صورة الطفل في الأدب العربي والتركي والألماني دراسة مقارنة

 

د. هشام مطاوع  - جامعة باليك آسر، تركيا

hishammotowa@gmail.com

معرف (أوركيد)  0000-0002-3719-8554

د. روحي إنان -جامعة باليك آسر، تركيا

ruhiinan@hotmail.com

معرف (أوركيد)  0000-0003-4377-0999

 

بحث أصيل

الاستلام: 6-4-2023

القبول: 25-4-2023

النشر: 30-4-2023

                                                                         

 

الملخص:

يقدم الباحثان في هذه المقالة مقارنة بين أعمال أدبية تنتمي إلى ثلاث ثقافات، هي الثقافة العربية والثقافة التركية والثقافة الألمانية في مجال القصة القصيرة من خلال عرض صورة الطفل في ثلاثة أعمال هي قصة (نظرة) للكاتب المصري (يوسف إدريس) وقصة الكاتب الألماني فولفجانج بورشرت (Wolfgang Borchert)؛ (الفئران تنام ليلا) (Nachts schlafen die Ratten doch)، وقصة
Eskici)) (معمر الأشياء القديمة) للكاتب التركي (Refik Halit karay) (رفيق هاليت كاراي).

وقد سارت المقالة على منهج المدرسة الأمريكية في الدراسات المقارنة، كما اعتمدت المنهج الوصفي؛ حيث رصدت صورة الطفل في الأعمال الثلاثة من خلال أربعة جوانب هي المفتتح القصصي والزمن السردي والحوار ونهاية السرد، ومن ثم احتوت المقالة على مقدمة وقسمين، قسم نظري وقسم تطبيقي، تناول القسم النظري صورة الطفل بوصفه مرسلا وكذلك صورة الطفل بوصفه مستقبلا، وتناول الجانب التطبيقي صورة الطفل بوصفه بنية خيالية في العمل السردي، وقد خلصت المقارنة إلى وجود تشابه كبير في الصورة الخيالية التي قدمتها النصوص السردية على الرغم من وجود فوارق واضحة في التقنيات السردية لدى الكتاب الثلاثة.

الكلمات المفتاحية:

الأدب المقارن، القصة القصيرة، صورة الطفل، الحوار، السرد..

 

للاستشهاد/ tif İçin / For Citation: مطاوع، هشام؛ INAN، Ruhi (2023). صورة الطفل في الأدب العربي والتركي والألماني دراسة مقارنة. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع7، 147- 168https://www.daadjournal.com/ //.

 

The Image of the Child Between Arabic Literature, Turkish Literature and German Literature, Acomparative Study

Dr. Ruhi İNAN

Associate Professor, Balıkesir University, Turkey

E-mail: ruhiinan@hotmail.com

 Orcid ID: 0000-0003-4377-0999

 

Dr. Hesham Motava

Associate Professor, Balıkesir University, Turkey

E-mail: hishammotowa@gmail.com

 Orcid ID: 0000-0002-3719-8554

 

Published: 30.04.2023

Accepted: 25.04.2023

Received: 06.04.2023

Research Article

 

Abstract:

In this article, the researchers present a comparison between literary works belonging to three cultures: Arabic, Turkish, and German, in the short story field, by presenting the child portrait in three works: Nazra by the Egyptian writer Youssef Edris, Nachts schlafen die Ratten doch (The Rats Sleep at Night) by the German writer Wolfgang Borchert, and Eskici (The Junk Dealer) by the Turkish writer Refik Halit Karay.

The article follows the American school of comparative studies and adopts a descriptive approach. It observes the child portrait in the three works through four aspects: the story's opening, the narrative time, the dialogue, and the end of the narrative. The article includes an introduction and two sections: a theoretical section and an applied section. The theoretical section discusses the the child portrait as a sender and as a receiver, while the applied section examines the child portrait as a fictional structure in the narrative work. The comparison concludes that there is a significant similarity in the fictional image presented by the narrative texts, despite the clear dissimilitudes in narrative techniques among the three writers.

Keywords:

Comparative Literature, Short Story, Child Portrait, Dialogue, Narration.

 

تقديم:

يمتلك الطفل حضورا كبيرا في عملية التواصل الأدبي، تلك العملية التي تعتمد على ثلاثة محاور، هي محور المرسل ومحور المستقبل ومحور الرسالة الأدبية، وقد كان حضور الطفل متباينا على المستويات الثلاثة.

فقد ندر ظهور الطفل في محور المرسل، أما في محور الاستقبال فقد كان له حضوره اللافت في عملية التواصل الأدبي، وعلى مستوى المحور الثالث فقد كان للطفل بوصفه بنية خيالية تشغل مساحة ما في الرسالة الأدبية حضورا لا بأس به، ويحاول الباحثان في هذه المقالة رصد هذا الحضور الثلاثي الأبعاد في ثلاث ثقافات مختلفة، هي الثقافة العربية والثقافة التركية والثقافة الألمانية.

وقد شهدت الثقافات الثلاثة تشابها كبيرا؛ حيث شغل الطفل مكانة بارزة في عملية التواصل الأدبي في هذه الثقافات، وإن اختلف التناول من ثقافة لأخرى، خاصة على المستوى الثالث، فالصورة الخيالية للطفل كانت انعكاسا واضحا للفروق الأيديولوجية الكائنة بين الثقافات الثلاثة، وخُتمت المقالة بمقارنة أدبية بين ثلاث قصص قصيرة هي قصة (نظرة) للكاتب المصري (يوسف إدريس) وقصة (الفئران تنام ليلا) للكاتب (Wolfgang Borchert) (فولفجانج بورشرت) وقصة (Eskici) للكاتب التركي (Refik Halit karay) (رفيق هاليت كاراي).

وقد ارتكزت المقالة على منهج المدرسة الأمريكية في الدراسات المقارنة، ذلك المنهج الذي لا يعول كثيرا على شروط المدرسة الفرنسية القائمة على مبدأ التأثير والتأثر، ويسمح بإجراء مقارنات بين كُتاب لا توجد بينهم علاقات تأثير وتأثر.

واحتوت المقالة على مقدمة وقسمين، قسم نظري وقسم تطبيقي، تناول القسم النظري صورة الطفل بوصفه مرسلا وكذلك صورة الطفل بوصفه مستقبلا وتناول الجانب التطبيقي صورة الطفل بوصفه بنية خيالية في العمل السردي.

وقد التفت غير واحد من الباحثين الأكاديميين إلى الموضوعات الأدبية الخاصة بالطفل؛ حيث مثلت صورة الطفل في الأدب موضوعا للعديد من دراسات الماجستير والدكتوراه في الجانب العربي والجانب التركي والجانب الألماني، نذكر منها الدراسات التالية:

 دراسة الباحثة ربى شحاده صابر سمارة في رسالتها المقدمة لنيل درجة الماجستير والتي جاءت بعنوان (صورة الطفل في الشعر الجاهلي) تلك الرسالة المقدمة لجامعة النجاح الوطنية بفلسطين، عام 1913.

 دراسة أكاديمية أخرى تناولت فيها الباحثة حركات نسرين بعنوان (صورة الطفولة في رواية إصرار) للكاتب بوشعيب الساوري. وقد قدمت هذه الدراسة لجامعة محمد خيضر في الجزائر عام 1915.

 دراسة أسماء ساسي المقدمة لنيل درجة الماجستير والتي جاءت تحت عنوان (صورة الطفلل في مختارات من أدب الجاحظ) المقدمة لجامعة قاصدي مرباح ورقلة في الجمهورية الجزائرية عام 2019.

وعلى الجانب التركي نجد العديد من الدراسات التي دارت حول صورة الطفل منها المقالة التي أعدها إحسان دالال وعدنان أرسلان، تلك المقالة التي تناولت صورة الطفل في الشعر العربي القديم، وقد نشرت في مجلة (edbali islamiyat dergisi) في عدد مايو عام 2020.

