توظيف النمط التوجيهي في
التأثير والإقناع في المراسلات السياسية في العصر
العباسي دراسة تداولية
ياسر فتحي
باحث دكتوراه، جامعة قسطمونى، تركيا
البريد الإلكتروني: yssr13@protonmail.com
معرف (أوركيد): 0009-0003-4377-652X
بحث أصيل |
الاستلام: 13-8-2023 |
القبول: 15-10-2023 |
النشر: 31-10-2023 |
الملخص:
الخطاب السياسي في حالات الصراع
والتنازع يطوّع ممارسات لسانية متعددة من أجل التأثير ومحاولة الإقناع وتحقيق
الغايات المرجوة، ويسعى البحث للاستفادة من الجهود التداولية Pragmatics في تحليل
الخطاب السياسي والإسهام في كشف آليات التأثير والإقناع فيه، والذي يرتكز على أن
المعنى الحقيقي يتم كشفه وتحليله في حيز الاستعمال، وسنركز على الاتجاه القصدي Intentionally في
التحليل، وسنركز في هذا البحث على تحليل النمط التوجيهي الطلبي Directive -وهو أحد أنماط أفعال الكلام الخمسة
التي اقترحها سيرل، في تعديله على
النموذج التحليلي الذي قدمه لجون
أوستن John Austin للأنماط العليا للفعل الكلامي- في المراسلات السياسية في العصر
العباسي، والكشف عن توظيفه في عملية التأثير والإقناع، ويسعى البحث أيضا لاختبار
مدى فاعلية هذا النموذج التحليلي في تحليل الخطاب السياسي.
الكلمات المفتاحية:
للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation ياسر
فتحي، محمد (2023). توظيف النمط التوجيهي في التأثير والإقناع في المراسلات السياسية في العصر
العباسي دراسة تداولية. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع8، 369- 415 https://www.daadjournal.com/ /
Deploying the Directive
pattern to influence and persuasion in political correspondence in the Abbasid
era – a pragmatic study
Yasser Fathy
PHD Student at Kastamonu
University, Turkey
E-Mail: yssr13@protonmail.com
Orcid: 0009-0003-4377-652X
Published: 31.10.2023 |
Accepted: 15.10.2023 |
Received: 13.08.2023 |
Research
Article |
Abstract:
Political discourse in cases of
conflict and disputes adapts multiple linguistic practices in order to
influence, try to persuade and achieve the desired goals. The research seeks to
benefit from Pragmatics efforts in analyzing political discourse and contributing
to the detection of the mechanisms of influence and persuasion in it, which is
based on the fact that the real meaning is revealed and analyzed in the area of
use, and we will focus on the “Intentionally Direction” in the analysis.
John Austin’s Speech Act Theory
shows interest in discourse purposes, linking them to higher patterns of speech
act that can be narrowed to and analyzed in linguistically, and Austin provided
a model of analysis of these patterns, in which John Searle modified and that I
will rely on in this research.
In this research, I will focus on
analyzing the “Directive Pattern”, which is one of the five patterns of speech
acts proposed by Searle, in political correspondence in the Abbasid era, and
revealing his deployment to it in the process of influence and persuasion, and
the research also seeks to test the effectiveness of this analytical model in
analyzing political discourse.
Keywords:
Pragmatics
– Speech Acts – Discourse – Political discourse – Abbasi era - Political
Correspondence
مقدمة:
إذا كان الخطاب الإنساني في أي سياق اجتماعي يتمتع بسمات
متعددة في عمليات التواصل والتعبير، وإنجاز المعاني وتحقيق الغايات، فالسياق
السياسي -خاصة المرتبط بالصراع أو النزاع حول غايات وشرعيات ومصالح ونفوذ- يسهم في
ثراء التوظيف اللساني من أجل محاولات التأثير والإقناع وتحقيق الغايات الممكنة.
يسعى البحث إلى الكشف عن: كيفية توظيف النمط التوجيهي
لغايات التأثير والإقناع، معتمدا على نطاق موضوعي للمراسلات السياسية في العصر
العباسي (٤٦ رسالة تشمل ١٠ مواقف خطابية)، من خلال منهجية تداولية معتمدة على
نظرية أفعال الكلام المُضَمّنة في القول Speech Act
Theory
لجون أوستن John Austin، ونموذج جون سيرل
John
Searle
لأنماط أفعال الكلام وخاصة النمط التوجيهي Directive، وخلال ذلك
يسعى الباحث للإجابة على أسئلة أساسية وهي:
-
كيف تم توظيف النمط التوجيهي في عملية التأثير والإقناع
في المراسلات السياسية في العصر العباسي؟
-
إلى أي مدى كان نموذج سيرل فعّالا
في تحليل توظيف النمط التوجيهي، في عملية التأثير والإقناع في المراسلات السياسية
في العصر العباسي؟
ويهدف البحث
ضمن إجابته على الأسئلة السابقة إلى:
-
إثراء حقل تحليل الخطاب
السياسي في المكتبة العربية، اعتمادا على نصوص عربية سياسية أصيلة.
-
مزج
عمليات التحليل، بالنقاش المنهجي والنقدي للإطار النظري التداولي ونماذج التحليل،
والانطلاق من تحليل الظواهر لاكتشاف فاعلية النظريات ونماذج التحليل، والفجوات
التي يمكن أن تفتح آفاقا متعددة للباحثين.
1.
تمهيد
1-1-
المصطلحات
الأساسية للبحث:
1-1-1- الخطاب وتحليل الخطاب:
أصبح
مصطلح الخطاب رائجا وشائعا في كثير من بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانية، ورغم
هذا الشيوع لا يوجد اتفاق واضح ومحدد على تعريف دقيق له، وقد أشار عدد من الباحثين
لهذه الملاحظة ومنهم نورمان فيركلف Norman Fairclough إلى أن "الخطاب مفهومٌ يصعب
تحديده"([1])، كما
أشار أيضا ماريان يورغنسن ولويز فيليبس أن مصطلح الخطاب
"يُستعمل على نحو عشوائي في النصوص
والنقاشات العلمية من دون أن يتم تعريفه غالبا. وقد أصبح المفهوم ملتبسا"([2])،
وسنجد أيضا أثرا لهذه الملاحظة في معاجم المصطلحات التي تضطر للحديث عن عدة معان
وتفسيرات لهذا المفهوم، على سبيل المثال معجم المصطلحات
المفاتيح في اللسانيات ذكر أن لمصطلح الخطاب "وجهين على الأقل"([3])،
كما أشار معجم اللغويات الاجتماعية أن مصطلح تحليل الخطاب يحتمل "ثلاثة معان
عامة"([4])، ومن
أسباب هذا الأمر تعدد التخصصات التي تهتم بالخطاب وتحليله، من اللسانيات -ومدارسها
واتجاهاتها المختلفة-، للفكر الاجتماعي والسياسي، وكذلك الأنثروبولوجيا وغير ذلك.
