو في الواقع أكثر ممّا يعيشها الممثّل نفسه داخل اللّعبة
السينمائيّة، وهو يلعب في مسرح الحياة دورا لا مجال فيه للإيهام أو التّخييل، إنّها
حالة من الاستلاب الكلّيّ الّتي تحضر بوصفها تجسيما لوجه من وجوه رمزيّة لعبة دينيرو الّتي سيوزّعها الكاتب على متنه الرّوائيّ وسيقلّبها على
وجوهها المفتوحة على التعدّد والتّنوّع والّتي يوحي بها العنوان-الرّمز.
وتتأكّد رمزيّة الاستلاب هذه في ارتباط السّينما المستدعاة
إلى المتن الرّوائيّ بالإثارة الجنسيّة والإغراء والعنف والقتل والجريمة والمافيا والخيانة،
ممّا يقود القارئ إلى إحدى دلالات العنوان، فلعبة دينيرو
في هذا الوجه من وجوهها هي لعبة الدّعاية السّينمائيّة الأمريكيّة الّتي تعمل على الاتّصال
بالجماهير "عن طريق اللّفظ أو الإشارة أو العمل الرّمزيّ وهي تخلق جوّا من الإغراء
أو الاستهواء بصرف النّظر عن الموضوع الّذي ترمي إلى الاستمالة إليه وتستخدم الدّعاية
كلّ الأدوات المتاحة وتتوغّل في جميع مظاهر الحياة وتغزو كلّ مظاهر الفكر والعمل"([64])..
وقد قصد راوي حاج في المتن الرّوائيّ أن يجعل وعي أبطال العالم الممكن وعيا هوليوديّا، فهم يحاكون أفلام الجريمة والمافيا الأمريكيّة في حياتهم
اليوميّة ويتّخذون لهم من أسماء ممثلي السّينما الأمريكيّة ألقابا ومن "قمصانهم
القطنيّة وأحزمة رعاة البقر والجينز اللّيفايس"([65])
لباسا ويتصرّفون كما تصّرف أحد أبطال فيلم أمريكيّ أعجبوا به بل ويفسّرون المواقف الحياتيّة
انطلاقا من تمثّل للعالم اكتسبوه من الأفلام الأمريكيّة.
وتتأكّد رمزيّة لعبة دينيرو من خلال الإعجاب الّذي
يحظى به الممثّل، والأدوار الّتي يؤدّيها، فهو رمز الإثراء السّريع والعنف من أجل تحقيق
الغاية، إنّه رمز الحياة المرفّهة السّهلة الّتي تتسارع على خطى الجريمة والمافيا وتنفي
كلّ القيم باتّجاه نوع من العدميّة لا مكان فيه إلّا للمقامرة، لقد بدا كلّ شيء وكأنّه
مشهد من فيلم وكان الجميع مخدّرين لا يشعرون إلّا بالثّراء، ومن أجل الثّراء تسقط كلّ
المحظورات وتتخدّر الإنسانيّة، فتخترق عشرة آلاف إبرة حليب مجفف ذراع نيكول([66])،
وتتمّ تعبئة الخمرة المزيّفة إلى الجهة المسلمة في بيروت لكي "تحرق الحلوق وتدمّر
العائلات"([67])،
ويخون الصّديق صديقه مثلما فعل جورج بصديقة بسّام، رنا، الّتي أغواها بسيّارته الرّياضيّة
الجميلة ونظّارته الشّمسيّة والموسيقى العربيّة المدوّية والسّياقة الجنونيّة الّتي
تذكّرنا بسياقة أبطال أفلام هوليود الأمريكيّة([68])،
ومن أجل المال والثّراء تموت كلّ العلاقات وأوّلها الصّداقة، ولم يقتصر هذا الانهيار
القيميّ على الفئات الشّعبيّة وإنّما تعدّاه إلى طبقة البيروقراطيّين الكسالى
"الّذين لوّحوا بأيديهم لإبعاد الذّباب وللتّرحيب بالرّشاوي ولوضع الأختام على
صفقات أبديّة لوصايا مزوّرة وسقوف بيوت غير قانونيّة وشهادات إعادة ميلاد وصفقات دينيّة
وأنابيب مياه ملوّثة ورخص سوق لسائقين قاصرين وكمبيالات منتهية الصّلاحية وعمارات غير
ثابتة وبواليع منسيّة ووثائق سفر ملطّخة ومحاصيل سرّيّة لنباتات تصيب بالهلوسة"([69])،
وكلّ ذلك من أجل تحقيق "الحلم الأمريكيّ" المعولم،
الذي يصبح حلما سهلا على طريقة دينيرو في أفلامه.