ودراسة (Hulusi GEÇGEL) (خلوصي جيتشجل) و(Ersin SARIÇAN) (أرسين ساريتشان) عام 2011 في مجلة معهد العلوم الاجتماعية بجامعة أوشاق (الطفل والتعليم في حكايات عمر سيف الدين) (Ömer Seyfettin’in Hikâyelerinde Çocuk ve Eğitim Teması)

وعلى الجانب الغربي نجد أن الدراسات الأدبية الألمانية قد أولت هذا الموضوع اهتماما خاصا من خلال الكثير من الدراسات منها الدراسة المعنونة ب:

(Kindheitsbilder in der Gegenwartsliteratur) (صور الطفولة في الأدب المعاصر) بقلم (İrmgard Nickel- Bacon) (ايريمجارد نيكل باكون)، وكذلك دراسة (Quentin Vaguet) وهي دراسة مقدمة لنيل درجة الماجستير في جامعة (Catholique deouvain) عام 2019 م "وحملت الرسالة العنوان التالي :

)Die Darstellung der Kindheit in der ausgawählten Werken der deutschsprachigen Gegenwartsliteratur.(

(صورة الطفولة في بعض الأعمال المختارة من الأدب الألماني المعاصر)

وإذا انتقلنا للدراسات المقارنة سوف تقترب حالة الندرة هذه إلى ما يشبه حالة العدم، فالدراسات التي قارنت بين صورة الطفل بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية تكاد تكون قليلة للغاية، ومن هذه الدراسات دراسة منى عمران والتي جاءت بعنوان (دراسة مقارنة لصورة الطفل الإعلامية في عينة من قصص الأطفال المصرية والألمانية) والدراسة تدور حول الصورة الإعلامية للطفل المصري ونظيره في ألمانيا في القصص المقدمه لهما، وقد اختارت الباحثة نموذجا من الأدب العربي ونموذجا من الأدب الألماني، حيث قارنت الباحثة بين قصة (ملك الأشياء) لطارق عبد الباري وقصة (مومو) لميخائيل إنده.

 1. القسم النظري:

1.1.     الطفل بوصفه مرسلا:

تمثل الطفولة مرحلة أساسية في حياة الإنسان، وقد تكون أهم مراحل حياة الإنسان تأثيرا فيما يليها من مراحل، وهذا الأمر يظهر بصورة جلية في الاهتمام الكبير الذي توليه الدول بهذه المرحلة من الناحية التربوية والتعليمية؛ حيث يتم تقسيم مراحل التعليم في معظم دول العالم إلى خمس مراحل تعليمية، أربع مراحل منها تختص بالطفل؛ فالتعليم الخاص بالطفل ينقسم على مرحلة ما قبل المدرسة وما بعدها، وما بعد المدرسة ينقسم على ثلاث مراحل هي المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، وبعد هذه المراحل تبدأ مرحلة التعليم الجامعي، تلك المرحلة التي تبدأ غالبا في سن الثامنة عشر، وهو الحد الذي أقرته الأمم المتحدة لانتهاء مرحلة الطفولة، وحسب تعريف الأمم المتحدة فإن الطفل هو كل من لم يبلغ الثامنة عشر من العمر. (يونيسيف، 1989).

ولأن مرحلة الطفولة هي مرحلة تلق، يتلقى فيها الطفل المعارف والعلوم والأخلاق لا نتوقع من الطفل أن يلعب دورا عكسيا بوصفه منتجا من الناحية الأدبية؛ ولهذا سوف يظل حضور الطفل في الأدب بوصفه مرسلا حضور الاستدعاء، فمؤلف العمل الأدبي في الغالب ليس طفلا؛ وعلى هذا تظل صورة الطفل في الأدب صورة رسمها مؤلفون لا ينتمون إلى عالم الطفولة، وعلى هذا يمكننا القول أن صورة الطفل في الأدب تمثل لنا صورة خيالية قام برسمها من ينتمون إلى مراحل ما بعد الطفولة.

وقد تكون الببلوجرافيا أكثر الأجناس الأدبية نجاحا في تصوير مرحلة الطفولة؛ وذلك لأن المؤلف يعرض لنا صورا عاشها وعاصرها معتمدا على ذاكرة الطفل، التي يصفها الدكتور طه حسين (1889-1973) بقوله "ولكن ذاكرة الأطفال غريبة، أو قل: إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يُمحى منها بعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد." (حسين، 2013، صفحة 18) وقد ارتكز عميد الأدب العربي طه حسين في كتابة (الأيام) على هذه الذاكرة ليعرض لنا صورة دقيقة لمرحلة الطفولة التي عاشها في بدايات القرن الماضي، الأمر نفسه فعله الكاتب الألماني المشهور (Johann Wolfgang von Goethe) (يوهان فولفجانج فون جوته) (1749-1832) في كتابة المكون من أربعة أجزاء والمعنون بـ Aus meinem Leben: Dichtung und Wahrheit)) (من حياتي: الشعر والحقيقة) وكذلك الكاتب التركي (Orhan Pamuk) (1952) (أورهان باموك) في كتابه(الذكريات والمدينة) (Hatıralar ve Şehir) الصادر في عام 2013 ، والذي يحكي فيه ذكرياته وطفولته في مدينة اسطنبول.

ومن أهم الأعمال التي وظف فيها الكاتب ذكريات طفولته ليعرض لنا توجهاته الفكرية وصراعاته النفسية الكاتب الألماني اللسان التشيكي الجنسية (Franz Kafka) (فرانس كافكا) (1883-1924) ففي عام 1919 نشر كتابه المشهور (Brief an den Vater) (رسالة إلى الأب) "ذلك الكتاب الذي عالج فيه علاقة الطفل والأب بصورة غير مسبوقة في التاريخ الأدبي ." (Vaguet, 2022, p. 1).

فالطفل بوصفه مرسلا في الرسالة الأدبية لم يتحقق في عملية التواصل الأدبي إلا على نطاق ضيق للغاية، وذلك إذا اعتبرنا أن كاتب الببليوجرافيا يستدعي الطفل ويكتب من خلاله ذكرياته التي تصف فترة طفولة الكتاب، فالسواد الأعظم من الأدباء لا ينشرون أعمالهم قبل سن الثامنة عشر، والملاحظ على هذه الكتابات أن استدعاء ذكريات الطفولة وسردها له هدف ضمني يخدم التوجهات الأيدولوجية للكاتب الكبير، الذي يختفي خلف هذه الذكريات وينقلها للقارئ من منظور الكاتب الكبير وإن كانت كلها تدور حول فترة طفولته.

2.1.   الطفل بوصفه مستقبلا:

قد يكون الطفل هو الهدف الأساسي من عملية الكتابة ويطلق على هذه العملية أدب الأطفال، ولأدب الأطفال تحققاته المختلفة في مختلف الآداب بأشكالها الشفوية والكتابية، وتُعد الأغاني التي جاءت على لسان الأم واحدة من أقدم الأشكال الأدبية الموجه للطفل، ومن أشهر الأغاني الخاصة بالطفل أغنية المهد و" الغناء للأطفال عند الشعوب هو الترنم بالكلمات الموزونة التي تصحب عادة مداعبة الطفل و ملاعبته وتحريكه في المهد لينام وهو جزء من الغناء الفلكوري العام المجهول النشأة، الذي جرى على ألسنة العامة من الناس في الأزمنة القديمة." (أبو سعد، 1982، صفحة 19).

ومن الملاحظ أن الهدف الأساسي لمثل هذه الأغاني الخاصة بترقيص الأطفال أو تنويمهم هو راحة الكبار المنهكين من جراء الاعتناء بالأطفال، فمثل هذه الأغاني والأشعار لها أهدافها الضمنية، تلك الأهداف التي تصب في مصلحة الكبار؛ فمثلما تحول الطفل في المحور الأول إلى وسيلة تخدم هدف الكبار يمكننا القول إن أغنية الطفل أيضا وسيلة لخدمة أهداف الكبار وليست وسيلة لإسعاد الطفل.