سننطلق
لتحديد مفهومنا للخطاب في هذه الدراسة من باحثين ورواد في حقل تحليل الخطاب لهم
مرجعية واهتمام باللسانيات واللغة، يذكر فيركلف أن
المعنى العام للخطاب هو "استعمال اللغة المنطوقة أو المكتوبة"([5])،
أو "تحليلٌ للغة في الاستعمال. لذلك لا يمكن أن ينحصر في الوصف المجرد
للأشكال اللغوية بعيدا عن الأغراض أو الوظائف التي وضعت هذه الأشكال لتحقيقها بين
الناس. وإذا كان بعض اللسانيين مهتمين بتحديد الخصائص الشكلية للغة، فإن محللَ
الخطاب ملزمٌ بالبحث فيما تُستعمل تلك اللغة من أجله"([6])،
كما بيّن فان دايك Teun A. Van
Dijk "أن الخطاب
لا يُحلَّل بوصفه لفظا مستقلا بذاته فحسب؛ بل بوصفه كذلك تفاعلا موقفيا، أو ممارسة اجتماعية، أو نوعا من التواصل في موقف
اجتماعي، أو ثقافي، أو تاريخي، أو سياسي محدد"([7])،
ووفق ذلك أشار براون Gillian Brown وجورج يول George Yule إلى أن تحليل الخطاب هو "تحليل للغة في الاستعمال. لذلك لا يمكن أن ينحصر في
الوصف المجرد للأشكال اللغوية بعيدا عن الأغراض أو الوظائف التي وضعت هذه الأشكال
لتحقيقها بين الناس. وإذا كان بعض اللسانيين مهتمين بتحديد الخصائص الشكلية للغة،
فإن محلل الخطاب ملزم بالبحث فيما تستعمل تلك اللغة من أجله"([8]).
ويقتضي
الاستعمال والتفاعل وجود غاية بين المتحدث والمستمع أو الكاتب والقارئ، كما يذكر المَسَدِّي أنّ "الكلام وإن كان أداةَ تعبيرٍ في منطلقه، فهو
وسيلةٌ لبلوغ الفرد غاياته في الجماعة"([9])،
وهذه الغاية -أو الغايات- لها ارتباط وثيق بطريقة الحديث؛ لأننا "نتكلم في
العادة من أجل أن نبلغ هدفا، هذا الهدف يؤثر لا محالة في القول الذي نقول"([10])،
فالاستعمال والتفاعل يقتضي غاية، والغاية تؤثر أو تهيمن على القول، ليس على مستوى
المفردات والتراكيب النحوية لكل جملة فقط؛ ولكن على مستوى الدلالات والمعاني
الضمنية والمجازية والقصدية والتلميحية؛ بل ربما على
مستوى ما تم السكوت عنه قصدا، وربما صاحَبَ ذلك إشاراتٌ صوتية أو دلالات كتابية
خطية ذات علاقة بالغاية التي أثّرت على طريقة استعمال اللغة، وتوظيفها، وطريقة
التفاعل بها لتحقيق الغاية -أو الغايات- المقصودة، لذلك أشار براون ويول إلى
وظيفتين للغة في إطار الاستعمال الاتصالي: "تعاملية"
و"تفاعلية"([11]).
وقد سعى محمد بازي لتحديد أكثر دقة لمفهوم الخطاب إنه
"مجموع المعاني النصية المفهومة والمؤولة"([12])،
وقد أشار إلى أن هذه المعاني تتحقق بوسائل أسلوبية وبلاغية، وبهذا لا يقف الخطاب
-بحسب بازي- عند حدود النية أو قصد صاحب الخطاب؛ ولكنه يشمل أيضا قدرات النص الإنجازية وبلاغة التأويل الممكنة.
وفي التمييز بين حقل الخطاب (الذي يشمل المنطوق أو
النصوص) وحقل النحو مثلا أشار سعد مصلوح إلى أنّ ثمة نمطين من النحو: نحو الجملة sentence grammar، ونحو النص text grammar،
وينتمي النحو العربي إلى النوع الأول حيث يركز على "حدود الجملة ويرى فيها
أكبر وحدة لغوية، ولا يقر للنص بكينونة متميزة توجب معالجة تركيبه معالجة نحوية
تستجيب لمقتضيات بنيته، وتكون مؤهلة لتشخيصها ووصفها، وبهذا يقع النص خارج مجال
الدرس النحوي"([13])، وقد
صرّح سعد مصلوح بحاجتنا لتجاوز نحو الجملة قائلا "والذي نريده وندعو إليه هو
نمط من التحليل ذو وسائل بحثية مركبة، تمتد قدرتها التشخيصية إلى مستوى ما وراء
الجملة"([14])،
وينتمي نحو النص إلى مصطلح الخطاب discourse، حيث يستخدم
مصطلح الخطاب ليعبر عن المنطوق أو المكتوب أما النص فقد يخص المكتوب فقط، ويهتم
البحث بالخطاب الذي يتجاوز نحو الجملة ودراسته من ناحية تداولية؛ للكشف عن توظيف
اللغة لإنجاز التأثير والإقناع والغايات الاجتماعية والسياسية.
وفق هذه الإشارات والتعريفات ننطلق في هذا البحث من أن
المقصود من الخطاب يدور حول أربعة عناصر:
الأول: أن الخطاب هو استعمال تفاعلي -أو تواصلي- للغة.
الثاني: أن هذا الاستعمال والتفاعل له غاية إنسانية (اجتماعية أو سياسية إلخ)
يُراد إنجازها وتحقيقها.