و لعبة دينيرو، في أحد دلالاتها العميقة، هي رمز
اللّعبة السّياسيّة التّي يمارسها عمالقة السّياسة، وهي لعبة جادّة لا موضع فيها للبراءة
والمتعة والإيهام والتّخييل، فإذا كان اللّعب بمعناه المحدّد في أصل الوضع يستخدم أدوات
تحاكي الواقع دون أن توقع ضررا باللاّعبين، من قبيل المسدّسات الخشبيّة والقصبات الخشبيّة
والأقواس المزيّفة التّي كانت ألعابا لبسام وجورج في طفولتهما، فإنّ اللعبة السّياسيّة
لعبة ناضجة، تستخدم المسدّسات الحقيقيّة والأسلحة الثّقيلة مثل سلاح M16 وسلاح AK-47 والقنابل الضّوئيّة
والقذائف والرّصاص والشّاحن الكهربائيّ... إنّها لعبة القتل الّتي تصمّمها القوى العظمى
ويلعبها زعماء المليشيات المتقاتلة في لبنان، فهم ليسوا في النّهاية إلّا منخرطين في
لعبة دينيرو، إنّهم مافيا مطلقة اليد، تخوض حرب عصابات لا
نهائيّة تتوسل بالدّين والطّائفة لتجني أرباحا أكبر، ولتفقد الإنسان كلّ قيمة، وتتأكّد
رمزيّة لعبة دينيرو في هذه اللّعبة الّتي تقوم على المقامرة،
حيث يطغى الرّبح على الطّائفيّة والدّين وكلّ هراء زعماء الطّوائف الّذين لا يختلفون
عن زعماء المافيا، إذ ترسل بيروت الشّرقيّة الخمر المغشوشة إلى بيروت الغربيّة والمهمّ
أن الصّفقة ستحقّق ربحا.
ومن أشكال الفوضى والمقامرة الّتي تفشّت في لبنان، فكانت لعبة دي نيرو أقدر
الرّموز على الإيحاء بها منذ عتبة العنوان، ذلك التّداخل بين مكوّنات المافيات حتّى
لا يكاد القارئ يمسك بأيّ مبدإ أو قيمة، فالكلّ يتبع ربحه
أينما كان وينضمّ إلى جبهة ما، فيقاتل المسيحيّ مع المسلمين وهو في الأصل شيوعيّ ويتحالف
المسيحيّ مع الإسرائيليّ ويتواطأ المسلم مع المسيحيّ ليغشّ أبناء طائفته، ففي منطق
الرّبح لا مسلم ولا مسيحيّ، إنّنا أمام عالم من الجنون لا ضوابط فيه إلّا المصلحة ولا
مكان فيه إلّا للعبث الّذي هو دلالة من الدّلالات الرّمزيّة الّتي تكثّفت في لعبة الرّوليت الرّوسيّة، وهكذا يصبح العنوان بأبعاده الرّمزيّة توجيها
لذهن القارئ نحو عوالم العبث واللّامعني والجنون الّتي ميّزت
لبنان وسياسيّيه في الحرب الأهليّة، إنّ واقع تحالفات السّاسة وزعماء الطّوائف اللّبنانيّة
فيه من الغرابة ما رشّح لعبة دي نيرو لتكون رمزا يوحي بما فيه من قذارة، فقد كشف المتن
الرّوائيّ أنّ ممارسة السّياسة في لبنان يتمّ بنفس منطق لعبة الرّوليت،
إنّ السّاسة اللّبنانيّين مقامرون، ولذلك تحوّل السّلاح والقتل في لبنان إلى لعبة،
وهي لعبة ساخرة قاتلة مبكية، فنحن نشهد في الرّواية المسيحيّ يصوّب بين ساقي المسلم
وهو يتغوّط ولا يقتله.
لقد أراد راوي حاج أن يقول إنّ الحرب الأهليّة في لبنان أديرت بمنطق لعبة الرّوليت وإنّ زعماء الطوائف أشبه برجال المافيا، ولذلك كانت لعبة
دينيرو أفضل الرّموز المستحدثة القادرة على إثارة ذهن القارئ
وتوجيهه نحو هذه الدّلالات منذ العنوان.
وقد برع الأغنياء اللّبنانيّون في لعبة دي نيرو براعة تفوق براعة الممثّل الّذي
انخرط فيها في إطار اللّعبة السينمائيّة، فكما تخوض القوى العظمى حروبها على أرض العدوّ
وبعيدا عن أراضيها ومواطنيها، فتحلّ الدّمار والفناء ثمّ تقفز من المركبة لتترك شعوب
المناطق المنكوبة تتخبّط في الخراب، يخوض لبنانيّو العمالة ووكلاء الاستعمار حروبا
ضدّ الاقتصاد الوطنيّ والعملة الوطنيّة والقيم العربيّة مستخدمين في هذه المهمة القذرة
كلابهم التّي سرعان ما يتخلّون عنها([70])
ليعودوا إلى شققهم الباريسيّة الفاخرة عندما توشك السّفينة على الغرق، ولا يفوت القارئ
الطّاقة الرّمزيّة الّتي شحن بها راوي حاج مذبحة المئة كلب الواقعيّة([71])
الّتي ارتبطت في أقاصي لاوعي الرّاوي بدلالات الخيانة والأنانيّة والنّجاة بالنّفس
واللّاإنسانيّة الّتي تلتقي جميعها في لعبة دي نيرو، الرّمز الرّابض في عتبة العنوان
بمثابة المضخّة الّتي تغذّي المتن، وتمدّه بالتّقليبات التّي تتجسّد من خلالها، وتكمن
رمزيّة لعبة دي نيرو، أيضا، في أنّ الأثرياء لا يمارسون اللّعبة، ولا ينخرطون فيها،
وإنما يقامرون على من سيربح، إنّهم يربحون دون مواجهة الخطر، يشاهدون المخاطر وينجون
منها، ويتركون الفقراء يواجهون الموت، فإذا مات من راهنوا عليه راهنوا على غيره دون
مشاعر ولا أحاسيس، إنّهم لا يعيشون الرّعب الّذي يعيشه المشاركون في اللّعبة، إنّهم
يستمتعون فقط، ويستبدلون الخاسر بغيره فإذا اكتفوا غادروا "بلادهم إلى فرنسا وتركوا
كلابهم تهيم في الشّوارع"([72]) وهو
ما كوّن لديها قابليّة للانخراط في الجريمة والميليشيا.
