المضمر في خطاب الجنون، الفاشوش في حكم قراقوش أنموذجا
د. عبد العزيز لحويدق
جامعة القاضي عياض، المغرب
azizi.lahouidak@gmail.com
البريد الإلكتروني:
معرف (أوركيد): 0009-0008-6269-0365
بحث أصيل |
الاستلام:15-3-2023 |
القبول:25-4-2023 |
النشر:30-4-2023 |
الملخص:
إن هذه المقاربة التأويلية تهتم باكتشاف بنية عميقة تقوم بالأساس على الصراع والتوتر بين فواعل تتغيا امتلاك السلطة وبخاصة إذا كانت هذه العوامل تنتمي إلى قوميات مختلفة، وتتسم صفات شخصياتها بالتضاد والتباعد؛ ذلك أن اكتشاف هذه البنية يسعف في التحرر من القراءة المرجعية المرآوية، ويمكننا من بناء نموذج تأويلي لكل أشكال الصراع على السلطة، التي تنتقل من الواقع إلى الخطاب، وتتخذ من الضحك والهزل والسخرية أسلوبا للمقاومة وقتل الآخر رمزيا؛ ومن ثم لا يعنينا مطابقة هذه الحكايات لشخصية قراقوش التاريخية، ومدى صدقيتها أو كذبها، ذلك أن الحكاية جنس تخييلي قوته فيما يرمز إليه من دلالات قادرة على التحيين في كل قراءة حسب السياقات والمقامات؛ ويبدو هذا التحيين واضحا من خلال مقدمتي ابن مماتي والإمام السيوطي؛ لأن السياق بوصفه محددا تأويليا يختلف في كل منهما وهذا الاختلاف هو الذي يُوَجِّه آليات الفهم والإدراك؛ ويمكن القول إننا في حضرة سياقين هما: سياق النصيحة المضمرة وسياق تعليمي.
الكلمات المفتاحية:
المضمر،
المقاربة التأويلية، الصراع على السلطة، الحكاية، الواقع والخطاب، جنس تخييلي،
سياق النصيحة، سياق تعليمي.
The Undisclosed Meaning in the
Discourse of Madness:
“Alfachouche in the Judgment of Qaraqosh” as a Case Study
Dr. Dr ABDELAZIZ LAHOUIDAK
Associate Professor, Cadi Ayyad University, Morocco
E-mail: aziz.lahouidak@gmail.com
Orcid ID: 0009-0008-6269-0365
Published:
30.04.2023 |
Accepted: 25.04.2023 |
Received: 15.03.2023 |
Research Article |
Abstract:
This interpretive approach is
concerned with discovering a deep structure based mainly on conflict and
tension between actors who seek to possess power, especially if these factors
belong to different nationalities, and the characteristics of their personalities
are characterized by antagonism and divergence. This is because the discovery
of this structure aids in liberation from the mirror reference reading, and
enables us to build an interpretive model for all forms of power struggle,
which move from reality to discourse, and take laughter, humour,
and sarcasm as a method of resistance and symbolically killing the other.
Hence, we do not care about the conformity of these stories to the historical
personality of Qaraqosh, and the extent of their sincerity or falsity, because
the story is a fictional genre whose strength is in what it symbolizes of
indications capable of reviving in every reading according to contexts and
stations. This revival seems clear through the introductions of Ibn Mamati and
Imam Al-Suyuti, because the context as a determinant
of interpretation differs in each of them, and this difference is what directs
the mechanisms of understanding and perception. It can be said that we are in
the presence of two contexts: the implicit advice context and the educational
context.
Keywords:
The implicit, the Interpretative Approach, the Struggle for Power, The Story, Reality and Discourse, Imaginary Gender, Context of Advice.