الثالث: أن هذه الغاية -أو الغايات- تؤثر أو تهيمن على أنماط الاستعمال والتفاعل
بين المتكلم والسامع، أو بين الكاتب والقارئ، وتحتاج نموذجا تحليليا ملائما.
الرابع: أن الخطاب بما يحمله من غايات، وأنماط لاستعمال اللغة وتوظيفها، يتجاوز في
فهمنا له وتحليله مستوى (نحو الجملة) -أي القواعد النحوية التقليدية التي تعتمد
على الجملة كوحدة تحليل-.
ويكون تعريفنا المختار للخطاب: أنه استعمال اتصالي للغة من أجل تحقيق غاية أو غايات
إنسانية، وتوثر هذه الغاية أو الغايات في أنماط استعمال اللغة وتوظيفها بين
المتحدث والمتلقي، بشكل يخلق بِنْية لسانية تتجاوز الجملة.
أما مقصدنا من تحليل الخطاب: فهو العمل على كشف المعاني (الصريحة أو المؤولة)،
المتعلقة بغاية المتحدث، أو بتوظيف اللغة لتحقيق هذه الغاية، أو باستجابة المتلقي
وتفاعله مع المتحدث وخطابه لسانيا، من خلال نماذج تحليل تكشف البنية الخفية لهذا
الاستعمال المتجاوز لنحو الجملة وقواعده التقليدية.
1-1-2-
الخطاب السياسي:
حددنا
ما نقصده من الخطاب، وقلنا إنه يشمل أنماطا لغوية متعددة وكذلك مجالات اتصالية
واجتماعية متعددة، والخطاب السياسي هو خطاب اتصالي يستعمل اللغة لتحقيق غايات
متعددة، ويذكر عماد عبد اللطيف أن تحليل الخطاب السياسي هو "حقل معرفي يهتم
بدراسة التواصل السياسي في المجتمع، سواء بواسطة النصوص، أو الكلام، أو الصور، أو
الإشارات، أو الرموز، أو غيرها من العلامات"([15]).
وعادة
ما تكون الغايات العليا للخطاب السياسي مرتبطة بالسلطة أو القوة أو التأثير
-بأشكال التأثير المختلفة في المجتمع-، وقد تكون هذه السلطة -أو القوة أو التأثير-
متعلقة بأسرة، أو عائلة، أو قبيلة، أو هيئة، أو منظمة، أو وزارة، أو حكومة، أو
دولة إلخ، ولأن هذه الأشكال الاجتماعية المتعددة تستخدم اللغة استخداما كثيفا فقد
أشار فيركلف أن "اللغة ترتبط ارتباطا أساسيا
بالسلطة وضروب الصراع على السلطة"([16])،
وبالتالي يمكننا القول إن الخطاب "مكان تمارس فيه علاقات السلطة"([17]).
اللغة
إذن أداة مهمة من أدوات الاتصال والتدافع والتأثير بجانب أدوات أخرى، من هنا سيبقى
الخطاب السياسي -في فهمنا له في هذه الدراسة وعملية تحليله- ضمن حقل تحليل الخطاب
وتعريفه الذي حددناه سابقا، ويكون وصف الخطاب بـ(السياسي) هو وصف مرتبط بالغايات
الإنسانية (تأثير وإقناع مرتبط بالسلطة أو القوة والتأثير)، والتي سيكون لها أثر
مهم في التحليل اللساني.
هذا
الاستخدام اللغوي يبغى التأثير الإقناعي المرتبط
بامتلاك السلطة أو القوة والتأثير المرتبط بها، ليكون المرجو من المتلقي للخطاب أن
يكون داعما، أو مؤيدا، أو مُسَلِّما، أو مُذعِنا إلخ، وعندما تتنازع الإرادات
والغايات السياسية، يسعى كلُّ صاحبِ إرادةٍ لاستخدام اللغة وتوظيفها توظيفا أكثر
تأثيرا وإقناعا، لذلك تمثل اللغة طريقا من طرق "الكفاح في سبيل فرض النظام
الجديد أو مقاومته"([18]).
فالخطاب
السياسي هنا هو تقسيم موضوعي -وليس فنيّا لسانيّا-، وهو وجه من موضوعات اللغة
المختلفة في الحياة، فهناك خطاب تجاري دعائي تسويقي، وخطاب إداري وظيفي، وخطاب
دبلوماسي، وخطاب إعلامي إلخ، وكلها خطابات لغوية تتنوع غاياتها الاجتماعية
الاتصالية، فالتجاري الدعائي له أهداف تتعلق بالمال والتجارة والبيع والأسواق
ومنافسة الآخرين تجاريا، كما أن خطاب الإدارة هو خطاب يرتبط بالعمل وفق منظومة
معينة من الواجبات واللوائح والقوانين لتحقيق نجاحات مقصودة ومحددة داخل الشركة أو
الهيئة، وهو خطاب يخاطب موظفين وعمال وشركاء ومعاونين، وخطاب الإعلام هو خطاب
الخبر والتقارير عن موضوعات قابلة للاهتمام والقراءة والتأثير في نفوس الناس
وهكذا.
وهذه
الغايات المختلفة في مجالات متعددة تؤثر في استعمال اللغة وتوظيفها، بل يمكنُ
لخطابٍ إعلامي أو ديني أو تجاري أن يحمل ضِمنيا غايات سياسية، وكذلك يمكنُ للخطاب
السياسي أن يعرض لموضوعات دينية أو إعلامية أو ترفيهية؛ لكنه يستخدمها لتحقيق غاية
سياسية، ويمكن للاستخدام أن يكون صريحا، أو أن يأخذ أشكالا ضمنية أو تلميحية متعددة، وقد يكون صادقا أو مخادعا متلاعبا.
1-1-3-
المراسلات السياسية في العصر العباسي:
تتنوع أشكال الخطابات داخل الغايات السياسية، أو
الاجتماعية، أو الإعلامية، أو التجارية إلخ، قد يكون الخطاب شعرا، أو نثرا، أو
خطابة، أو قصة، أو رواية، أو حوارا ومحادثة، أو مناظرة، أو مقابلة، أو خبرا، أو
إعلانا، أو تقريرا، أو فيلما، أو مسرحية، أو رسالة إلخ.