ومن الدّلالات الرّمزيّة للعبة دينيرو هذه أنّ الجميع
يقامر ويقتل، ولكنّه يرجو إلاها هو أوّل من يعرف أنّه يخالف ما أمر به، ويتحوّل الصّراع
على القتل صراعا بين الأرباب، أرباب في السّماء يمثّلهم أرباب في الأرض، فهذه الكلاب
الّتي تركها أسيادها في لبنان تجمّعت "بإمرة كلب مهجّن جميل بثلاثة قوائم"([73] في
إشارة واضحة إلى رجال الدّين المسيحيّين الّذين اقتاتوا من حالة الفوضى والخراب في
بيروت، فمثلما ترفع القوى العظمى شعاراتها البرّاقة -الّتي تروّج لها أفلام دي نيرو-
الّتي تخفي خلف بريقها هدفا واحدا هو تحقيق المصلحة الشّخصيّة، يرفع رجال الدّين في
بيروت شعارات رنّانة مثلما يفعل أبو نهرا الّذي يدّعي الورع وخدمة الدّيانة المسيحيّة
و"يضع على عنقه سلسلة طويلة وسميكة تضمّ مجموعة من الأيقونات والصّلبان"([74])،
ولكنّه يجعل الدّين مطيّة ليقبض "المال من نظام الضّرائب الّذي وضعه لجمع المال
من المنازل ومحطّات البنزين والمتاجر بهدف تمويل الحرب" و ليركب "سيّارة
ضخمة من نوع رانج روفر وتتبعه دوما سيّارتان للحماية"([75])،
فإذا الدّين قناع من أجل المال والسّلطة وإذا المقدّس في خدمة الجريمة فقد "كان
جوزيف يحمل كلاشينكوف حفرت على مقبضه صورة مريم العذراء"([76]).
ولا يدين راوي حاج من خلال رمزيّة لعبة دي نيرو الدّين ورجاله في بيروت الغبار
فحسب، وإنّما يكشف النّقاب عن الفنّ والفنّانين الّذين يصدحون في أغانيهم بشعارات الوطنيّة
والنّصر والمقاومة والغضب الهادر في وجه المستعمر ولكنّهم يركضون إلى مسارحه من أجل
المال، ويعتبر راوي حاج أغاني فيروز تشدّقا بشعارات سرعان ما تسقط أمام منطق الرّبح،
وهو ما يعبّر عنه على لسان بطله بسّام عندما يقول "بحثت عن فيروز غير أنّها كانت
في باريس تغنّي"([77])
بينما دفن في لبنان "عشرة آلاف تابوت تحت الأرض وكان الأحياء لا يزالون يرقصون
فوق الأرض والأسلحة بأيديهم"([78])،
إن فيروز أيضا تلعب لعبة دي نيرو فيتعارض قولها وفعلها، وهو ما يفسّر نفور الرّاوي
من أغانيها عندما يعترف في مستهلّ الرّواية أنّه لم يكن يهرب من الحرب بل من فيروز
وأغانيها الكئيبة الّتي كانت تنوح من مذياع أمّه([79]) فيلعن
هذه المغنّية المنتحبة الّتي حوّلت حياته جحيما([80]).
إنّ رمزيّة لعبة دينيرو تكمن في هذا الموت الموزّع
بعبث، فالوصف، الّذي تقدّم ذكره، لمجازر صبرا وشاتيلا أو مجزرة الكلاب يكشف عن أنّ
القتل يمارس في مدينة الغبار من أجل القتل، فإذا كان بالإمكان أن يستوعب العقل قتل
الرّجال في مخيّم صبرا وشاتيلا فأنّى له أن يستوعب قتل النّساء والأطفال وقتل الحمار؟
إنّ لعبة القتل العبثيّ تجعل القارئ يدرك أنّه لا قيمة لشيء في بيروت الخراب وأنّه
لا معنى للإنسان في عالم من التّوحّش الّذي تغيب فيه الرّحمة كعوالم أفلام دينيرو، ومثلما تمثّل لعبة الرّوليت
الرّوسيّة الواقعة على الحدّ الفاصل بين الحياة والموت قمّة العبث، يعبث اللّبنانيّون
في هذه الحرب الأهليّة بكلّ شيء، فيصبح السّلاح في متناول أيّ يد كلعب الأطفال، ولا
يعود ثمّة أسهل من أن ينضمّ الواحد إلى مليشيا ليصير قادرا على القتل بلا رحمة، وهنا،
بالضّبط مكمن اللّعبة القذرة، فمن يصنع عوالم بيروت في الحرب الأهليّة هم من يطلبون
الحياة عبر الموت، تماما كالمقامر في لعبة الرّوليت الرّوسيّة
الّذي يقدم على الموت طمعا في ربح يجعل حياته أفضل، وهو يدخل اللّعبة وكلّه رجاء أن
يموت الآخر لكي يعيش هو، إنّ ابتغاء الحياة بالانخراط في لعبة الانتحار والموت هو المنطق
الّذي صنع وعي اللّبنانيّين زمن الحرب الأهليّة، ولم يجد راوي حاج أدلّ من لعبة دي
نيرو للإيحاء به، لقد بات من البديهيّ لكلّ لبنانيّ أنّ حياته مقترنة بفناء لبنانيّ
آخر، ففي لبنان الحرب الأهليّة لا حلول وسطى، إنّها لعبة حياة أو موت تماما كلعبة دي
نيرو الّتي لا يمكن أن يعيش فيها الجميع ولا بدّ من قتيل لكي يعيش الآخر.