ومن الدراسات القليلة التي تناولت الأغاني الموجهة للطفل دراسة أحمد أبو سعد القيمة (أغاني ترقيص الأطفال عند العرب منذ الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي) ومن خلال النصوص التي وردت في الدراسة يتضح أن الطفل في هذه الأغاني يمثل موضوع الأغنية ومتلقيها في الوقت نفسه، فأغنية الترقيص المكتوبة للطفل تتخذ من الطفل موضوعا مركزيا لها مثل الأغنية التالية:

يا حبذا ريح الولد

ريح الخزامى في البلد

أهكذا كل ولد

أم لم يلد مثلي أحد

فالأغنية تحمل مسحة من التفاؤل وتتباهي بالطفل الذي تشبهه الكاتبة الشعبية بأنه كالنبات الذي يفوح منه أطيب الروائح، وهذه الصورة نجدها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن عمر وأخرجه البخاري في باب (فضائل أصحاب النبي. مناقب الحسن والحسين) " هما ريْحَانَتِي من الدنيا" (البخاري، 2012) يقصدُ الحسن والحسين.

ومما لا شك فيه أن الأغاني السابقة والمسماة بأغاني ترقيص الأطفال تتخذ من الطفل قناعا لتبث من خلفه مدح الأم للنبتة التي نبتت في أحشائها، وهذا المديح يحمل بين طياته فخرا بالأم التي أنجبت هذا الولد وبالقبيلة التي تنتمي الأم لها.

وقد يكون هدف أغنية الطفل هو المساعدة على نوم الطفل في المساء؛ حيث تلجأ الأم التي أنهكها العمل طوال اليوم إلى أغنية ذات إيقاع هادئ لكي ينام طفلها لتنال هي الأخرى قسطا من الراحة ومن هذه الأغاني الأغنية التركية الشهيرة:

Uyusun da büyüsün nenni

Tıpış tıpış büyüsün nenni

 وهذه الأغاني الشعبية تمثل اللبنة الأولى في أدب الأطفال الذي شهد في العصر الحديث طفرة كبيرة وانتشارا واسعا لفوائده الكبيرة من الناحية التربوية" وأدب الأطفال باعتباره وسيطا تربويا يتيح الفرص أمام الأطفال لمعرفة الإجابات عن أسئلتهم واستفساراتهم، ومحاولات الاستكشاف واستخدام الخيال وتقبل الخبرات الجديدة التي يرفدها أدب الأطفال." (شحاته، 1994، صفحة 12)

وقد "ظهرت بواكير الأدب الموجه للأطفال في العصر الحديث في فرنسا في أواخر القرن السابع عشر" (الحديدي، 1988، صفحة 46). وقد تأثرت فرنسا في هذه الفترة بالتراث الشرقي المنقول عن طريق الأندلس بواسطة الترجمات العربية وبخاصة كتاب ألف ليلة وليلة، الذي وصل لفرنسا عن طريق تركيا، ومن أوائل الكتب التي ظهرت في هذه الفترة كتاب (حكايات أمي الأوزة) (Tales of Mother Goose) للشاعر الفرنسي (Charles Perrault) (تشارلز بيرو) وبعد ذلك بدأت الصحف الموجهة للأطفال في الظهور.

 " فبين عامي 1747 – 1791 ظهرت في فرنسا أول صحيفة للأطفال أنشأها أديب لم يفصح عن اسمه، واتخذ لنفسه اسما مستعارا هو صديق الأطفال وأطلق الاسم نفسه على الصحيفة." (الحديدي، 1988، صفحة 49)

أما على الجانب العربي فقد مثل رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1973) الرائد الاول لأدب الأطفال عندما كتب بعض القصائد للأطفال متأثرا بالأدب الفرنسي بعد رحلته الى فرنسا وأنشأ رفاعة رافع الطهطاوي أول مجلة مصرية للأطفال هي(روضة المدارس المصرية) عام 1870، وبعد ذلك بثلاثة وعشرين عاما صدرت مجلة (التلميذ) على يد مصطفى كامل؛ وذلك لبث الروح الوطنية في نفوس تلاميذ المدارس المصرية.

 وقد قام محمد عثمان جلال بترجمة كتاب لافونتين ترجمة تحرر فيها من النص الأصلي للافونتين وأضاف إليه الكثير من التعديلات والإضافات حتى يناسب النص المترجم الطفل العربي وقد نشر الكتاب بعنوان (العيون اليواقظ من الأمثال والمواعظ).

ومع نهاية القرن التاسع عشر نشر أحمد شوقي (1868-1932) عددا من القصائد الموجهة للأطفال في الشوقيات عام 1898، وقد قررت وزارة التربية والتعليم بعض هذه القصائد على طلاب المدارس.

والملاحظ أن القصائد كانت تُكتب في المقام الأول للطفل الذي يدرس في المدرسة، ومن أشهر من كتب في هذا المجال الشاعر المصري محمد الهواري (1885-1939)، "ونصوص الهواري أكثر النصوص التي استفادت منها كتب القراءة والاستظهار العربية فلا يخلو كتاب من نص أو أكثر له وفي جميع البلاد العربية منذ العشرينيات حتى الآن وإن كانت نصوصه تثبت من غير ذكر لاسم صاحبها كما درجت عادة الكتب المدرسية مع الأسف إلى زمن قريب." (الحديدي، 1988، صفحة 59).

لقد شغل الطفل مكانة بارزة في التواصل الأدبي على مستوى الاستقبال، بوصفه هدفا للعملية الأدبية وذلك في العصر القديم من خلال الأدب الشعبي الشفهي وكذلك في العصر الحديث من خلال أدب الأطفال.

2.   القسم التطبيقي:

1.2.   الطفل بوصفة بنية خيالية في العملية الإبداعية:

قد يكون الطفل حاضرا في العملية الأدبية بوصفه أحد شخوص عالم الأدب الخيالي، ذلك العالم الذي يرسمه الأديب، فقد يكون الطفل أحد شخوص العمل السردي أو يكون موضوعا للنص الشعري، ولا يُقصد هنا أن ينتمي الطفل إلى العالم السردي الخاص بالمؤلف بوصفه شخصية ثانوية، ولكن المقصود في هذه المقالة أن يكون الطفل هو الركيزة الأساسية التي يدور حولها النص السردي، وعلى الرغم من كثرة الأعمال التي شكل فيها الطفل حضورا لافتا نجد أن هذا الحضور لم يقابل بما يستحقه من الدراسات النقدية سواء من الناحية الكيفية أو الكمية.

وتقدم هذه المقالة محاولة لرصد صورة الطفل في ثلاثة من الأعمال القصصية، تلك الأعمال التي تنتمي إلى ثلاث ثقافات مختلفة هي الثقافة العربية والثقافة التركية والثقافة الألمانية من خلال الأعمال التالية:

قصة (نظرة) للكاتب المصري يوسف إدريس التي تضمنتها مجموعته القصصية (أرخص ليالي) الصادرة في عام 1954 وقصة"(Nachts schlafen die Ratten doch) (الفئران تنام ليلا) للكاتب الألماني فولفجانج بورشرت التي تضمنها كتابه (An diesem Dienstag) (في ذلك الاثنين) الصادر في عام 1947 والقصة التركية"(Eskeci) (مصلح الأحذية) للكاتب التركي (Refik Halit karay) (رفيق هاليت كاري) الواردة في كتاب (حكايات الغربة) (Gurbet Hikayeleri) المنشور عام 1938.

2.2.   التعريف بالمؤلفين:

لا شك أن التعريف بكاتب العمل الأدبي قد يكون له دور في عملية استقبال الرسالة الأدبية، والمقصود هنا أن قراءة العمل الأدبي تكتسب بعض الإضاءات المستمدة من مؤلف العمل الأدبي، وليس المقصود هنا أن يتم تأويل النص بصورة تعسفية حتى يتحول النص لوثيقة تاريخية تعكس لنا حياة مؤلفها.

والتعريف بمؤلفي الأعمال الثلاثة التي يتم تناولها في هذه المقالة يكتسب أهميته من كون المقالة تتناول ثلاث ثقافات مختلفة، هي الثقافة المصرية والتركية والألمانية؛ فقد يكون التعريف بحياة الكاتب التركي والكاتب الألماني إضافة إيجابية للقارئ العربي، الذي قد لا يكون ملما بصورة كافية بالثقافة التركية والثقافة الألمانية، والعكس صحيح بالنسبة للقارئ التركي والقارئ الألماني.