تقديم:
تعد حكايات قراقوش أمثولة مجازية وظيفتها نقد واقع مقلوب انتفت فيه العدالة
وتفشى فيه الظلم والاستبداد والاستفراد بالرأي، والأحكام الفاصلة في قضايا الناس تتحكم
فيها الأهواء والمسبقات والصور النمطية والكليشيهات، وتفتقد
للعقل والمنطق، وتتصف بالجنون والحمق؛ ولحكايات قراقوش قصدية رئيسة أن الحاكم يفقد الشرعية ويسقط في الظلم بمجرد
استبعاد المثقف من حاشيته، والاعتماد على القوة والقرارات المزاجية، مما يترتب عليه انفلات
الحل والعقد من يده والانتقال إلى المتخاصمين، فتصبح العلاقة أفقية بعدما كانت عمودية. وفي ذلك إشارة إلى زوال
الحاكم المستبد بسبب الطغيان وانتفاء العدل؛ وتعتمد حكايات قراقوش في تبليغ أطروحتها على الكناية والرمز
والإشارة والتورية والسخرية والمفارقة والإضمار والمزج بين الجد والهزل، لأن ذلك هو
الأسلوب المناسب لسياق تاريخي متأزم غير ديمقراطي ولا يسمح بالجهر بالرأي المعارض؛ ومعلوم أن الحكاية الاستعارية
تمكن من التنصل من مسؤولية التأويل واستلزامات محتوى الملفوظ
السردي.
وهي بذلك تتجرد من مرجعها الواقعي، وإحالتها المشروطة بالزمان والمكان الخاصين
لتكتسب صفة العموم، وتصلح للإسقاط على كل وضع مماثل مفتقر لقيم الحق والعدالة. ما نسعى
إلى التنصيص عليه هو قدرة البلاغة السردية على مقاومة السلطة وبناء صورة سلبية لها
قابلة التداول والانتشار بين العوام في كل زمان ومكان.
وتأسيسا على ما سبق اقتصرنا في التحليل على حكاية واحدة على سبيل التمثيل لأنها
تتضمن النواة الدلالية المركزية التي تشكل الخيط الناظم لكل حكايات قراقوش العشرين؛ فالحاكم الجندي غير المثقف
غير عادل بالضرورة، وأحكامه وأفعاله من جنس أفعال المجنون والأحمق، ناهيك عن كونه من المماليك
وذي هوية مخالفة.
فحكايات قراقوش، إذن، هي صدى لصراع بين الأنا والآخر، وسعي لتحقيق الغلبة بلاغيا كتعويض عن الهزيمة
تاريخيا.
النص:
الحكاية الخبر.
الحكاية
الاولى
إن قراقوش رجلا صقليا،
يميل الى البيض، ويكره السود، واضطرته الظروف في يوم ما إلى الحكم بين امرأة حجازية، وجارية لها تركية.
وكانت هذه أول مرة يحكم فيها: قالت الحجازية لقراقوش:
"ان
هذه جاريتي قد اساءت الأدب علي"؛ فنظر قراقوش إلى بياض الجارية التركية، وسواد
الحجازية، فقال للحجازية: "ويلك! خلق الله جارية تركية لجارية سوداء حجازية؟ ما
أنا بأحمق أو مغفل! يا عثمان ودوا هذه الحجازية الحجرة!
"،
فمكثت الجازية شهرا، وما لبثت أن عادت إليه تقول: "إنني قد أعتقتها لوجه الله
تعالى"، فقال لها قراقوش: "يا سبحان الله! إنها هي التي تعتقك، فإنك جاريتها،
وإن أرادت أن تبيعك فإنها تبيعك وإن أرادت عتقك فإنها تعتقك! فقالت الحجازية للتركية: "اعمل
معي مثل ما عملت معك". فقالت التركية: "وما تريدين مني؟"؛ فقالت الحجازية:
"اذهبي إلى قراقوش وقولي له إنك تعتقينني لوجه الله تعالى"؛ فذهبت التركية
إلى قراقوش وقالت له: "قد عتقت سيدتي الحجازية لوجه الله تعالى"؛
فقال قراقوش جزاك الله خيرا"؛ وخرجت الحجازية من السجن ([1]).
تحليل الحكاية:
1.