وتكشف القراءة التّأويليّة لعنوان الرّواية عن طبقات دلاليّة أعمق، فلعبة دي
نيرو هي لعبة "التّذويت" subjectificationالتي تمارسها القوى الاستعماريّة في تعاملها مع الشّعوب الأصليّة، الّتي تجبرها
على أن تنظر إلى نفسها بعيني مستعمرها، فلا ترى فيها إلّا ذاتا همجيّة بربريّة، وهو
ما يكوّن عندها "قابليّة للاستعمار"([81])،
ويتجّلى ذلك بوضوح على لسان الرّاوي وهو يصف نفسه بصفات أنتجها الغرب لتأكيد مركزيّته وهامشيّة الشّرقيّ، ويسرد تفاصيل يومه صحبة جورج في شوارع
مدينة الغبار حيث كانا يسيران " بلا هدف مجرّد متسوّلين وسارقين، عربيّين هائجين:
شعر مجعّد وقميص مفتوح وعلبة "مارلبورو" مخبّأة في الكمّ، غير متعلّمين عديمي
القيمة فاقدي الرّحمة نحمل مسدّساتنا وأنفاسنا الكريهة ونرتدي الجينز الطّويل الأمريكيّ
الصّنع"([82])،
ويقود هذا الخجل من الذّاتيّة هذه الشّعوب إلى عدّ المستعمر نموذجا للعقلانيّة والتّحضّر،
فتفتح أحضانها لترحّب به مستعمرا، أو تجعل من الهجرة إليه حلما، فلا بدّ "لروما
من أن تكون مكانا جيّدا يتجوّل فيه المرء بحرّيّة فالحمام في ساحاتها يبدو سعيدا وسمينا"([83])،
وهو ما يحوّل الهجرة نحو الغرب إلى هدف يبرّر كلّ الوسائل المستخدمة من أجل تحقيقه،
ومن أجل الهجرة إلى روما عاش الرّاوي، ومن أجل عينيها عشق الجريمة والسّرقة والقتل،
وركب البحر بطريقة سرّيّة، وقبل المقامرة بحياته، وهي مقامرة لا تتجاوز حظوظها حظوظ
المقامرة في لعبة الرّوليت الرّوسيّة، إنّ لعبة دي نيرو
هي لعبة إخواء المدن من البشر، فشعار أمريكا الذّي ترفعه في البلدان المضطهدة هو:
"يجب إفراغ كلّ المدن من البشر لتسكنها الكلاب"([84])،
فإذا كانت غاية اللّعب البنّاء تفريغ الطّاقة الزّائدة فإنّ هدف اللّعبة السّياسيّة
هو تفريغ الأوطان من شعوبها وإحلال الخراب.
وتلعب أمريكا وحلفاؤها لعبة أخرى في لبنان هي لعبة تكريس الفقر والظّلم والتّفاوت
الاجتماعيّ، فبينما كان قادة المجالس ووكلاء الاستعمار الأمريكيّ "يمتلكون سيّارات
رياضيّة وشاليهات، ويزيدون رصيدهم في المصارف"، ويتجوّلون بالملابس "الأرماني"
وبنظّارات "رايبان" كانت مهامّ بسّام في المرفإ أتفه من أن "تكفي لشراء السّجائر ولا لإرضاء أمّ متذمّرة
ولا حتّى لتأمين الطّعام"([85])
وهو ما جعله يتساءل في يأس وحنق "إلى أين أذهب؟ من عساي أسرق أو أخدع أو أتوسّل
إليه أو أغريه أو أعرّيه أو ألمسه؟"([86])
إنّها أسئلة تختزل هذا الحلم الأمريكيّ الّذي تبشّر به السّينما، وهي إذ تبشّر به تخدّر
هؤلاء الشّباب الّذين تنعدم أمامهم كلّ السّبل نحو ذاك الحلم فلا يجدون إلّا النّموذج
الّذي يمثّله دي نيرو ليتشبّهوا به لأنّه الرّجل القويّ الّذي يطوّع كلّ شيء لمصلحته.