1.2.2. يوسف إدريس:

واحد من أهم كتاب القصة القصيرة المصرية في القرن العشرين ولد في عام 1927 وتوفي في عام 1991م، تخرج في كلية الطب وعمل طبيبا لفترة قصيرة من الزمن ثم ترك العمل في المجال الطبي وتفرغ للكتابة الصحفية والتأليف الأدبي، وقد عاش الكاتب طفولة صعبة عانى فيها من بعض الصعوبات المادية، مثله مثل كافة أبناء الطبقة المتوسطة الحال في مصر، حيث كان أبوه يعمل موظفا في وزارة الزراعة.

وقصة (نظرة) واحدة من القصص التي شملتها مجموعته القصصية الأولى(أرخص ليالي) وقد لقيت القصة استقبالا معتبرا من النقاد والقراء وقد قُررت القصة على طلاب المدارس الثانوية في مصر وبعض الدول العربية.

2.2.2. فولفجانج بورشرت:

ولد الأديب الألماني فولفجانج بورشرت في عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين في هامبورج ومات في عام ألف وتسعمائة وسبع وأربعين في بازل (باومان وأوبرله، 2002، صفحة 371) ولم يكن لأبيه من الأطفال سواه، وقد امتهن أبوه مهنة التدريس، وقد ظهرت موهبة بورشرت الأدبية مبكرا في سن السادسة عشر ومن الأمور اللافتة أن بورشرت درس فن التمثيل وعمل ممثلا في المسرح لفترة قصيرة- مر يوسف إدريس بتجربة مماثلة - قبل أن يلتحق بالجيش الألماني ليعاني بعدها من المرض.

وقد تم اتهامه بنشر أفكار معادية للنازية غير أن المحكمة أقرت ببراءته ولكنها أدانته في واقعة أخرى وحكم عليه بالسجن – تجربة السجن تجربة خاضها يوسف إدريس أيضا - وبعد انتهاء ستة أسابيع من الحبس عاد ليقاتل على الجبهة الروسية، وهناك وقع في الأسر ثم هرب وعاد إلى ألمانيا ليكتب بعدها مجموعته القصصية الوحيدة في فترة قصيرة إلى جانب مسرحيته المشهورة (في الخارج أمام الباب)، وسرعان ما توفي في إحدى مستشفيات سويسرا عام 1947.

3.2.2.    رفيق هاليت كاراي:

ولد في الخامس عشر من مارس عام 1888م في اسطنبول، درس الحقوق، ثم عمل موظفا في وزارة المالية، وفي عام 1909م عمل مترجما ومراسلا صحفيا في صحيفة (Hakikat) (الحقيقة) كما نشر في مجلة (مزاح) تحت اسم مستعار حيث ظهرت كتاباته مزيلة بتوقيع (كيربي)، وقد عمل معلما للغة التركية في مدرسة روبرت الخاصة وعمل أيضا موظفا في هيئة البريد التركية.

من أهم أعماله (İstanbul'un Bir Yüzü) (وجه من اسطنبول)1920، (Ay Peşinde) (مطاردة القمر) 1922، (Yezidin Kızı)(ابنة يزيد) 1939، (Çete) (العصابة) 1941، (Sürgün) (المنفى) 1941، (Anahtar) (المفتاح) 1949، (Bu Bizim Hayatımız) (هذه حياتنا) 1950، (İki Bin Yılın Sevgilisi) (عاشق الألفي عام) 1954، (Ayın On Dördü) "البدر"1980.

3.2.       ملخص القصص التي تناولتها المقالة:

يظن الباحثان أنه من المفيد عرض ملخص للقصص التي تناولتها المقالة، حيث أن القصص تنتمي إلى ثقافات مختلفة، وقد لا يكون القارئ ملما بالأعمال الأدبية التركية والألمانية.

1.3.2.  قصة نظرة:

يقدم لنا الراوي في هذه القصة موقفا حياتيا قصيرا للغاية مدته الزمنية دقائق معدودة لا تتجاوز الخمس دقائق، حيث يقابل الراوي طفلة صغيرة عمرها سبع سنوات، الطفلة في طريقها لبيت العائلة التي تعمل عندها خادمة تحمل فوق رأسها صنية ثقيلة، والطفلة تُجاهد لكي يظل الحمل مستقرا فوق رأسها دون جدوى فتلجأ للراوي الذي يساعدها، وعند عبورها الشارع توقفت، فظن الراوي أن الحمل قد مال من جديد، فأسرع إلى الطفلة لكي يعدل لها الحمل مرة أخرى، ولكنه وجدها تلقي نظرة حزينة على عدد ممن هم في سنها وهم يلعبون الكرة.

2.3.2.     الفئران تنام ليلا:

تدور القصة القصيرة في فناء إحدى مقابر/ بيوت الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، حيث يلتقي رجل عجور بطفل صغير عمره تسع سنوات، ووجود الطفل في مكان مثل هذا يثير فضول العجوز الذي يسأله عن سبب وجوده في هذا الفناء، فيخبره الطفل بأنه هنا بسبب سر لا يستطيع البوح به، وبعد محاولات من العجوز ينجح العحوز في أن يبوح الطفل بسره إليه؛ فالطفل لا يبرح المقبرة لأنه يحرس جسد أخيه الصغير الذي لقي مصرعة بعد سقوط قنبلة على بيتهم، فهو يخاف على أخيه من الفئران لأن معلمه في المدرسة أخبره بأن الفئران تأكل أجساد الموتى، ويلجأ العجوز إلى الكذب لكي يستطيع أن يقنع الطفل بمغادرة المكان ويعود للبيت؛ حيث يخبره بأن الفئران تنام ليلا، فلا داعي لأن يظل الطفل هنا بالليل.

3.3.2.    ملخص قصة معمر الأشياء القديمة:

تبدأ الحكاية بحركة سفينة من ميناء اسطنبول متجهة إلى فلسطين، حاملة على متنها بطل الحكاية الذي يبلغ من العمر عشر سنوات، طفل يتيم الأب والأم ينتقل من اسطنبول للعيش مع عمته في فلسطين، ومع حركة السفينة تبدأ غربة الطفل وتنمو رويدا رويدا، ويدخل الطفل في حالة نفسية قاتمة وعلى الرغم من تغير مظهر الطفل الخارجي؛ حيث أصبح يلبس مثل أقاربه العرب ويأكل مثلهم إلا أن الطفل يكمن في داخله حزن كبير وحالة من التمرد على حاضره، ولا يستطيع الطفل أن يعبر عن اغترابه الشديد إلا من خلال صمته الدائم الذي لا يرجع إلى عدم معرفته باللغة العربية التي يتحدث بها أقاربه، ولكنه يرجع إلى محاولة الطفل التمرد على واقعه الجديد، وفي أحد الأيام يمر معمر الأحذية القديمة من أمام بيت عمته التي تطلب منه تعمير حذاء قديم، وأثناء عملية التعمير يتعجب حسن من مهارة المعمر، ويسأله بالتركية دون أن يشعر عما إذا كانت هذه المسامير لا تنزلق داخل جوفه وهنا يصمت المعمر لبرهة مفكرا، ثم يسأله بالتركية أيضا " Türk çocuğu musun be?" (أنت طفل تركي؟) فيجيبه حسن بأنه جاء من مدينة اسطنبول، فيرد عليه المعمر بأنه هو الآخر جاء من مدينة إزميت، ويتبادل الاثنان أطراف حديث مفعم بأحاسيس الشوق والحنين إلى اسطنبول، ثم تنتهي الحكاية بانتهاء عملية التعمير تلك العملية التي تلكأ فيها المعمر طويلا ليطيل فترة الحديث باللغة التركية على الأرض العربية.