العنوان:
يعد العنوان عتبة ضرورية لاقتحام عالم النص، وتفكيك نسيجه الدلالي إذ لا مفر من اجتياز قنطرته، والاهتداء بدليله، فهو جزء من بناء النص ولا يمكننا الانتقال بين فضاءاته المختلفة دون المرور من عتباته، ومن لا ينتبه إلى طبيعة ونوعية العتبات يتعثر بها. ومن لا يحسن التمييز بينها، من حيث أنواعها وطبائعها ووظائفها، يخطئ "أبواب النص" فيبقى خارجه، أو حتى عندما يدخل إليه، يبقى خارج فضاء النص لأن ما انتهى إليه لا يسلم نفسه إليه، لأنه ليس الفضاء الذي يقصد"([2]).
فالعنوان مشحون دلاليا، ومنه تنطلق شرارة رؤية العالم المؤثثة لهندسة النص، وتتحدد مسارات تأويله؛ فكتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" أو "الفاشوش في أحكام وحكايات قراقوش" تنتظم مفرداته في إطار بنية تتميز بالتنافر والتوتر والتضاد، ذلك أن مدار لفظ "الفاشوش لا يخرج عن الحقل الدلالي المرتبط بالحمق والجنون والكذب وضعف الرأي وصوت الأفعى بل قد يعني الآخر المهمش إذ تشتق منه صفة لصيقة بالزنوج؛ فقد ورد في لسان العرب([3]) أن الفشفشة هي ضعف الرأي، والفش هو الأحمق، والفشيش هو صوت الأفعى، وفي حديث "أعطهم صدقتك، وإن أتاك أهدل الشفتين مُنْفَشّ المَنْخِرَين أي مُنتَفِخِهُمَا مع قصور المارن وانبطاحه، وهو من صفات الزنج والحبش في أنوفهم وشفاهم.
ومن دلالات الفاشوش أيضا تجريد الشخص من كبره وتيهه، إذ قال ثعلب: لأفشن وطبك أي لأذهبن بكبرك وتيهك.
وفي المقابل نجد أن دلالة الحكم والأحكام تدل على العلم والفقه والقضاء بالعدل، فالعرب تقول: حكمت وأحكمت وحكمت بمعنى: منعت ورددت؛ ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم لأنه يمنع الظالم من الظلم؛ ومنه أيضا قول الأصمعي: أصل الحكومة: رد الرجل عن الظلم؛ قال: ومنه سميت حكمة اللجام لأنها ترد الدابة([4])، وبهذا نكون إزاء بنية دلالية يطبعها التوتر والتضاد والتنافر، بنية يتجاذبها مسار ينزع إلى إعادة التوازن إلى بنية النظام المألوف وبنية تمدد مسار الاختلال من أجل فرض منظومة قيمية جديدة تعيد الاعتبار للآخر والغريب، أو تسعى إلى فضح هذا المضمر الذي ينم عن صراع في الواقع بين الأنا والآخر انطلاقا من لغة الرمز والتكنية؛ هذا الآخر الذي يدل عليه اسم قراقوش الوارد في العنوان، والذي يحيل إلى ذات مرجعية له وجود تاريخي يمكن التحقق منه، هذه الذات هي الأمير بهاء الدين قراقوش صاحب الأعمال الجليلة في التاريخ الأيوبي، والذي أضحى بفعل هذه الحكايات "رمزا للبله والعته، والغفلة، والجنون، وما شئت من صفات الغرابة والشذوذ"([5]).