وداخل هذه الأنماط قد يكون هناك أخذٌ ورد، وقد يكون
إرسالٌ لا ينتظر جوابا أو ردا، لكنْ في خطاب المواجهة الحوارية "يُطوّع
المُنْتِجون -للخطاب- أقوالهم حتى تلائم من يتفاعلون معهم"([19])،
وتخلق حالةُ الحوار -أو المواجهة أو انتظار الرد-
اهتماما كبيرا بالاستعمال والتوظيف اللغوي، حيث ينتظر المتحدثُ نتيجةً وإنجازا لما
يريده، وقد يتلقى ردا إيجابيا أو غير ذلك، وتعدُّ هذه الحالة التفاعلية حالة مثلى
لدراسة آليات الإقناع والتأثير، وكيف تتنوع وتتأثر وفق الغاية ووفق حالة المواجهة
والحوار؟
فالمراسلات السياسية هي رسائل سياسية متبادلة، أي حالة
حوار تتعلق بغاية سياسية تستخدم الرسالة كساحة للتأثير والإقناع، وتمثل المراسلات
السياسية ميدانا خصبا لبحوث تحليل الخطاب السياسي تداوليا،
ويزيد من أهمية هذه الدراسة أن الدراسات المتعلقة بالمراسلات السياسية في الدراسات
اللغوية كانت تتعلق غالبا بالدراسة الفنية والأدبية ولا تنطلق من حقل تحليل
الخطاب، وكذلك الدراسات المرتبطة بتحليل الخطاب لم توجه عنايتها لتحليل المراسلات
السياسية.
ولأنه يجب على الباحث أن يضيّق نطاق البحث لأسباب علمية،
مع وجود أسباب موضوعية لذلك، فقد اختار الباحث في النطاق الزمني العصر العباسي
لعدة أسباب:
-
أنّ هناك جهودا علمية جمعت الرسائل عموما في هذا العصر
خاصة كتاب جمهرة رسائل العرب لأحمد صفوت زكي، وهذا يمكّن الباحث من البحث عن
المراسلات عموما والسياسية خصوصا.
-
أنّ
العصر العباسي قام عقب ثورة على الدولة الأموية، كما أنه مر بكثير من الصراعات
والنزاعات لتمتين الحكم الجديد، أو لمواجهة خلافات وتمردات وصراعات نشأت خلاله،
وكثير من هذه الصراعات السياسية في العصور الأولى لا تأخذ حظها من التحليل، ولا
تستفيد من الاتجاهات اللسانية في تحليل هذه الصراعات، وقد أشار عماد عبد اللطيف
إلى أن الدولتين الأموية والعباسية عرفتا "أشكالا من الصراع السياسي، ومع ذلك
لم يأخذ هذا الصراع شكلَ نقدٍ علمي للغة السياسية لكل طرف من أطرافه على خلاف
المتوقع نظريا"([20]).
-
يمتاز
العصر
العباسي بنضج العقل العربي وتطور علومه اللغوية، ومن ثَمّ تطور الإنشاء في
المراسلات السياسية التي عُرفت بالمراسلات الديوانية "ويمتاز الإنشاء فيها
ببسط الكلام"([21])،
كما أنهم كانوا يتخيرون للإنشاء الديواني "بلغاء الكتاب لما يترتب عليه من
التبعات الجسيمة"([22])،
ولذلك عدَّ كثيرٌ من الباحثين هذا العصر "بداية العصر الذهبي للكتابة الفنية،
الذي امتد إلى أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس الهجريين، وهو عصر ازدهار
الرسائل ورُقِيّها من حيث الكم والكيف، إذ أصبحت فنا راقيا، يجاري غيره من الفنون
الأخرى، ولم تكن قبل ذلك قد اكتملت معالمها وبلغت ما بلغته من النضج
والازدهار"([23]).
-
أنّ
هذا العصر
بعيدٌ نسبيا عن الجيل الأول والثاني من مهد الرسالة، والذي تُمثل دراسة الخلافات
فيه -بين الصحابة أو كبار التابعين- حساسية كبيرة بين كثير من المسلمين فتحتاج إلى
عناية خاصة واحترازات منهجية وعملية في الدراسة والتحليل.
وقد
حدد الباحث المراسلات المتعلقة بالنزاع السياسي ويجمعها مواقف خطابية حوارية تتنوع
داخله عدد المراسلات حسب كل موقف، ليبلغ عدد الرسائل التي يعتمد عليها البحث ٤٦ رسالة تمثل ١٠ مواقف خطابية وهي:
-
رغبة أبي مسلم والخليفة أبي العباس في قتل ابن هبيرة آخر
ولاة الدولة الأموية، ومحاولة أبي جعفر المنصور ممانعة ذلك (٦ رسائل).
-
طلب أبي مسلم الإذن بالحج وخوف الخليفة من زيادة بروز
نفوذ أبي مسلم أمام الناس في موسم الحج (٤ رسائل).
-
علاقة التوجس والقلق بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم
الخراساني (٧ رسائل).
-
تمرد محمد النفس الزكية على الخليفة أبي جعفر المنصور
والتنازع حول الأحق بالخلافة (٣ رسائل).
-
رغبة الخليفة أبي جعفر المنصور في أن يتنحى عيسى بن موسى
عن ولاية العهد لصالح المهدي ابن المنصور (٨ رسائل).
-
محاولة نقفور ملك الروم
التمرد على الولاء لهارون الرشيد (رسالتان).
-
التنازع بين الخليفة الأمين وولي عهده أخيه المأمون (٩
رسائل).
-
التماس زبيدة زوجة هارون الرشيد -بعد حبسها ومصادرة
ممتلكاتها- العفو من المأمون بعد انتصاره على الأمين (٣ رسائل).
-
رغبة محبوس أن يعيد الخليفة المأمون النظر في حبسه ويعفو
عنه (رسالتنا).
-
حوار ثوفيل ملك الروم
والخليفة المأمون حول طي الخلافات بينهما والاجتماع على الصلح والسلم أو الاحتكام
للحرب (رسالتان).