 

3.    المقارنة بين الأعمال الثلاثة:

قبل البدء في المقارنة يجب علينا أن نحدد المنظور الذي سترتكز عليه المقارنة وسيقارن الباحثان بين القصص الثلاث من خلال أربعة محاور، هي محور المفتتح السردي، ومحور الزمن السردي، ومحور الحوار، ومحور نهاية السرد.

1.3.   المفتتح السردي:

لا شك أن بداية السرد في القصة القصيرة تمثل للناقد واحدة من أهم النقاط التي يرتكز عليها التحليل السردي، فهي المدخل الذي تلج من خلاله العناصر السردية من وصف وحوار.

1.1.3.    المفتتح السردي في قصة نظرة:

بدأ السرد في قصة " نظرة" بالمقطع السردي التالي:

 "كان غربيا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها. إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه. في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا، ففوق رأسها تستقر (صينية بطاطس بالفرن) وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة. وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط" (إدريس، 1954، صفحة 12).

فالقصة تبدأ مباشرة دون الدخول في أية تفصيلات تمهيدية عن طريق التركيز على الشخصيتين الرئيسيتين وهما شخصيتان تختلفان كل الاختلاف؛ فالراوي الكبير والطفلة الصغيرة يجمعهما موقف وصفه الراوي بأنه غريب؛ حيث أن الصغار يخافون من الدخول في حوار مع الكبار وخاصة الذين لا يعرفونهم، حتى لا يقع الصغار ضحية لسلطة الكبار وظلمهم، غير أن الطفلة بطلة هذه القصة هي التي تبدأ الحوار عن طريق طلبها في أن يعدل لها الراوي الحمل الذي تحمله، فالحمل هنا حمل كبير ناتج عن ظلم عالم الكبار للصغار، ومن ثم فلابد للمذنب أن يساعدها في تعديل الحمل على رأسها؛ لكي تستمر في حمل ذلك الحمل، حتى ولو كان اعتدال الحمل يمثل لنا خللا كبيرا في ميزان العدالة الاجتماعية، فاعتدال الظلم أفضل من ظلم غير معتدل.

ومن خلال ذلك المفتتح السردي يقدم لنا الراوي صفات هذه الطفلة فهي بسيطة بريئة ولكنها تحمل حملا معقدا، حمل يرتكز على رأس ضعيف صغير، وللطفلة أصابع ضعيفة ذات قبضة دقيقة ولكن هذه القبضة تستميت للمحافظة على الحمل مخافة أن يسقط قتنال العقاب من سيدتها.

2.1.3.    المفتتح السردي في قصة الفئران تنام ليلا:

بدأت القصة عن طريق وصف المكان الذي تدور فيه الأحداث وهو وصف غلبت علية اللغة المجازية فالشباك يتثاءب وصحراء الخراب راحت في سنة من النوم.

"Das hohle Fenster in der vereinsamten Mauer gähnte blaurot voll früher Abendsonne. Staubgewölke flimmerte zwischen den steilgereckten Schornsteinresten. Die Schuttwüste döste." (Borcert, 1989)

"شباك مجوف تثاءب فانبثقت منه زرقة حمراء من بقية شمس الغروب، ولمعان يخترق سحب الغبار بين أنقاض المداخن، وصحراء الخراب راحت في سنة من نوم." (بورشرت، 2014، صفحة 45).

وقد تم تحديد الزمان السردي أيضا في المفتتح السردي، فزمان الأحداث هو وقت غروب الشمس، تلك التي صاحبت الطفل الصغير في مهمته الشاقة، مشقة تركت أثارها في عيون الطفل الصغير الذي يغالب النوم ولا يستطيع أن يفتح عينيه.

"كانت عيناه مقفلتان، فجأة احلولك الليل، لاحظ أن هناك شخص ما قد قدم، توقف أمامه، في عتمة الصمت، وصمت العتمة." (بورشرت، 2014، صفحة 45)

هنا يستخدم الراوي المجازات اللغوية فللصمت عتمة وللعتمة صمت، ومع قدوم الآخر تنقطع ديمومة الصمت عن طريق حوار يدور بين الطفل والعجوز، غير أن العتمة تستمر، وللطفل مخاوف شديدة من الآخر؛ فهو يخشى من الوقوع في قبضة من لا يرغب في الوقوع في قبضتهم، دون أن يقدم لنا أية معلومات عنهم "ظن أنه قد وقع في أيديهم، لكنه عندما رفع رمشه مختلسا النظر رأى ساقين تتواريان بسروال رث. ساقان معوجتان بصورة تجعله يرى بوضوح من بينهما، جازف بنظرة أخرى إلى ما فوق السروال فأبصر رجلا عجوزا ممسكا بسكين وسلة في يده، التي تغبرت أصابعها بالتراب.

سأل العجوز : أو تنام هنا ؟" (بورشرت، 2014، صفحة 45).

ومع بداية الحوار بين الصغير والعجوز ينتهي المفتتح السردي، دون أن يقدم لنا الراوي أي وصف للطفل سواء وصف شكلي خارجي أو وصف نفسي داخلي، على العكس من قصة يوسف إدريس التي قدم الراوي لنا في مفتتحها وصفا خارجيا للطفلة، وهناك فارق آخر حيث خلى المفتتح السردي في قصة يوسف إدريس من اللغة المجازية فاعتمد على لغة خالية من المجازات.

3.1.3. المفتتح السردي في القصة التركية:

تبدأ القصة التركية بالدخول في أحداثها مباشرة مثل القصة المصرية دون وصف كما هو الأمر في القصة التركية فالسفينة تتحرك من ميناء اسطنبول تحمل على متنها طفلا صغيرا، هو بمثابة حمل أنهك الكبار؛ لهذا ألقوه مسرورين نحو مجهول ينتظره، دون أن يشعروا بأي تأنيب للضمير.

"Vapur rıhtımdan kalkıp Marmara’ya doğru uzaklaşmaya başlayınca yolcuyu geçirmeye gelenler, üzerlerinden ağır bir yük kalkmış gibi ferahladılar:

Çocukcağız Arabistan’da rahat eder. Dediler, hayırlı bir yaptıklarına herkesi inandırmış olanların uydurma neşesiyle, fakat gönülleri isli, evlerine döndüler."

Zaten babadan yetim kalan küçük Hasan, anası da ölünce uzak akrabaları ve konu komşunun yardımıyla halasının yanına, Filistin’in ücra bir kasabasına gönderiliyordu." (Karay, 2009)

يقدم لنا المفتتح السردي في القصة التركية وصفا عاما لبطل القصة فهو يتيم تركي تحول إلى حمل أثقل كاهل الكبار؛ ولهذا كان عليهم التخلص من هذا الحمل عن طريق إرساله إلى الأقرباء في فلسطين، أقرباء يمثلون عائلة الطفل، عائلة يجري في عروقها الدم نفسه ولكن ما بين روح الطفل وروح العائلة الجديدة جدران من الغربة. هنا تتشارك القصتان العربية والتركية في ولوجهما مباشرة إلى أحداث القصة دون تمهيد أو وصف للمكان أو الزمان أما القصة الألمانية فبدأت بوصف للزمان والمكان، وقد تشاركت القصص الثلاث في وجود حمل ما، حمل تحمله الصغيرة في القصة العربية فوق رأسها ويخفيه الطفل الألماني في صدرة ويمثله الطفل ذاته في القصة التركية، فالطفل- الحمل- يمثل صورة مكررة في الثقافات الثلاثة.

2.3.       الزمن السردي:

الزمن السردي تقنية سردية تسير وفق رؤية الراوي الذي يتحكم في سريانه، فالسارد يُخضع الزمن لقصديته هو فيتقدم به ويتأخر به كيفما يشاء، يزيد من سرعته في المواضع التي تقتضي ذلك ويبطئ من سرعته في مواضع أخرى، ونادرا- ندرة تقترب من درجة المستحيل- ما يتطابق الزمن السردي مع الزمن الطبيعي، وقد يكون اتجاه سريان الزمن السردي عكس اتجاه سريان الزمن الطبيعي، الأمر الذي لم يحدث في القصص موضوع المقالة، فاتجاه الزمن في القصص الثلاثة يتطابق مع اتجاه سريان الزمن الطبيعي.