إلا أن ما يهمنا في هذه المقاربة التأويلية هو اكتشاف بنية عميقة تقوم بالأساس على الصراع والتوتر بين فواعل تتغيا امتلاك السلطة وبخاصة إذا كانت هذه العوامل تنتمي إلى قوميات مختلفة، وتتسم صفات شخصياتها بالتضاد والتباعد؛ ذلك أن اكتشاف هذه البنية يسعف في التحرر من القراءة المرجعية المرآوية، ويمكننا من بناء نموذج تأويلي لكل أشكال الصراع على السلطة، التي تنتقل من الواقع إلى الخطاب، وتتخذ من الضحك والهزل والسخرية أسلوبا للمقاومة وقتل الآخر رمزيا؛ ومن ثم لا يعنينا مطابقة هذه الحكايات لشخصية قراقوش التاريخية، ومدى صدقيتها أو كذبها، ذلك أن الحكاية جنس تخييلي قوته في ما يرمز إليه من دلالات قادرة على التحيين في كل قراءة حسب السياقات والمقامات؛ ويبدو هذا التحيين واضحا من خلال مقدمتي ابن مماتي والإمام السيوطي، لأن السياق بوصفه محددا تأويليا يختلف في كل منهما وهذا الاختلاف هو الذي يُوَجِّه آليات الفهم والإدراك؛ ويمكن القول إننا في حضرة سياقين هما: سياق النصيحة المضمرة وسياق تعليمي.
2.
سياق الحكاية:
1.2. سياق النصيحة المضمرة:
يشرح ابن مماتي (544هـ-606هـ) ظروف تأليف هذا الكتاب الموسوم ب"الفاشوش في حكم قراقوش" بقوله: "إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش، حزمة فاشوش قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، الشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدي لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته على أن يردّ كلمته، ويشتاط أشياط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان... صنّفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين!"([6]).
وجه ابن مماتي القبطي، الذي ينحدر من أعرق أسر الصعيد، مصنفه هذا إلى صلاح الدين الأيوبي قصد الاستدلال المضمر على ظلم قراقوش الأيوبي واستبداده، وابتعاده في أحكامه عن شرع الله؛ فالنصيحة لم تأت بطريقة مباشرة، وإنما تلحفت بالسرد والخبر والمثال لتبرهن على تجبر قراقوش وتعسفه، واستفراده بالرأي، وإبعاده للعلماء وذوي الرأي والمشورة؛ إن قراقوش الأمير الجندي رمز السيف لا يحتفل بالمثقف رمز القلم، ولا يلتفت إلى مشورته في بناء الدولة والأمة وسياسة أمور الرعية؛ إن القيمة الكبرى بالنسبة إليه هي القوة، فهو "لا يقتدي بعالم"([7])؛ في مرحلة عصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية، إذ يرى أن العامل الحاسم في الصراع هو العسكر.
ولعل هذا التوجه الذي غلب عليه إقصاء ذوي العلم من دائرة المشورة والنصيحة هو الذي ألّب عليه مثقفي عصره وأعيانهم، ومن بينهم ابن مماتي الذي كان أبوه المهذّب "كاتب ديوان الجيش بمصر في أواخر أيام الفاطميين وأوائل أيام بني أيوب "[8]؛ بل إنه خلفَ أباه في هذه الوظيفة، وأضاف إليها في أيام صلاح الدين الأيوبي، وأيام العزيز ديوان المال([9])؛ كما اشتهر ابن مماتي في عصره "بالأدب، وأصبح من أكابر الأدباء في مصر الأيوبية، وخاصة منذ اتصاله بالقاضي الفاضل زعيم النهضة الأدبية والعلمية، وزعيم فرسان هذه الحلبة؛ وكان القاضي الفاضل يُحِب الأسعد بن مماتي حبا، ويقربه ويطلق عليه اسما ظريفا هو "بلبل المجلس""([10]).
من الواضح أن حكايات قراقوش هي بنية سطحية لمضمر تعتمل في داخله دسائس الاقتراب من السلطة، وقد كان ابن مماتي ضحية هذه المنظومة المليئة بالمؤامرات والمكائد، إذ ما إن "أصبح فيه ابن شكر وزيرا في دولة الملك العادل بالديار المصرية، وكان العادل يكره كل أعوان أخيه السلطان صلاح الدين، ويكيد لهم، ويحاول أن يؤذيهم ما وسعه ذلك"([11])؛ وقد اكتوى ابن مماتي من هذه النار، إذ دبّر له ابن شكر مكيدة فمكنه من جميع دواوينه واتهمه بالعبث بالأموال وضيق عليه، وأرغمه على الفرار إلى حلب ذليلا حيث مات فيها ودفن.