1-2-
التداولية في دراسة
الخطاب السياسي وتحليله:
تمثل التداولية مدخلا علميا مناسبا لدراسات تحليل الخطاب
عموما والسياسي خصوصا، وتمدنا التداولية بنظريات ومفاهيم ونماذج تحليل متعددة
لاستعمال اللغة الاتصالي في حيز اجتماعي أو سياسي، وهي تعطينا شبكة غنية من
المفاهيم تتعلق بالقصد والإنجاز، أو الافتراض، أو التضمين الحواري، أو المغالطات
التداولية، وغير ذلك.
كما أنها تعد أساسا مهما لكثير من المشتغلين بتحليل
الخطاب الاجتماعي أو السياسي، ومنها خرجت مدرسة التحليل النقدي للخطاب، التي تركز
على تحليل تمظهرات السلطة أو الأيدولوجيا أو الهُويّة
وغير ذلك من مفاهيم اعتمادا على أسس تداولية، ويبقى الاتجاه التداولي أو الدراسات
التداولية هي الاتجاه العلمي الأوسع لمجال تحليل الخطاب وإن تعددت مجالاته
وموضوعاته الاجتماعية والسياسية والإعلامية إلخ.
ومع هذا الارتباط الواضح بين التداولية وتحليل الخطاب
السياسي يَذكر عماد عبد اللطيف أنه "على الرغم من أهمية
المقاربة التداولية للخطاب السياسي، فإن الدراسات التي قاربت الخطاب السياسي من
منظور تداولي ما تزال محدودة. والأكثر شيوعا هو أن تدمج مباحث تداولية في إطار
تحليل متعدد المقاربات للخطاب السياسي، وبخاصة ظواهر أفعال الكلام والتضمينات وظواهر التأدب"([24]).
بدأت إرهاصات الاهتمام التداولي من نقاش ساخن داخل
الفلسفة، حيث سادت اللغة الغامضة والرمزية ليقول عنها فتنجشتاين
"إن معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة؛ بل هي خالية
من المعنى"([25])، لتظهر
مدرسة فلسفية تهتم بمصطلح اللغة العادية -والتي هي لغة مستعملة غير مهجورة أو
مُغرِقة في رمزية يكتنفها الغموض والتجريد والزيف-، وكذلك كانت هناك إشارة أخرى من
تشارلز موريس Charles W. Morris في تقسيمه
لعملية التدليل semiosis إلى "التركيب والدلالة
والتداولية. وأوضح أن هذه الأخيرة تبحث في العلاقة بين العلامات ومؤوليها"([26])،
مثلت هذه الإرهاصات زخما مهما للاهتمام باللغة العادية في حيز الاستعمال.
لاحقا ظهر جون أوستن بنظريته المهمة التي أطلقت بابا
مهما للدراسات اللسانية التداولية -وإن لم تستخدم مصطلح التداولية بشكل واضح-،
وسُمّيت نظريته Speech Acts Theory أي أفعال
الكلام أو الأفعال المضمنة في القول أو الأفعال الإنجازية،
وأثرت هذه النظرية تأثيرا كبيرا في المسيرة اللسانية بعده، من حيث الإضافة، أو
التعديل، أو النقد، أو فتح آفاق أخرى لاكتشاف مفاهيم ونماذج تحليل جديدة.
مر المصطلح عربيا بقليل من التردد بين عدة ترجمات مثل البراجماتية والنفعية والتأويلية والفعليات وغير ذلك، غير أن
أكثر المصطلحات شيوعا في العربية الآن هو (التداولية) الذي وضعه طه عبد الرحمن،
وقد ذكر أنه اختار هذا المصطلح عام ١٩٧٠ "لأنه يوفي المطلوب حقه، باعتبار
دلالته على معنيي (الاستعمال) و(التفاعل) معا. ولقى منذ ذلك الحين قبولا من لدن
الدارسين الذين أخذوا يدرجونه في أبحاثهم"([27]).
لقد نشأت إرهاصات التداولية لتتمرد على اللغة غير
المستخدمة المجهولة والغامضة والتي تحمل اللبس وغموض التأويل بين بعض الفلاسفة،
وانطلق فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات لوضع تصورات عن اللغة المستعملة، وعن ضرورة
التوجه لدراسة اللغة في حيز الاستعمال، ومن هنا نشأت فكرة اللغة الإنجازية ومفاهيم الافتراض والتضمين الحواري والحجاج
والمغالطات التداولية وغير ذلك.
وتدور
التداولية Pragmatics حول فنون استعمال الناس للغة، ويرى التداوليون
أنّ المعنى في إبداعات الاستخدام والتواصل بين المتحدث والمتلقي. كانت التداوليةُ Pragmatics ثمرةَ جدلٍ في الحقل الفلسفي، من أجل نقد الإيغال في لغة الغموض
والإيهام والرمزية الفلسفية، وحملت التداوليةُ دعوةً إلى إعادة النظر في دراسة
اللغة وتحليلها، ونشأ الاهتمام بما سُمِّي "اللغة العادية" Ordinary Language -لا المصطنعة المتخيلة
التي لا يعرفها إلا بعض الفلاسفة-، وكانت أشد العبارات قسوة صادرة قبل أوستن Austin بسنوات من
الفيلسوف فيتغنشتاين Ludwing Wittgenstein أن: "معظم القضايا والأسئلة التي
كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة فقط، بل هي خالية من المعنى... فمعظم الأسئلة
والقضايا التي يثيرها الفلاسفةُ إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق
لغتنا"([28])،
ورأى أنّ "الفلسفة مدعوة إلى التخلي عن الاستخدام الميتافيزيقي للغة والعودة
إلى لغة الحياة اليومية"([29])،
وقد كرر أوستن Austin في تمهيده لنظريته
مثل هذه العبارات بصور مختلفة.
وقد انطلق أوستن Austin وبعده سيرل Searle والتداوليون
من فرضيتين أساسيتين: الأولى أن "اللغة سلوك قَصْدِيٌّ محكومٌ
بقواعد"([30])، وهذ
القصد هو قصد لإنجاز شيء ما، لذا فـ "إنَّ التكلمَ هو إنجازٌ لأعمالٍ
بالاستناد إلى قواعد"([31])، والثانية
أن "كل ما يمكن أن يُعنَى يمكن أن يُقال"([32]).