أما بالنسبة للزمن المحكي وهو فترة الزمن التي دارت فيها الأحداث وهو زمن خيالي فلا يتعدى الدقائق المعدودة عند كل من يوسف إدريس وفولفجانج بورشرت، أما في القصة التركية فهو أطول نسبيا، وقد انعكس قصر الزمن المحكي على زمن الحكي الزمن الذي تستغرقه قراءة العمل، حيث جاءت قصة نظرة في صحيفة تقريبا لا يتجازو زمن قراءتها الدقيقتين بينما قصة " القئران تنام ليلا " تحتاج إلى ثلاث دقائق تقريبا لقراءتها أما القصة التركية فتحتاج إلى ما يقرب من ثلاث دقائق أيضا.

وقد نجح الكتاب الثلاثة في رسم ملامح شخصية الطفل الخارجية والداخلية على الرغم من قصر زمن الحكي والزمن المحكي في القصص الثلاثة.

ومن الأمور اللافتة أن قصة فولفجانج بورشرت حملت في عنوانها دالا زمانيا وهو لفظة (ليلا) حيث جاءت في صورة ظرف الزمان، فالفئران تنام ليلا أي كل ليل، والليل واحد من الدوال المتواترة في الأدب الشرقي والغربي على حد سواء فالليل دال حاضر دائما في الشعر العربي القديم وقد يكون تصوير امرئ القيس (ت80 ق . هـ) للشعر بأنه كموج البحر واحد من أجمل التشبيهات في الأداب العالمية، فقد نجد الشاعر في الربط بين الدوال المتباعدة عن طريق علاقة وثيقة جمعت بين المتباعدين فموج البحر المتحرك حركة لا نهائية يشبه ليل الشاعر الذي يعج بالهموم التي لا تنتهي حيث يقول:

           وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ        عَلَيَّ بِأَنْــوَاعِ الـهُـمُومِ لِيَبْتَلِي

(الكندي، 1969، صفحة 18).

فصورة الليل في الأدب العربي توحي غالبا بالمعاناة بسبب الهموم التي تدهم النفس ليلا وإن خرجت بعض الشعراء عن هذه الصورة التقليدية لليل بتصويرهم لليل بأنه وقت السمر ولقاء الأحبة، والأمر نفسه نجده في الأدب الألماني فاليل يوحي أيضا بالوحشة عند الكثير من الكتاب الألمان ولكننا لا نعدم من وجود صورة إيجابية لليل الخلاب الجميل كما رسمها الشاعر الألماني يوهان فولفجانج فون جوته في قصيدته المشهورة التي عنونها ب (الليل).

3.3. الحوار في القصة:

يمثل الحوار واحدة من الآليات التي يختفي من خلالها الراوي ليترك الأحداث تُنقل مباشرة للقارئ على ألسنة الشخوص، وحتى مع وجود الراوي الذي ينقل لنا كلام الشخوص مُصدرا كل جملة من جمل الحوار بكلمة قال فلان فإن ذهن القارئ لا يولي للراوي اهتماما كبيرا، حيث يكون منصرفا تماما إلى الحوار المتبادل بين طرفي الحوار.

1.3.3.    الحوار في قصة نظرة:

في قصة (نظرة) يكاد يختفي الحوار تماما من القصة، حيث يظل الراوي يصف لنا المشهد السردي من بدايته إلى نهايته ولا نسمع صوت الطفلة إلا عن طريق الراوي، الذي يخبرنا بأنها طلبت منه مثلا أن يعدل وضع الصينية ولا تسمع صوت الطفلة إلا من خلال كلمة واحدة وهي كلمة (ستي). هنا نوع آخر من الجور على حقوق الصغار من قبل الكبار تجاه الصغار الذين لا يُسمع لهم صوتا، فبؤرة السرد تدور حول الطفلة، التي تغمغم ولا تتكلم وكأن الخوف المسيطر عليها أفقدها القدرة على الكلام.

" وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة و أنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلي الفرن، وكان قريبا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه. ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أري لها رأسا وقد حجبه الحمل. كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة (ستّي)." (إدريس، 1954، صفحة 12)، فعلى الرغم من خطورة الموقف إلا أن الطفلة لا تفكر في نفسها أو في الحمل الذي يكاد يحطم الرأس الصغير ولكنها رأسها مشغول فقط بالمرأة التي تعمل لديها والعقاب الذي ينتطرها لو تأخرت في العودة إلى المنزل.

2.3.3.    الحوار في قصة (أن الفئران تنام ليلا):

في قصة بورشرت نجد حوارا طويلا بين العجوز والصغير يورجن، حوار يغطي النسبة الكبرى من النص السردي، حوار لا ينساب بطريقة تلقائية بسبب تدخلات الراوي الذي يُكون ما يمكن أن نسميه السياق الخارجي للحوار عن طريق وصف المتحاورين ووصف مكان الحوار تارة وزمانه تارة أخرى.

"سأل العجوز: أو تنام هنا؟

 تفحصه بنظرة من شعره الأشعث حتى أخمص قدميه. رمق بنظره من بين ساقي العجوز إلى الشمس وقال: لا، أنا لا أنام، فعلي أن أحرس المكان. هز العجوز رأسه قائلا: هكذا، ألهذا السبب تحتفظ بهذه العصا الغليظة؟

أجاب يورجن بشجاعة: نعم، وتشبث بعصاه بكل قوة." (بورشرت، 2014، صفحة 46)

هنا تظهر مأساة الطفل الصغير الذي لا ينام ليلا أو نهارا، في حين أن أقرانه في أماكن أخرى من العالم يلعبون طوال النهار وينهكون من اللعب ليناموا ليلا، أما هذا الطفل البائس فلا ينام لأنه يحرس الرمق الأخير الباقي من إنسانية هذا العالم، تلك الإنسانية التي اغتالها الكبار من خلال حروبهم التي لا تنتهي. ويحاول العجوز أن يعرف سبب نوبة الحراسة الدائمة هذه ولكن دون جدوى.

"- ماذا تحرس إذن؟

- هذا ما لا أستطيع أن أقول.

أمسك العصا بشدة وبكلتا يديه.

أنزل الرجل السلة على الأرض وأخذ يمسح وجهي السكين في سرواله.

- هو المال إذن؟

فقال يورجن باحتقار: المال، أبدا، أنه أمر مختلف تمام. ألا وهو .....؟، ليس بمقدوري البوح عنه." (بورشرت، 2014، صفحة 47).

هو حوار أقرب ما يكون إلى استجوابات الشرطة فالعجوز يسأل والطفل يجيب، ويظهر من خلال الحوار احتقار الطفل الصغير لمفهوم الكبار عن قيم هذا العالم؛ فالكبار يضعون المال على قمة هرم القيم الخاص بهم في عالمهم الرأسمالي؛ ولذلك يحرسونه ويهتمون به ولكن الطفل يهدم الهرم القيمي المزيف الخاص بعالم الكبار بجوابه الذي لا يرضي فضول السائل.

ومع محاولات العجوز أن يخدع الطفل بحكاياته عن الأرانب إلا أن الطفل لم يستجب له ويترك مكان الحراسة "فسأله العجوز: تحرس دوما، حتى بالليل؟

هنا نظر يورجن فوق الساقين المعوجتين وهمس: بالليل أيضا. دائما دوما، من يوم السبت.

- ولكن ألم تذهب للبيت ولو لمرة؟ بالتأكيد أنت بحاجة للطعام.

رفع يورجن حجرا، وكان تحته شطر رغيف وكوب من الصفيح" (بورشرت، 2014، صفحة 47).

هي المأساة المستمرة بلا توقف، تلك التي تجبر الطفل الصغير على البقاء ليلا ونهارا وإلا مات الرمق الأخير من الإنسانية في هذا العالم.

ويظل الراوي مختفيا خلف الحوار الدائر بين العجوز الذي يمثل لنا حكمة عالم الكبار وبين الطفل الذي يمثل لنا ضحية الحرب التي أدار رحاها الكبار يتدخل بوصف الطفل تارة والعجوز تارة إلا أنه يعرض لنا قمة المأساة على لسان الطفل.