إنّ رمزيّة لعبة دينيرو تـتأكّد في غياب الوضوح،
إذ لا انتماء ولا معنى لشيء إلّا الانتماء إلى المصلحة الفرديّة، إنّه منطق المافيا
الّذي يحرّك كلّ شيء، وهو منطق يشرّع للعمالة وللخيانة ولتمزيق الوطن من أجل ربح أكبر،
فبعد أن كانت لبنان "جهة واحدة صرنا الآن نطلق تسمية الجهة الأخرى"([87])
أو النّاحية الغربيّة على بيروت الغربيّة المسلمة، ولتنجح أمريكا وحلفاؤها في مهمّتهم
القذرة هذه، يصوّرون لأبناء الشّعب الواحد أنّ كلّ طائفة منه تكيد
لبقيّة الطّوائف، وهو ما روّجت له بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان، فقد أيقظت أمريكا
الخلافات المذهبيّة والعرقيّة، وأطلقت وحش الثّأر والانتقام من قمقمه فتجسّدت إحدى
دلالات اللّعبة الرّمزيّة، ذلك أنّ عوالم المافيا وعوالم أفلام دي نيرو يسيطر عليها
هذا الخوف من الآخر، فالموت متربّص في كلّ لحظة، وفي منطق المافيا إمّا أن تكون قاتلا
أو مقتولا وفي ذلك يقول جورج لبسّام "لا يا بسّام فنحن وحدنا في هذه الحرب وشعبنا
يذبح يوميّا وأنت...أنت الّذي ذبح جدّك وقتل والدك...أنت...أنت...ستتّحد مع الشّيطان
في سبيل إنقاذ أرضنا وإلّا كيف سنجبر السّوريّين والفلسطينيّين على المغادرة؟"([88])،
إنّها لعبة بثّ الفتنة وإثارة القلائل والتّخوين الّتي تجعل منها السّياسة الأمريكيّة
فزّاعة يتمّ استغلالها لتفتيت وحدة الشّعوب، تنفيذا لسياسة "فرّق تسدّ" الّتي
تجعل من الاعتماد على العنصر الأجنبيّ، لضمان البقاء للأقلّيّة الّتي ترى نفسها مستهدفة،
حتميّة لا مهرب منها.
إنّ لعبة دي نيرو هي لعبة هيمنة القوى العظمى على الشّعوب المضطهدة، هذه الهيمنة
تبدأ ثقافيّة واقتصاديّة، وهي تبتغي لها رجالا من أبناء تلك الشّعوب يكملون المهمّة،
فيقتتلون ويتسابقون على تقديم الولاء للقوى العظمى، وهو ما تفطّنت له السّيّدة نبيلة
عندما خاطبت السيّد سمير قائلة "إنّها أمريكا سيّد سمير، كلّ مشكلاتنا تنبع من
هناك(...) النّفط سيّد سمير، فهم يسعون وراء نفط المنطقة"([89])،
فالنّفط والموارد الاقتصاديّة هي الدّافع الخفيّ الّذي يحرّك أمريكا، التّي تتحرّك
على الأراضي المضطهدة وفق معادلات رياضيّة هدفها توفير الرّفاهية للمواطن الأمريكيّ،
وإن كان ذلك على حساب حرمان الشّرقيّ من أشياء يعتبرها الغرب من المسلّمات، وعلى رأس
قائمة هذه الأشياء، المياه الصّالحة للشّرب التّي كانت أمّ بسّام تسرقها من خزّان الجيران
"فهي لا تتوفّر إلّا ساعتين في اليوم"([90])
إنّه منطق المقامرة القائم على طلب الحياة بموت الخصم، إنّ البديهيّات في الغرب تتحوّل
إلى نعم وأحلام في شرق الغبار والحرمان والهمّ.
وتتجسّم لعبة المقامرة، الّتي يرشح بها العنوان كذلك، في هذا الدّفع نحو عوالم
الرّهبة والفوضى واللّاتمايز، حيث لا يعرف عدوّ ولا صديق، وقد تجلّى ذلك في دخول إسرائيل على رقعة الحرب الأهليّة
في لبنان الّذي تحوّل إلى طاولة للعبة الرّوليت الرّوسيّة،
وكلّ يراهن على من يعتقد أنّه الرابح، فيتحالف المسيحيّ مع الإسرائليّين
ضدّ أبناء وطنه وضدّ من احتموا بوطنه الّذي أصبح بلا حكومة ولا دولة ولا سلطة، وقد
انتهى هذا التّحالف بأبشع المجازر الّتي عرفتها الإنسانيّة، وهي مجزرة صبرا وشاتيلا
ويصف جورج الملقّب بدي نيرو وحشيّتها قائلا "لذلك قتلنا وقتلنا أطلقنا النّار
على النّاس عشوائيّا وقتلنا عائلات بأكملها على موائد الطّعام مخلّفين جثثا في ثياب
النّوم وأعناقا مشروطة وأيادي منفصلة عن الأجساد ونسوة مقطّعات نصفين بالفؤوس"([91])،
فمن دلالات لعبة دي نيرو، الّتي اختارها راوي حاج عنوانا لباكورة أعماله، دعم أمريكا
للكيان الإسرائيليّ وإطلاق يده للقتل والتّهجير بنفس منطق المافيا الّتي تتصرّف دون
أي رحمة أو أخلاق، وتسقط منطق الدّول إلى حضيض منطق المافيا.