وحاول أوستن Austin بعد تأصيله
النظري لنظريته، أن يضع مقترحا يجمع الأنواع العليا أو الأساسية للقصد الإنجازي والذي سيكون نواة مقترحة للنموذج التحليلي لنظرية
الأفعال الإنجازية المُضَمَّنة في القول Speech Act Theory، وبنى سيرل
Searle أفكاره على ما وضعه أوستن Austin واهتم بتطوير
نظريته والتأصيل لها وتطوير النموذج التحليلي الذي وضعه أوستن Austin.
1-3- النظرية
والنموذج التحليلي للبحث:
سنعتمد
على نظرية أفعال الكلام Speech Acts لجون أوستن وكتابه الذي نُشر بعد وفاته باسم How to Do Things with Words من ترجمتين عربيتين للكتاب:
ترجمة عبد القادر قينيني([33])،
وترجمة طلال وهبه([34]).
وسنعتمد
في النموذج التحليلي لأنماط أفعال الكلام الخمسة لنموذج جون سيرل
خاصة من كتابه Speech acts – an essay in the philosophy of language([35]) والذي يقسم أنماط أفعال الكلام إلى: نمط تقريري Assertive، ونمط توجيهي Directive، ونمط التزامي Commissive، ونمط تعبيري Expressive، ونمط تصريحي رسمي Declarations، وسنركز على نمط الفعل التوجيهي
الطلبي Directive.
1-4- الدراسات السابقة والفجوة البحثية:
تدور الدراسات السابقة -التي اطلع عليها الباحث-
المتعلقة بنظرية أفعال الكلام أو بتحليل الخطاب السياسي لسانيا حول عدة جوانب:
منها ما يتعلق بإجلاء ما تعنيه وتقصده نظرية أفعال الكلام وتطبيق ذلك بشكل تعليمي
توضيحي مثل:
نظرية الحدث الكلامي من أوستن إلى سيرل
للعيد جلولي المنشور في مجلة الأثر مجلد ١٠ العدد ١٢، الجزائر ٢٠١١، ونظرية
الأفعال الكلامية عند أوستن وسيرل ودورها في البحث
التداولي لحكيمة بوقرومة في حوليات الآداب واللغات مجلد
١ العدد ١، الجزائر ٢٠١٣، ونظرية أفعال اللغة لدى الفيلسوف أوستن
أسسها وحدودها الفلسفية للحسين أخدوش المنشور عبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات
والأبحاث قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، المغرب ٢٠١٦.
أو
من خلال الاقتراب من النظرة التواصلية الإعلامية أو الحجاجية
لتحليل الخطاب مثل:
الاستراتيجيات
التداولية في تحليل الخطاب السياسي خطب الحجاج بن يوسف أنموذجا لإيمان مالكي
المقدم لكلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ريان عاشور، الجزائر
٢٠١٥، والتحليل النقدي للخطاب: الخطاب الإعلامي
للدول المحاصرة لقطر مثالا لعبد الله حسن عبد الله القايد المقدم لكلية الآداب
والعلوم بجامعة قطر ٢٠١٩.
أو
السعي لاستنطاق التراث وما يرتبط فيه بهذه الدراسات التداولية ومنها:
التداولية
عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة (الأفعال الكلامية) في التراث اللساني
العربي لمسعود صحراوي، بيروت ٢٠٠٥م، والتداولية
والحِجاج مداخل ونصوص لصابر الحباشة دمشق ٢٠٠٨م، وفي اللسانيات التداولية مع محاولة
تأصيلية في الدرس العربي القديم لخليفة بوجادي الجزائر ٢٠٠٩، ومغامرة المعنى من النحو إلى التداولية
قراءة في (شروح التلخيص) للخطيب القزويني لصابر دمشق ٢٠١١م.
أو
كتابات ذات طابع تأصيلي للخطاب السياسي أو المرتبط بالسلطة من منظور لساني مثل:
-
تحليل
الخطاب لجورج يول وج ب بروان الصادر عام م١٩٨٣، والمترجم عربيا عبر جامعة الملك سعود ١٩٩٤م.
-
اللغة
والسلطة لنورمان فيركلف الصادر عام ١٩٨٩، ترجمة محمد عناني ٢٠١٦م.
-
الخطاب
والتغير الاجتماعي لنورمان فيركلف الصادر عام ١٩٩٢م، ترجمة محمد عناني ٢٠١٥م.
-
الخطاب
والسلطة لتوين فان دايك الصادر عام ٢٠٠٨م، ترجمة غيداء العلي ٢٠١٤م.
-
تحليل
الخطاب السياسي البلاغة السلطة المقاومة لعماد عبد اللطيف ٢٠٢٠م.
أو تتناول تحليلا لخطابات سياسية لزعيم
سياسي أو رئيس مثل:
-
لغة
الخطاب السياسي دراسة لغوية تطبيقية في ضوء نظرية الاتصال لمحمود عكاشة ٢٠٠٥م.
-
بيان
التنحي وذاكرة الهزيمة مدخل بلاغي لتحليل الخطاب السياسي لعماد عبد اللطيف ٢٠١٠م.
-
الخطاب
السياسي لمهاتير محمد (رئيس وزراء ماليزيا سابقا) في ضوء الاتساق اللغوي وعملية
الاتصال لعاصم شحادة علي ٢٠١١م.
-
استراتيجيات
الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي خطب الرئيس السادات نموذجا لعماد عبد اللطيف ٢٠١٢م.
-
الخطاب
السياسي عند ياسر عرفات دراسة لغوية لأفنان ناهض يونس ٢٠١٧م.
ومن
البحوث القليلة التي اهتمت بالمواجهات الحوارية على نصوص عربية أصيلة بحث عماد عبد
اللطيف "إطار مقترح لتحليل الخطاب التراثي تطبيقا على خطاب السقيفة"
المنشور في مجلة الخطاب الجزائر ٢٠١٣م.