تمكننا هذه المعلومات من فهم مضمرات هذا الخطاب، الذي رغم انتسابه إلى سياق تاريخي محدد إلا أنه يساعدنا على إدراك هذا الصراع الأبدي بين الأنا والآخر، وبخاصة في فترة الانحطاط وسقوط الأمة الإسلامية تحت حكم الغريب؛ ولم يبق للأنا إلا سلاح السخرية، وتسفيه صورة الأجانب وبناء صورة سلبية عنهم؛ فالمهم، بالنسبة للخطاب الساخر ليست الحقيقة، وإنما الصورة المشوهة التي تتشكل ضمن الخطاب، ويتداولها عامة الناس وخاصتهم؛ وبخاصة إذا علمنا أن منطق التوازن في محيط السلطة يقوم على إدماج الجديد وإبعاد حاشية السلطان الأسبق، وهنا، نقصد بالأساس أعوان السلطان صلاح الدين.
نستنتج إذن أن سياق ابن مماتي محكوم بالصراع من أجل الاقتراب من دائرة السلطة، والنكاية بدائرة جديدة تنمو في محيط بديل قادم أقوى لا يمكن محاربته بالصريح، ولكن يمكن هزمه بالسخرية والاستهزاء والخطاب؛ فالسخرية هي "أدب الضحك القاتل، والهزء المبني على شيء من الغموض، ودواعي الغموض في شتى أنواع السخرية كثيرة ومتعددة: منها حرص الأديب على حياته حينا، ومنها رغبته في إخفاء غضبه حينا آخر، ومنها علوُّ كعبه في العلم والثقافة، ولا غرابة في هذا فالعلم يشحذ الذكاء، والذكاء يسعف صاحبه عادة في هذه المواطن؛ فترى الأديب المثقف ينال من خصمه في هذه الحالة بطريقة ملتوية لا بطريقة ساذجة، وهذا هو "التهكم""([12]).
2.2.
تقطيع الحكاية:
يمكن تقطيع بنية هذه الحكاية البسيطة إلى مجموعة من الأفعال هي:
- فعل الشكوى
- فعل الاستفهام الإنكاري والتعجب
- سجن المرأة الحجازية
- محاولة المرأة الحجازية عتق جاريتها للخروج من السجن.
- رفض قراقوش لاقتراح المرأة الحجازية لأنها أضحت جارية والجارية أضحت هي السيدة.
- طلب المرأة الحجازية للتركية بأن تذهب إلى قراقوش وتبلغه رغبتها في عتق سيدتها الحجازية.
- ذهاب التركية إلى قراقوش وإبلاغه برغبتها عتق المرأة الحجازية.
- قبول قراقوش لطلبها.
- خروج الحجازية من السجن.
تعدّ هذه البنية شكلا وسيطا من بنية مجردة عميقة تتضمن قيما متضادة لا يمكن أن تدرك إلا من خلال أفعال منجزة في سياق زماني ومكاني وثقافي؛ ومعنى هذا أن هذه الحكاية –رغم بنيتها البسيطة فهي منجم لانبثاق سيرورة دلالية تتيح الانتقال من بنية دلالية أو كلية ذات طابع منطقي لا زمني إلى بنية سطحية تتلّون بالأبعاد الثقافية، وتُفهم وتُؤول في ضوء السياق التاريخي للإنتاج والتلقي .ولهذا فالقيم التي تتضمنها هذه الحكاية تتمظهر من خلال شخصيات وأفعال تحوِّل المعنى من حيز الإمكان إلى حيز الفعل وتجرده من طابعه الإطلاقي التعميمي، وتضفي عليه خصوصية مشروطة برؤية ومنظور إيديولوجيين، ومن ثم فإن اكتشاف المضمرات التي تتوارى خلف هذا التجلي لشخصية قراقوش وأفعاله وتصرفاته يفترض أو يقتضي النظر إلى كل ذلك بوصفه إبرازا ملموسا لقيم لا زمنية في سياق إنتاج وتأويل محكوم بالحتمية التاريخية، ولهذا فالعلاقة بين السيد والعبد في حكايات قراقوش الأولى تتعرض للاختلال، إذ من المسلم به في هذا النوع من العلاقة هو الخضوع والامتثال، فالعبد منفعل والسيد فاعل، والعلاقة بينهما يطبعها الاستعلاء من جهة السيد والإلزام بتنفيذ الأوامر من جهة العبد.