وتتّسع رمزيّة لعبة دينيرو في عتبة الرّواية لتتجاوز
الإحالة على المضمون، إلى الإحالة على الشّكل ولعبة الكتابة الرّوائيّة ما بعد الحداثيّة،
المفتوحة على عوالم التّجريب والمقامرة، فقد أوصلتنا قراءتنا التّأويليّة للرّمز الرّابض
في عتبة عنوان رواية راوي حاج، إلى اكتشاف تقليباته التّيميّة
الّتي تجسّمت من خلالها اللّعبة واتّخذت من خلالها دلالات متعدّدة ومتنوّعة، إلّا أنّ
اكتفاءنا بالتّقليبات التّيميّة يجعل مقاربتنا قاصرة، فالثّابت
في عناوين الرّواية ما بعد الحداثيّة أنّها عناوين لا توحي بالموضوعات الّتي يطرحها
الرّوائيّ في متونه فقط، وإنّما تتعدّاها إلى الإيحاء بالطّابع اللّعبيّ للكتابة، فحضور
دينيرو في العنوان، بما يحيل عليه من عوالم السّينما والتّمثيل
والصّورة، كان رمزا يعدّ القارئ لرهان ترفعه الرّواية ويتمثّل في حضور لافت لتقنيات
السّينما في فضاء الكتابة الرّوائيّة، وبهذه الهجنة تصبح لعبة دينيرو
أيضا لعبة نصّيّة تقامر من خلالها الرّواية بولوج عوالم فنون أخرى يكون عليها أن تغتني
منها دون أن تفقد خصائصها أو تموت لأنّ اللّعبة أجناسيّا
لعبة حياة أو موت تلعبها الرّواية أمام فنّ نافسها على عرش الحكي.
وقد كان للرّوائيّ راوي حاج في هذه
الرّواية لعبته أيضا، ومثلما وظّفت القوى العظمى السّينما لتجعل الرّعب والحرب والجريمة
ممتعة، تطبيعا مع الموت والاضطهاد، وتركيعا للشّعوب، وظّف
راوي حاج الكتابة الرّوائيّة التّخييليّة الممتعة عن الحرب
ليعرّي الاستراتيجيا الأمريكيّة، ويميط اللّثام عن الوجه
القاتم الوحشيّ للحروب، الّذي تشهد عليه استتباعاتها الّتي
تطال كلّ شيء، لقد كان الرّمز اللّغويّ الأدبيّ "لعبة دي نيرو" بمثابة الرّصاصة
القاتلة، جلد من خلاله الرّوائيّ الجميع وعرّاهم أمام أنفسهم: غربا وشرقا ومستعمرا
ومستعمرا وأغنياء وفقراء وسياسيّين ورجال دين وفنّانين ومصنّعين،
لأنّ الجميع يلعب لعبة المصلحة الفرديّة وهو ما يختزله قول بسّام "نفكّر جميعا
بأنفسنا أوّلا وأخيرا"([92])
وهكذا يكون الرّمز المستحدث "لعبة دي نيرو" قد نجح في أن يقول الكثير بالقليل،
وأن يجسّم المجرّد، وأن يتيح مرور القارئ من الحقيقة المدركة بالحواسّ إلى الحقيقة
المجرّدة، حقيقة اللّيبراليّة الوحشيّة الّتي تفهم الفردانيّة أنانيّة فتشعل فتيل الحرب
الأهليّة وتسير بالحياة نحو العبث واللّامعنى.
خاتمة:
قادتنا قراءتنا التّأويليّة السّيميائيّة لعتبة العنوان
في روايتي "سرايا بنت الغول" للرّوائيّ الفلسطينيّ إميل حبيبي ورواية
"لعبة دي نيرو" للرّوائيّ اللّبنانيّ-الكنديّ راوي حاج إلى الإقرار بقطع
عناوين الرّواية ما بعد الحداثيّة مع العنونة الكلاسيكيّة وانصرافها نحو سطوح لغويّة
تقوم على المجاز والاستعارة والخرق النّحويّ والتّنافر الدّلاليّ وتفتح أبوابها أمام
الرّمز الّذي يشترك مع العنوان ما بعد الحداثيّ في القدرة على الإيحاء والتّكثيف الدّلاليّ
والتّعدّد التّأويليّ، وأكّد لنا ارتباط الرّموز المستدعاة
في عتبة عنوان هاتين الرّوايتين بواقع الرّوائيّ وقضايا شعبه أنّ بذر الرّموز في عناوين
الرّواية ما بعد الحداثيّة لم يكن زخرفا أو حلية أو رغبة في تحدّي القارئ وغلق أبواب
الفهم في وجهه، وإنّما كان استثارة لفكره وتحريكا لذهنه مطاردة للدّلالة واكتشافا للمعنى
وإمساكا بالجوهر، فقد كان الرمز، رغم ما يقوم عليه سطحه اللّغويّ من مجاز وتخييل، أقدر
الوسائل على قول الحقيقة والإحاطة بما يعتري واقع الحقبة التّاريخيّة ما بعد الحداثيّة
من نسبيّة وتشظّ وزيف وفوضى وتداخل ولا تمايز عنفيّ، ولم يمنع اشتراك الرّموز في قول
الحقيقة من تنوعّها، استجابة لخصوصيّة تجربة الرّوائيّ، وهو ما أكّده تباين أصناف ومجالات
الرّمز في عتبة عنوان الرّوايتين المدروستين، فقد آثر إميل حبيبي في خرافيّته "سرايا بنت الغول"، الّتي كتبها والعدوّ رابض
على صدر وطنه، رمزا عامّا مشتركا رحّله من عالم الحكاية الشّعبيّة الفلسطينيّة فحافظ
على دلالاته الأصليّة الأصيلة الّتي تتجلّى في صراع الثّنائيّات الضّدّيّة الكونيّة
وحيّنه ووسّعه ليقصّ علينا من خلاله قصّة الصّراع التّاريخيّ الفلسطينيّ الإسرائيليّ
على الأرض وعلى الهويّة، وليفضح من خلاله تغوّل الكيان الصّهيونيّ الّذي حضر الغول
رمزا للتّعبير عن هبوطه الأخلاقيّ واعتماده لسياسة التّضليل والتّزييف وتزوير الحقيقة
واغتصاب الأرض والعرض، وليشيد بصمود فلسطين الّتي حضرت سرايا رمزا يتكثّف فيه رسوخها
وتجذّرها وأصالتها وعراقتها ووقوفها خريطة وتاريخا وتضاريس ولغة وتراثا وعادات في وجه
كلّ سياسات التّهويد والسّرقة، ولأنّ سرايا هي الصّمود والأصالة وسّعها الرّوائيّ لتتحوّل
إلى رمز للكتابة الأدبيّة المقاومة الّتي تمتح من الموروث العربيّ وتقول الصّدق وتحافظ
على الطّفولة وترفض كلّ أشكال الاستلاب والكذب وخاصّة منها تلك الّتي ترغمها عليها
السّياسات الميكيافيليّة المتغوّلة،
فالتقت في الرّمز دلالاته المضمونيّة ودلالاته الخطابيّة
الشّكليّة الّتي تشترك في صفات النّقاء والصّفاء والأصالة والتّجذّر في الهويّة.