" حمل الرجل سلته وهم بالمغادرة قائلا، أووووو، حسنا، طالما أنه وجب عليك البقاء، يا للخسارة.

ثم استدار.

وهنا قال يورجن في سرعة: عليك أن تحفظ سري، فأنا هنا بسبب الفئران.

وهنا تقهقرت الساقان المعوجتان خطوة إلى الخلف: بسبب الفئران.

- نعم إنها تأكل الموتى، تأكل الناس. إنها بهذا تعيش.

- من قال ذلك؟

- معلمنا." (بورشرت، 2014، صفحة 48) هنا يجد العجوز أنه أمام خيارين كلاهما مُر، وعليه أن يختار أقلهما مرارة، أيكون أمينا وصادقا مع الطفل فتستمر المأساة إلى ما لا نهاية أم يخدعه بكذبة بيضاء، ويخبره أن الفئران تنام بالليل؛ لتتحول مأساة الطفل إلى نصف مأساة، ولم يستمر العجوز في هذا الجدل كثيرا إذ سرعان ما اتخذ قرارة.

"وسأل الرجل: هل أنت تحرس الفئران الآن؟

الفئران، بالتأكيد لا، ثم قال هامساً له: أخي. يرقد بالأسفل هنا.

أشار يورجن بعصاه على الجدار المتهدم قائلا: أنه بيتنا وقد ضربته القنابل وفجأة انقطع النور في البدروم، وهو أيضا. أخذنا ننادي. كان أصغر مني بكثير، في مطلع عامه الرابع. ألم يكن من الواجب أن يكون هنا معي الآن ؟!! إنه أصغر مني بكثير.

نظر الرجل إلى شعره الأشعث ثم قال فجأة: ولكن ألم يخبركم المعلم أن الفئران تنام ليلا؟" (بورشرت، 2014، صفحة 49)، إن الجمل التي تأتي على لسان الطفل جمل قصيرة للغاية تتكون بعضها من كلمة واحدة أو من كلمتين وتُقال هذه الجمل القصيرة غالبا بصوت هامس كقول الطفل "أخي. يرقد بالأسفل هنا." 

فالقصة الألمانية عرضت لنا المأساة من خلال الحوار أما القصة المصرية فعرضت لنا المأساه عن طريق صمت الفتاة وتهتهتها، تلك الطفلة التي لن تنطق سوى كلمة واحدة، غير أن كلمات الطفل الواردة في الحوار بالقصة الألمانية تأتي قصيرة بصوت الهمس فالطفل غير راغب في الحوار.

3.3.3.    الحوار في قصة (معمر الأشياء القديمة):

للحوار خصوصية شديدة في القصة التركية، حيث يعكس الحوار في الحقيقة الأزمة التي يعيشها الطفل الذي لا يستطيع أن يتعايش مع حوار لا يمس وجدانه، هو حوار مفصوم دائما حوار يدور على اللسان ولكنه يظل طريد وجدانه الذي لا يستطيع التخلص من ماضيه اللغوي.

فبمجرد وصول السفينة إلى حيفا والدخول في البلاد الحارة أحسن الطفل ببرودة شديدة تسري في روحة بسبب انقطاع لغته الأم.

"Fakat vapur, şuraya buraya uğrayıp bir sürü yolcu bıraktıktan sonra sıcak memleketlere yaklaşınca kendisini bir durgunluk aldı: Kalanlar bilmediği bir dilden konuşuyorlardı ve ona Istanbul'daki gibi:

-Hasan gel!

-Hasan git!

Demiyorlardı; ismi değişir gibi olmuştu. Hassen şekline girmişti:

-Taal hun ya Hassen,

diyorlardı, yanlarına gidiyordu.

-Ruh ya Hassen...

derlerse uzaklaşıyordu." (Karay, 2009)

لقد تغير كل شيء حتى اسم الطفل تغير ولم يعد يُنطق مثلما كان يُنطق من قبل، لقد استولت الغربة بإحساسها البغيض على كل ما يمتلكه الطفل وبدأ الطفل يتعود تعودا آليا على مفردات حياته الجديدة، وخاصة مفردات الحوار في بلاد الغربة فأصبح يقترب عندما يسمع كلمة "تعال هون يا حسن" ويبتعد عندما يسمع "روح يا حسن".

يظل الطفل في موقف اغترابي شديد، وكرد فعل تجاه هذا الاغتراب لا يجد الطفل سوى الصمت، الصمت فقط مع اختفاء لغته الأم لتلحق هي الأخرى بأمه المتوفاه.

"Artık anadili büsbütün işitilmez olmuştu. Hasan, köşeye büzüldü; bir şeyler soran olsa da susuyordu, yanakları pençe pençe, al al olarak susuyordu. Portakal bahçelerine dalmış, göğsünde bir katılık, gırtlağında lokmasını yutamamış gibi bir sert düğüm, daima susuyordu. (Karay, 2009)"

هنا يُفرغ كل حوار من مضمونه، ويختفي أي دور للطفل في الحوار ليتحول الحوار إلى أوامر يستجيب لها الطفل استجابة آلية حتى ولو تعود جسده على نمط حياته الجديد وانغمس فيها إلا أن وجدانه مازال يعيش في عالم آخر.

وينتهي هذا الصمت عندما يأتي مصلح الأحذية القديمة ليصلح أحذية الأقارب، ويجلس حسن يراقب المصلح كما لو كان يشاهد مشهدا مسرحيا لساحر شديد البراعة وهو يضع المسامير في فمه ويخرجها في سرعة ليثبتها في الحذاء، مشهد رآى مثله كثيرا في اسطنبول، مشهد طار بالطفل في لحظة ما وحط به في اسطنبول، وينسى الطفل كل ما حوله وتتحرك الشفاه الجافة ويجري الكلام على لسان الطفل جريان الماء في النهر.

"Bir aralık nerede ve kimlerle olduğunu keyfinden unuttu, dalgınlığından anadiliyle sordu:

-Çiviler ağzına batmaz senin?

Eskici başını hayretle işinden kaldırdı. Uzun uzun Hasan'ın yüzüne baktı:

-Türk çocuğu musun be?

-Istanbul'dan geldim.

-Ben de o taraflardan... İzmit'ten"! (Karay, 2009)

هنا يكتشف المعمر أن الطفل تركي اللسان يعيش في غربة وجدانية، لأنه هو أيضا يعيشها منذ سنوات لتمتلأ العيون بالدموع ولتنطلق الشفاة المتحجرة منذ أسابيع ويقل إحساس الغربة؛ ولهذا يتلكأ المعمر في عمله محاولا إكتساب أكبر قدر من الوقت، غير أن العمل لابد وأنه سينتهي في لحظة ما ويترك المصلح المكان لكي يفتح من خلفه باب الغربة مرة أخرى.

لقد مثل الحوار جوهر القصة التركية حيث تم توظيفه بطريقة محكمة فانقطاع الحوار وتحجر اللغة على لسان الطفل هو الأزمة التي انعقدت حبكة القصة عليها، ولحل هذه العقدة لابد من أن يسيل الحوار على شفتي الطفل أو بالأحرى يسيل الحوار على شفتي روحه.

4.3.   نهاية السرد:

ختمت القصة المصرية بنظرة الطفلة الصغيرة على مشهد أقرانها اللاعبين وسط الشارع، ليتحول ميدان جهادها الذي يجب أن تجتازه لتصل إلى هدفها وهو منزل سيدتها أو بالأحرى وصول الصينية إلى بيت سيدتها إلى ساحة للعب الأطفال، فالمسرح الذي تدور عليه مأساتها تدور عليه ملهاة أخرى لتُلقي البنت نظرة الحرمان الأخيرة على المشهد المأساوي، بينما يلقي الراوي نظرة أخرى تملؤها الشفقة على مشهد كوميدي يملأه الحزن.

"أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون."