وإذا اختل شرط من هذه الشروط يتقوض النظام ويفسد الضابط الاجتماعي المقوّم للعلاقات بين الأفراد؛ وبما أن الجارية قد أساءت الأدب فإن النظام التراتبي الضامن للعلاقة بين السيدة وجاريتها قد بدأ بالتشقق والانهيار، وهو ما حتّم التوجه إلى قراقوش بوصفه رمزا للسلطة قصد إعادة التوازن لعلاقة السيدة بالجارية بوساطة التأديب وترسيخ الخضوع والعبودية الحافظة لسيرورة النظام وديمومته؛ إلا أن قراقوش -بطريقة مفارقة للمألوف ومنطق العقل السائد- يحدث خلخلة في نسق القيم، ويسجن السيدة الحجازية السوداء بل يجعلها جارية للتركية البيضاء؛ وبهذا يتحول السيد إلى عبد، والعبد إلى سيد انطلاقا من ثنائية اللون الضدية الأبيض ≠ الأسود التي تتولد عنها ثنائية ضدية أخرى هي السيد ≠ العيد.
وهذا التلازم بين اللون والمرتبة الاجتماعية يستضمر انتصارا للحسي على العقل، وتغليبا للضرورة على الحرية؛ إذ اللون عرض ومفارق لإنسانية الإنسان المرتبطة بالعمل والكسب والحرية؛ إذ كيف يستقيم الحكم على إنسان بوضعية اجتماعية متدنية بمجرد أن لونه أسود؛ إن هذا القلب في منظومة القيم لا يمكن فهمه إلا إذا توسلنا بالمعرفة الموسوعية المرتبطة بزمن إنتاج هذه الحكاية، وقمنا بتفكيك دلالة اسم قراقوش وبينا علاقته بإحدى مدلولات الفاشوش؛ لأن ذلك هو الذي سيجعلنا ندرك المسكوت عنه في هذه الحكاية، ونفهم أن ما يبدو جنونا في الخطاب لا يعدو أن يكون حيلة أسلوبية قوامها التعريض الذي يشتبك مع الضمني الذي يقصد به "الإحالة الخفية، والأثر الظاهر للمنطوق وهو المسكوت عنه لقصد من المتكلم، ولكن لأسباب أخفاها ولم يظهر في مستوى الإنجاز النطقي؛ وهو –أي الضمني- ما لا يقال ولكن يدل اللفظ عليه، يحيل التلفظ إليه"([13])؛ فالضمني إذن هو "أشياء تقال بعبارات مقنعة وآراء وأفكار مبطنة ومضمرة تحت الأسطر وبينها تفرض على المخاطب التفكير في شيء له صلة بما قيل"([14]).