أمّا راوي حاج، الّذي رصد استتباعات الحرب الأهليّة
اللّبنانيّة الّتي بدأت بانهيار الدّولة وصولا إلى انهيار المعنى والسّقوط في العبث،
فقد خيّر أن يستحدث رمزا خاصّا قادرا على أن يحيط ببشاعة الحرب ووحشيّتها وأن يكشف عقليّة المقامرة والمصلحة الفرديّة والرّبح
الّتي أصبحت كلّ فئات الشعب اللّبنانيّ تتمثّل من خلالها العالم. وقد وجد في لعبة الرّوليت الرّوسيّة الّتي مارسها روبرت دينيرو
في فيلم "صائد الغزلان" واقعا مادّيا شحنه الرّوائيّ بدلالات الرّعب والعبث
واللّامعنى، وتخدّر الشّعور وموت الضّمير، وابتغاء الحياة
بالموت، وتغليب المصلحة الفردية، وبيع الوطن لمن يدفع أكثر ومغادرته إذا خرب، والتّحالف
مع العدوّ، وتدنيس المقدّس وهبوط الفنّ...الخ، كما استطاع الرّوائيّ أن يكشف بواسطة
نفس الرّمز عن سياسات القوى العظمى الّتي تنتهجها مع الشّعوب المضطهدة من أجل تقسيمها
وإضعافها تمهيدا لاستعمارها واستغلال ثرواتها ومواردها. كما لم يفته أن يعدّ القارئ،
باستدعاء هذا الرّمز المستحدث المجلوب من عوالم المقامرة والرّهان، لتلقّي متن روائيّ
يبتغي حياته وتربّعه على عرش الحكي بأكل لحم فنون أخرى يستدعيها إلى فضائه ليمتصّ طاقاتها
ويستفيد من تقنياتها ثمّ يحجبها ليحيا ويستمرّ، فإذا الرّهان على البقاء، في
"لعبة دي نيرو" الرّوائيّة، مضمونيّ وشكليّ.
وتنتهي بنا دراستنا للرّمز في عتبة عنوان الرّواية ما بعد الحداثيّة إلى الاعتراف
له بكلّ خصائص الرّمز من حركيّة وتنقّل وتحوّل وتعدّد وتنوّع وتماسّ مع التّجربة الإنسانيّة...
غير أنّ للرّمز المستدعى في عتبة العنوان ميزة يتفرّد بها عن الرّموز المبذورة في المتون ألا وهي إيحاؤه بخصائص الكتابة الشّكليّة،
وربّما من أجل هذا الجمع بين الإيحاء بالمضامين والإيحاء بتقنيات الكتابة، تمارس رموز
العناوين سحرها على الرّوائيّ وعلى القارئ، على حدّ السّواء.
المصادر والمراجع
الأدب ونمذجة الواقع، ميخائيل خراجينكو، مقال ضمن كتاب الأدب وقضايا العصر، ترجمة: عادل العامل، منشورات وزارة الثّقافة والإعلام، العراق.
الاسم واللّقب
والكنية: على الرابط التالي بتاريخ 22، 1، 2018
https://www.alukah.net/literature_language/0/82805
أساليب الإدارة المتقدّمة للدّعاية الإعلاميّة الدّوليّة، فايز عبد الله مكيد العسّاف، مجلّة كلّيّة بغداد للعلوم الاقتصاديّة الجامعة، العدد 29، 2012
استلهام الينبوع، عبد الرّحمن بسيسو، مؤسّسة سنابل للتّوزيع والنّشر، ط1، 1983.