هي المأساة التي لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها، ليتوارى اللسان وتبقى العين بنظرتها أكبر معبر عما يدور في النفس البشرية، وتنتهي القصة دون أن تنتهي المأساة بأن تبتلع الحارة هذه الصغيرة السائرة في طريق لا نهاية له.

"ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت علي الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة." (إدريس، 1954).

وتنتهي القصة الألمانية نهاية تتحول فييها المأساة إلى نصف مأساة فالعجوز ينجح في إقناع الطفل بأن الفئران تنام ليلا، وعلى هذا قَل زمن الحراسة إلى النصف، وأصبح بمقدور الطفل الصغير الذهاب إلى البيت عندما يحل الليل وأصبح هناك وقت للحياة بعيدا عن الموت، بعيدا عن القبر ونوبة الحراسة، هنا تلوح للطفل خيالات الطفولة الجملية وأحلامه بامتلاك واحد من الأرانب، أرنب أبيض اللون، لون يختلف عن اللون الأسود الغالب في القصة.

"هنا وقف يورجن وسأل: متى يمكنني الحصول على أحد الأرانب؟ أيمكن أن يكون أبيض اللون؟

صاح الرجل وهو يسير: سأفعل قدر استطاعتي، ولكن عليك أن تنتظرني طويلا.  سأذهب وبعد ذلك أصطحبك إلى البيت. أو تعرف؟ علي أن أشرح لأبيك كيف تُبنى أقفاص الأرانب. فعليكم أن تتقنوا هذا الأمر." (بورشرت، 2014، صفحة 49).

هي نهاية مختلفة عن نهاية القصة المصرية، نهاية تأخذ فيه القصة اتجاها آخر غير الاتجاه السوداوي المسيطر على القصة فالطفل يبدأ في الهروب من الواقع المرير عن طريق الحلم، ولا غرابة في هذا الحلم الذي تأسس على كذبة اتقنها العجوز لكي ينتشل الطفل من عالم الخراب ودنيا الموت التي يعيش فبها.

"هنا صاح يورجن: نعم، سأنتظر. فعلي أن أحرس حتى يحل الظلام. سأنتظر بكل تأكيد.

ثم صاح: مازل عندنا في البيت بقية من ألواح خشبية." (بورشرت، 2014، صفحة 49).

وكما بدأت القصة بوصف لمسرحها تنتهي القصة بتصوير هذا المسرح الذي طرأ عليه الكثير من التغيير، وعلى الرغم من هذا التغير إلا أن مسحة الحزن تظل هي المسيطرة على جو مشهد النهاية.

"غير أن الرجل لم يعد يسمع كان يعدو بساقيه المعوجتين في اتجاه الشمس. كان للشمس حمرة المساء، وكان يورجن قادرا على رؤيتها بين الساقين. كانتا معوجتين وكانت السلة تتأرجح في اضطراب هنا وهناك. طعام الأرانب بداخلها، في خضرة طازجة، إلا أنه كان قد اغبر بسبب رماد الخراب." (بورشرت، 2014، صفحة 50).

أما القصة التركية فتنتهي بنهاية مأساوية، فالطفل يبكي بحرقة عندما ينتهي المصلح من عمله ويهم بالمغادرة، فمع انتهاء المصلح من عمله سينهي الحديث باللغة التي تعرفها روحه أو سيُنفى الطفل من جديد إلى البلاد الغريبة التي فر منها عندما بدأ الحديث بالتركية، ومع ذهاب معمر الأشياء القديمة ستعود الروح إلى غربتها مرة أخرى.

"Ağlama be! Ağlama be!

Eskici başka söz bulamamıştı. Bunu işiten çocuk hıçkıra hıçkıra katıla katıla ağlamaktadır; bir daha Türkçe konuşacak adam bulamayacağına ağlamaktadır.

-Ağlama diyorum sana! Ağlama." (Karay, 2009)

 وفي الوقت الذي يحاول فيه العجوز محاولات يائسة من أجل تهدأة الطفل ينهار العجوز نفسه في بكاء حار، غير أن هذه الدموع تنزل على وجه العجوز فتبتل لحيته ثم تنهمر الدموع على صدره الذي تلفحه شمس العرب فتنزل باردة كينبوع ماء يطفئ نار اللوعة التي تشتعل في الصدر.

إن المصلح تمكن من إصلاح الحذاء، لكن الأهم أنه تمكن من مداواة قلب الطفل وأعاده لينبض بالحياة مرة أخرى إلا أن هذا الشفاء كان شفاء عابرا، سرعان ما انتهى بانتهاء عملية الإصلاح، بعدها يصمت اللسان وتتكلم العيون بدموعها التي لا تتوقف. لقد قدمت لنا نهاية القصة التركية مأساة توحد فيها الصغار والكبار، فمأساة الصغير هي مأساة المصلح الكبير، لهذا ستنهمر الدموع من الصغير ومن الكبير، في حين أن المأساة في القصة العربية والقصة الألمانية بدأت وانتهت مأساة للصغار.

خاتمة:

تشابهت صورة الطفل في الأعمال القصصية السابقة على مستوى الجوهر، بينما اختلفت الصورة على مستوى الشكل، فالأطفال الثلاثة يحملون في نفوسهم حملا ثقيلا، لا يرغبون في الكلام ولا يثقون في البيئة المحيطة بهم، تلك البيئة التي يحكمها الكبار.

المعاناة والألم النفسي كانتا الرابط الذي يربط بين الصور المختلفة للطفل على المستوى الشكلي، تلك المعاناة التي جعلت من الصمت الخيار المفضل للأطفال على الرغم مما يجيش بصدورهم من إحساس الخوف والوحشة والحسرة.

اعتمد الكتاب الثلاثة على تقنيات مختلفة للكتابة السردية مثل الحوار واللغة المجازية، وإن اختفى الحوار الكلامي في القصة المصرية ليحل محله ما يمكن أن نطلق عليه الحوار الإشاري.

تشابهت القصة العربية والتركية على مستوى المفتتح السردي، حيث بدأ الأحداث مباشرة، في حين أن القصة الألمانية بدأت بمقدمة وصفية وصف فيها مسرح القصة بدقة.

نهايات القصص الثلاثة مختلفة عن بعضها البعض، فالنهاية في القصة العربية نهاية مفتوحة وكذلك القصة التركية، أما القصة الألمانية فانتهت بانكسار لحدة المأساة، حيث تحولت المأساة الكاملة إلى شبه مأساة أو نصف مأساة.


المصادر والمراجع

أحمد أبو سعد . (1982). أعاني ترقيص الأطفالعند العرب منذ الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي. بيروت : دار العلم للملايين .

امْرُؤ القَيسِ الكندي . (1969). ديوان امْرِئ القَيس. القاهرة: دار المعارف.

باربارا باومان ، و بريجيتا أوبرله . (2002). عصور الأدب الألماني. (هيه شريف، المترجمون) الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

حسن شحاته. (1994). أدب الطفل العربي دراسات وبحوث . القاهرة : الدار المصرية اللبنانية .

طه حسين . (2013). الأيام. القاهرة: مؤسسة هنداوي.

علي الحديدي. (1988). في أدب الأطفال. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.

فولفجانج بورشرت. (ديسمبر, 2014). إن الفئران تنام ليلا. مجلة صحوة(45-50). (هشام مطاوع، المترجمون) بركة السبع ، المنوفية ، مصر : الهيئة العامة لقصور الثقافة.

محمد البخاري. (2012). صحيح البخاري. القاهرة: دار التأصيل.

يوسف إدريس . (1954). أرخص ليالي. القاهرة: دار النشر القومي.

يونيسيف. (20 نوفمبر , 1989). اتفاقية حقوق الطفل . نيويورك.

Karay, R. (2009). Ggurbet Hikayeleri. İstanbul: İnkılap Yayınevi.

Ünal, Y. (2013). Yakın Dönem Türk Tarihinde Refik Halid Karay. İstanbul: Yeditepe Yayınevi.

Vaguet, Q. (2022). Die Darstellung der Kindheit in ausgewählten Werken der deutschsprachigen Gegenwartsliteratur. Liège, Belgin: Année académique.