وباختصار إن المفهوم "هو ما يمكننا من قول شيء دون أن نقوله"([15])؛ فالحكاية هي تجسيد لبنية مجردة تقوم بتخصيص القيم من خلال سلوكات وأفعال وصفات تنجزها شخصيات مرجعية منغرسة في سياق زماني ومكاني محدد؛ إن تحويل ما هو مجرد إلى ما هو ملموس هو ما يمكّن من استشفاف مضمرات الحكاية، فالتجسيد "هو المدخل الرئيس نحو خلق سلسلة من الأنساق التي تقوم بتنظيم مجموعة القيم في أشكال محددة في الزمان والمكان؛ وهذا التنظيم يتيح لهذه القيم بالدخول مع بعضها البعض في شبكة من علاقات التشابه أو التقابل أو الضد؛ ولعل هذه العلاقات المتنوعة هي ما يحكم نمط إدراكنا للعالم"([16])؛ فإننا على حد تعبير كريماص "لا ندرك إلا الاختلافات، وبفضل هذا الإدراك يتخذ هذا العالم أمامنا ولنا شكلا [...] ذلك أن الدلالة تفترض وجود العلاقة، إن ظهور العلاقة بين الحدود هو الشرط الضروري للدلالة"([17]).
ويمكن تمثيل هذه البنية العميقة للحكاية الأولى لقراقوش في المربع المنطقي الآتي:
عبد سيد
لاعبد لا سيد
ومن ثم نحصل على العلاقات التالية:
علاقة ضديـة سيد ------< (م) عبد
علاقة تقابلية سيد ------< (م) لا سيد
علاقة تقابلية عبد ------< (م) لا عبد
علاقة اقتضائية لا سيد
------< (م) عبد
علاقة اقتضائية لا عبد
------< (م) سيد
إن حكاية قراقوش الأولى هي شكل أو صيغة من صيغ تحقق هذه البنية وهذا النسق القيمي في أشكال متعددة من النصوص والخطابات التي تكتسب سمات خاصة بفعل تضافر عناصر متعددة أسطورية ودينية وإيديولوجية وسياسية.
فما هو هذا الشيء المضمر الذي تقوله الحكاية دون أن تصرح به؟
إن هذا الشيء المضمر الذي تنطق به الحكاية من جهة الإيحاء المنفلت من كل تأويل قسري وملزم لمنشئ النص لا يدرك إلا باستحضار السياق التاريخي المتمثل في سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية وصعود الممالك إلى المراتب العليا في هرم السلطة؛ إن هذا الحدث قد يفهم منه رفض المصريين للآخر، لأنه يهدد هويتهم وكيانهم فضلا عن إحلال الجيش محل المثقف والكاتب؛ ولذلك وجب النيل من هذا الآخر بشتى الوسائل ولعل أخطرها هي السخرية لما لها من قدرة على تصوير الحقيقة بشكل معاكس أو بتعبير أدق تصوير ما تعتقده حقيقة من خلال الاختفاء تحت الرموز والأقنعة والمجازات والإضمارات؛ فالساخر "هو الشخص الذي يمارس نمطا من التفكير الناقد المستهزئ بالحالة التي يعيشها، من أجل الكشف عن تناقضاتها ومفارقتها وإبراز عيوبها، سواء كان بأسلوب عفوي أو قصدي أم منهجي أم فلسفي أم أدبي، فالممارسة الساخرة هي تذمر واضح من حالة سيئة أو مقيمة كذلك"([18]).
إلا أن هذا السرد الاحتجاجي المتلفع بدثار الحكي المفارق يرفض اللغة اليقينية ذات المعنى الواحد، فالمعنى في هذا النوع من الخطاب يتمنع عن التقيد باستنتاج قار إذ يتحول باختلاف الأسيقة، وقدرة المتلقي على توظيف الفهم لصالحه؛ وهذه خاصية من خاصيات المضمر لأنه يستمد قوته وقدرته على التلاعب بالآخرين من صفة الخفاء والتكتم المميزة له؛ ومادام المضمر غير مصرح به، فإنه يمتلك القدرة على التأثير في المعنى، وترك وقع لدى مستقبل الخطاب؛ فمحتويات المضمرات لا تتميز بالثبات، إنها تابعة إلى تنوع المقامات والقراءات، إذ تتيح التملص مما يسند إليها من دلالات واستنتاجات وتمكن منتج الخطاب من التبرؤ من التأويلات والتمسك بالمعاني الحرفية للملفوظات.