تعريف راوي الحاج: على
الرابط التالي بتاريخ 18، 12، 2018:
https://www.google.com/search?q=%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81+%D8%B1%D8%A7%D9%88%D9%8A+%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC&oq=%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81+&aqs=chrome.2.35i39j69i57j69i59l2j69i61l2.3884j0j7&sourceid=chrome&ie=UTF-8
تعريف اللّعب
وسيكولوجيّات: على الرابط التالي بتاريخ20، 11،
2018:
http://www.startimes.com/?t=5290125
تمثيلات الأنا والآخر في لغة السّرد الرّوائيّ الفلسطينيّ، سرديّة "سرايا
بنت الغول-خرافيّة" لإميل حبيبي نموذجا، زين العابدين محمود العواودة، مجلّة الجامعة الإسلاميّة (سلسلة الدّراسات الإنسانيّة) المجلّد19، العدد الأوّل، 1999.
الدّعاية والتّضليل الإعلاميّ في الأفلام الأمريكيّة: دراسة تحليليّة، محمود مجد نبيل، رسالة ماجستير في الصّحافة والإعلام، كلّيّة الإعلام، جامعة البترا، الأردن، 2015.
دلائليّات الشّعر، مايكل ريفاتير، ترجمة: محمّد معتصم، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط، ط1، 1997.
راوي الحاج
أوّل كاتب عربيّ يحقّق نجاحا في كندا: على الرابط التالي بتاريخ 2، 1، 2019:
الرّحلة مع الفوتوغرافيا، العودة إلى الوطن من خلال الكتابة: على الرابط التالي بتاريخ21، 1، 2019:
الرّمز والرّمزيّة في الشّعر المعاصر، محمد فتوح أحمد، دار المعارف، ط2، القاهرة، 1978.
الرّمزيّة والرّومانتيكيّة في الشّعر اللّبنانيّ، أميمة حمدان، منشورات وزارة الثّقافة والإعلام، العراق، 1981
الرّمزيّة، تشارلز تشادويك، ترجمة: نسيم يوسف إبراهيم، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1992.
سحر الرّمز، عبد الهادي عبد الرّحمان، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، ط1، اللّاذقيّة، 1999.
سرايا بنت الغول، إميل حبيبي، مؤسّسة الرّيّس للكتب والنّشر، ط1، لندن–قبرص، 1992.
الشّعر الفلسطينيّ المقاتل، دراسة في الواقعيّة الثّوريّة، نزيه أبو نضال، منشورات اتّحاد الكتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين، (د.ن)، (د.ت).
الصّورة الشّعريّة، مصطفى ناصف،
دار الأندلس، ط2، 1981.
على حدّ السّيف، شاكر فضل، مجلّة مشارف، دار عربسك، القدس وحيفا، العدد 9، 1996.
الفرق بين
الكنية واللّقب: على الرابط التالي بتاريخ 11، 1،
2019:
فيلم صائد
الغزلان لروبريت دينيرو:
على الرابط التالي بتاريخ 28، 11، 2018:
https://egy.best/movie/the-deer-hunter-1978/#download
قضايا القصّة العراقيّة المعاصرة، عبّاس عبد جاسم، دار الرّشيد، بغداد، 1982.
قلعة إكسل، إدمون ولسون، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، 1979.
لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت.
لعبة دي نيرو، راوي حاج، (2012)، ترجمة: فدى الحاج يونس، شركة المطبوعات للتّوزيع والنّشر، ط 3، بيروت.
مالك بن نبي
المفكّر الّذي بحث في أسباب تخلّف الأمّة، هالة سويدي: على الرابط التالي بتاريخ 19، 1، 2019:
مذبحة الكلاب في
لبنان: على الرابط التالي بتاريخ 29، 10، 2018
محاضرات في علم اللّسان العامّ، فردينان دي سوسير، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، ط1، الدار البيضاء، 1987.
مقدّمة في نظريّة الأدب، عبد المنعم تليمة، دار الثّقافة للطّباعة والنّشر، القاهرة، 1976
المكان في روايات إميل حبيبي، تميمة كتانة، منشورات المنهل، 2017.
نظريّة التّأويل، الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثّقافيّ العربيّ، ط2، 2006.
Semiotique et philosophie du langage, Umberto Eco, pressses
universitaires de France, 1988.
Aspect du paratexte, F Hallyn and G.Jacques, Lauvain,
1987.
([19]) الفرق بين الكنية واللّقب
https://mawdoo3.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%82_%D8%A8%D9%8A%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%82%D8%A8
بتاريخ 11، 1، 2019.
([20])
الاسم واللّقب
والكنية: https://www.alukah.net/literature_language/0/82805 بتاريخ
22، 1،
2018.
([56])
تعريف اللّعب وسيكولوجيّاته: http://www.startimes.com/?t=5290125،
بتاريخ، 20، 11، 2018.
([61]) الرّحلة مع الفوتوغرافيا، العودة إلى الوطن من خلال الكتابة: https://www.aljazeera.net/programs/a-date-in-
exile/2008/7/28/%D8%B1%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%AD%D8%A7%D8%AC
بتاريخ
21، 1، 2019.
https://www.alarabiya.net/ar/last-page/2017/12/30/%D9%85%D8%B0%D8%A8%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86.ht بتاريخ 29، 10، 2018.
([81]) مالك بن نبي المفكّر الّذي بحث في أسباب تخلّف الأمّة:
https://meemmagazine.net/2018/05/18/%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83-%D8%A8%D9%86-%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%AE/ .بتاريخ 19، 1، 2019