وتتمثل الفجوة
البحثية في:
الحاجة
إلى بحوث تقتحم النصوص العربية الأصيلة خاصة المتعلقة بالمواجهة والحوارات
المباشرة وغير المباشرة، في أنماط غير أدبية، وأيضا لا تقف عن حدود الجانب
التطبيقي التعليمي؛ لكنها تجعل من التحليل طريقا لمناقشة الاتجاهات النظرية
ومساءلتها واختبار فاعليتها على نصوص عربية، وكشف الفجوات البحثية المنطلقة من
الظواهر الخطابية الفعلية التي يمكنها أن تفتح آفاقا للإسهامات البحثية.
2- نظرية أفعال
الكلام والتحليل التداولي ونظرة كمية على تحليل أنماط أفعال الكلام في المراسلات
السياسية:
انطلقت
محاولة التحليل للكشف عن الأفعال الإنجازية المُضمَّنة
في القول خلال عملية التواصل اللغوي، معتمدة على أن الناس عندما يُعبِّرون عن
أنفسهم "لا يُنشئون
ألفاظا تَحْوي بنى نحوية وكلمات فقط، وإنما يُنجزون أفعالا عبر هذه الألفاظ"([36]).
وانطلق
أوستن Austin من أن الوصف التقليدي للعبارات اللغوية
أنها إنشائية performative أو خبرية constative ليس كافيا، فخلف كلِّ حديثٍ قَصْدٌ، وداخل هذا القصد نماذج كثيرة
ومتعددة من غايات تفصيلية يحاول المتحدث إنجازها عبر الحديث.
وإذا كانت عملية الإخبار أو الوصف تحمل في طياتها إنشاءً
أو إنجازا، فإن الاكتفاء بتصنيف الأساليب اللغوية إلى إنشائية وخبرية -والحد
الفاصل بينهما فيما يتعلق بالصدق والكذب والإخبار-، لا يكفي للإشارة إلى كل
الحالات الإنجازية خلال الحديث، فطبيعة اللغة المراوغة،
والمبدعة، والصريحة وغير الصريحة، والمباشرة والاستعارية أو المجازية، تمثل طرقا
متنوعة للتعبير عن القصد والإنجاز، لذلك أشار أوستن Austin إلى أن كثيرا
من الجمل التي لا يبدو في ظاهرها الإنشاء، لا يمكن أيضا أن نُطبّق عليها معيار
الحكم على الجمل الخبرية فـ"الكثير من الجمل التي ليست استفهامية أو تعجبية
أو أمرية لا تصف مع ذلك أي شيء، ولا يمكن الحكم عليها
بمعيار الصدق أو الكذب، وبالفعل لا تُستعمل هذه الجمل لوصف الواقع؛ بل لتغييره"([37])،
فخلف التعبيرات التي تبدو إنشائية أو خبرية هناك رغبة إنجازية
أو قصد إنجازي يتوجه به الإنسان للواقع، سواء كان هذا القصد الإنجازي
صريحا مباشرا أو غير صريح.
من خلال إسهامات أوستن Austin وسيرل Searle يمكننا أن نلخص
أهم النقاط المرتبطة بنظرية الأفعال الإنجازية
المُضَمَّنة في القول في عدة نقاط، ويعتمد استخلاصنا لهذه النقاط على كتاب جون
أوستن How to Do Things with Words (والذي ترجمه عبد القادر قينيني
بعنوان نظرية أفعال الكلام العامة كيف ننجز الأشياء بالكلام، وترجمه طلال وهبه
بعنوان الفعل بالكلمات)، وكُتُب جون سيرل خاصة: Speech Acts An Essay In The Philosophy of Language (وترجمته أميرة
غنيم بعنوان الأعمال اللغوية بحث في فلسفة اللغة)، وIntentionality
An Essay in the philosophy of Mind (والذي ترجمه أحمد الأنصاري بعنوان القصدية بحث في
فلسفة العقل)، و Mind, Language & Society –
philosophy in real world (والذي ترجمه صلاح إسماعيل بعنوان العقل واللغة
والمجتمع – الفلسفة في العالم الواقعي)، وThe
Construction of social reality (والذي ترجمته حسنة عبد السميع بعنوان بناء الواقع
الاجتماعي):
- اللغة لا ترتكز على الوصف فقط لما في الواقع والعالم،
ولكنها تتمتع بِسِمَةٍ إنشائية إنجازية تَتَّجِهُ لفعل
شيء أو تغيير شيء في هذا العالم والواقع الاجتماعي.
- يرتبط المعنى بالقصد الإنجازي وتفاعله مع
الواقع والسياق، وما يتعلق بذلك من مناسبة ومن فهم لشروط مطابقة مقتضى الحال.
- عملية الإنشاء أو الإنجاز ليست دائما صريحة، ولكن هناك
أساسا جوهريا لكل غاية إنجازية قد يتجلى في صورة إنشاء
صريح أو غير صريح.
- يمكن التمييز بين عملية النطق بالكلام Locutionary، والفعل الكلامي أو الإنجازي المُضَمَّن داخل الكلام Illocutionary وهو مركز اهتمام نظرية الأفعال الإنجازية، وما قد يترتب على ذلك من فهم أو إقناع أو حمل أو تأثير
إلخ Perlocutionary.
- الفعل الكلامي أو الإنجازي
المُضمّن في القول Illocutionary هو وِحْدَةُ المعنى الأساسية في
التواصل.
- ميّز أوستن Austin بين خمسة أصناف
من أفعال الكلام المُضمَّنة في القول([38]):
١- ما يتعلق بقرارات رسمية تشريعية أو تصريحات إلخ Verdictives
٢- ما يتعلق بممارسات ترتبط بالسلطة والقانون والتوجيهات
والإجراءات ويلحق بها النصح والتحذير Exercitives
٣- ما يتعلق بأنواع الالتزام Commissives
٤- ما يتعلق بالأوضاع السلوكية والأعراف المجتمعية ويلحق
بها التعبيرات والاعتذارات والتهاني والتعازي والسباب والقذف إلخ Behabitives
٥- ما يتعلق بالوصف والتقرير وعملية الاحتجاج والنقاش
والإجابة والمعارضة والتوضيح والافتراض والمسلمات إلخ Expositives
لكن أوستن Austin عدَّ هذا
التصنيف محاولة أولية، وأعلن بشكل واضح أنه "غير مسرور ولا راضٍ عن أية واحدة
منها"([39])، وأنه
يمكن ظهور تقسيمات أخرى، ونبّه أنّ الصنفين الرابع والخامس هما الأكثر تعقيدا
وصعوبة ويدعوان للحيرة والارتباك أحيانا، لذلك عقَّب قائلا "لم أدّعِ أن هذا
التصنيف نهائيٌّ"([40])، وهو
ما سيجعلنا نعتمد على تقسيم سيرل Searle بعد أن أدخل بعض التعديلات على نموذج أوستن Austin.