فحكاية قراقوش هذه قد تكون تعبيرا عن نقد واقع سياسي طارئ أصبح فيه الممالك في قمة هرم السلطة، وحَلَّ الجندُ محلَّ المثقف في دائرة الحكم والتدبير، وهو ما أدى إلى إنتاج خطاب مضمر ساخر مراوغ يفجر التناقض ويبرز المفارقة ويعني أكثر مما تتلفظ به الكلمات، ويستشف من ثناياه تراجيديا المثقف الذي ينتقد ما آلت إليه الأمور من أوضاع مقلوبة تقوضت فيها البنيات الاجتماعية القائمة فأصبح العبد سيدا والسيد عبدا.
في هذا تلميح لفقدان المصريين لاستقلالهم وتبعيتهم لبني العباس وممالكهم، وفي الآن نفسه يعد هذا النوع من الخطاب إشارة إلى تهميش المثقف والإعلاء من قيمة الجيش ممثلا في شخص فتى رومي مخصي هو بهاء الدين قراقوش؛ وهذه العلامات الكنائية يمكن أن تكون مشيرات قادحة لتأويلات عدة يتيحها الخطاب المضمر في الحكاية، ويجعلها قابلة للتحيين من طرف قراء متعاقبين وذلك كلما سنح سياق التلقي بتفجير التناقض والصراع بين الأنا والآخر المختلف جنسا أو لونا أو ثقافة أو دينا وعقيدة؛ ولعل هذا ما جعل عبارة حكم قراقوش مثالا دالا على الظلم والتناقض والجنون والحمق؛ إنه الصراع الأبدي بين الهويات القاتلة الذي لا يمكن تجاوزه إلا بخلق فضاءات للتعايش المشترك والتسامح والتخلي عن وهم الهوية الصافية النقية، والإيمان بأن الهوية في جوهرها متعددة وأن من سماتها البارزة التنوع والاختلاف.
خاتمة:
إجمالا يمكن القول بأن حكاية قراقوش
الساخرة تسعى إلى بناء إيتوس خطابي سلبي للخصم، متوسلة
بسلطة السرد الذي يمزج بين الجد والهزل، رغبة في الانتصار عليه رمزيا، وتشويه
صورته بين العوام، وجعل اسمه مثلا سائرا بين الناس في الجور والجنون، وبهذا تصبح
لبلاغة الخطاب سلطة على الواقع والحقيقة التاريخية، لأن ما يهمها ليس الحدث
الواقعي وإنما الحقيقة السردية التي تتشكل داخل الخطاب، وهي حقيقة تتحدى مبدأ
المطابقة الخاضع لمقياس الصدق والكذب، وتنفتح على آفاق التخييل وسيرورات التأويل.
وبهذا الاعتبار يتم استبدال الهوية
السردية بالهوية التاريخية فتنفلت الدلالات من الإحالة المرجعية وتمنح للمتلقي
المفترض فرصة التحيين وتعيين المقصود المناسب للمقام والرهان.
المصادر
والمراجع
تداولية الضمني والحجاج بين تحليل الملفوظ وتحليل الخطاب، عزالدين الناجح، مركز النشر العلمي، ط 1، منوبة تونس، 2015 م.
سيميولوجية الشخصيات السردية
(رواية الشراع والعاصفة " لحنا مينة" نموذجا)، سعيد بنكراد، دار مجدلاوي عمان، الأردن، ط1، 2003م.
عتبات
(جيرار جنيت من النص إلى المناص)، عبد الحق بلعابد،
تقديم د. سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، 2008م.
الفاشوش في حكم قراقوش، ابن مماتي،
تحقيق عبد اللطيف بن حمزة، كتاب اليوم.
فلسفة
السخرية عند بيتر سلوتردايك، رائد عبيس،
منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، بيروت-لبنان، ط1، 2016م.
لسان
العرب،
ابن منظور، دار صادر.
المضمر، كاترين اوركيوني، ترجمة ريتا خاطر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،
بيروت، 2008م.
Sémantique structurale, Greimas (AJ) ,
Larousse, 1966.