- قسم سيرل Searle الأفعال الإنجازية المُضَمَّنة في القول([41])،
حسب ما رآه من جوهر الغايات الإنجازية illocutionary point:
-
أفعال الإنجاز التقريرية الإخبارية Assertive:
وهي التي تتعلق بتقديم قضية ما أو رأي أو موقف أو ما
يمثل تصورا لحالة الواقع، وكأن المتحدثَ يتعهد بصدق القضية وصدق وصفه وإخباره، ومن
أمثلة هذا النمط ما يتعلق بالإخبار عموما وتقديم الأوصاف والتصنيفات والتفسيرات
إلخ، وجوهر هذا النمط هو الاعتقاد، فكل تقرير أو إخبار أو وصف يُعبّر عن
اعتقاد، وأبسط اختبار لهذا النمط ومعياره هو التساؤل هل المنطوق صادق أم كاذب؟
-
أفعال الإنجاز التوجيهية الطلبية Directive:
ويحمل هذا النمط محاولة واضحة لحمل المستمع أن يسلك
سلوكا ما، وهو يدور حول الطلب ومن أمثلته التوجيهات والأوامر والحث والالتماسات
إلخ، وجوهر هذا النمط هو الرغبة، فكل توجيه هو تعبير عن رغبة في أن يقوم
المستمع بفعل أو سلوك ما، ومعيار تمييز هذا النمط هو هل تطاع هذه الأفعال أو تعصى؟
يستجاب لها أو لا يستجاب؟ إلخ.
-
أفعال الإنجاز الالتزامية Commissive:
والمقصود هنا إلزام يخص المتحدِّث، وهو التزام يقدمه
المتحدِّث من خلال وعود أو نذور أو تعهد أو تعاقد أو ضمانة، والتهديد هو التزام
أيضا لكنه على خلاف الأمثلة الأخرى يأتي مضادا لمنفعة السامع أو رغباته، ومعيار
هذه الأفعال يتعلق بهل هي مُنفذَة ويمكن الوفاء بها أو النكوث عنها.
-
أفعال الإنجاز التعبيرية Expressive:
وتتعلق بالتعبيرات مثل الاعتذارات والشكر والتهاني
والتحيات والتعازي، وهي تتعلق بشعور تَملَّك المُتحدِّث غالبا بشكل عفوي، وجوهر
هذا النمط هو الحالة الشعورية التي يبدو أنها حدثت داخل المتحدث ببساطة ومسلم بها.
-
أفعال الإنجاز التصريحية -الرسمية- Declarations:
وهي التي تتعلق بمحاولة إحداث تغيير رسمي في العالم، مثل
إعلان الزواج أو الحرب أو الاستقالة من عمل إلخ، وجوهر هذه الأفعال هو ارتباطها
بمؤسسات اجتماعية خارج نطاق اللغة لها أعراف معينة حتى تتم العملية الرسمية
التغييرية المعترف بها، ويصبح التصريح والإعلان ساريا إذا تم بطريقة صحيحة وفق
العرف المتفق عليه.
- الأفعال الإنجازية المُضمّنة في القول يتعين إنجازها عن قصد، لكن
النتائج والآثار قد تكون قصدية أو لا.
- يمكن التمييز بين القضية التي يدور حولها الحديث،
والفعل الإنجازي المضمن في القول الذي يتناول هذه
القضية، وترتبط هذه النقطة في بحوث المعنى بالتمييز أحيانا بين معنى الجملة (أو
الكلمة)، والمعنى لدى المتكلم وما يعنيه ويقصده، وبغض النظر عن طبيعة اللغة فما
يقصده المُتكلم لا يزال هو الصورة الأساسية للمعنى اللغوي في نظرية الأفعال الإنجازية كما عبّر أوستن وسيرل.
-
هذا القصد وما يُعبَّر عنه بالفعل المُضمّن بالقول يحتاج إلى استيفاء شروط أهمها
شرط يتعلق بالعلاقة بين القصد والعالم أو الواقع، فالمرجو أن يَفْهم المستمعُ قصدَ
المتكلم وهو يرتبط بقصد اتصالي، وأن يدرك المستمعُ قصدَ المتحدث، وهذه النقطة
تتعلق بالدراسات التي تُعنَى بتحليل ما يقوله المتحدثُ ويعنيه، وما يقوله ويعني
شيئا آخر.
-
قصد الاتصال والتواصل هو أمر عام، لكن قصد المعنى هو قصد خاص، وما يميز الاتصال
الإنساني أننا نريد إحداثَ تأثيرٍ مقصود في المستمع عن طريق جعل المستمع يدرك
القصد، ويرتبط نجاح ذلك بـ: ١-
نطق الكلام نطق صحيح بالمعنى الاصطلاحي ٢-
ووجود شروط الاستيفاء الخاصة
بالغاية القصدية 3- وإدراك المستمع قصد المتحدث.
- العلاقة بين الحالة القصدية الفطرية للإنسان واللغة
علاقةٌ مركبة، فالقصد واللغة يتطوران معا، صحيح أن هناك قصدا أوليا لدى الأطفال
قبل نمو لغتهم، لكن اللغة تُطوّر القَصْديات وتُنميها، وكذلك بتطور القصديات
والغايات الإنسانية يتطور استخدام الإنسان للغته.
3- نظرة عامة على تحليل الأفعال الإنجازية في المراسلات
السياسية في العصر العباسي:
باستقراء أنماط أفعال الكلام المضمنة في القول يظهر أن
النمط التقريري هو الغالب في الاستخدام بنسبة ٧٨.٧٢٪ من أنواع أفعال الكلام الأخرى
المستخدمة في الرسائل، يليه النمط التوجيهي بنسبة ٩.٩٣٪ ثم الالتزامي
بنسبة ٩.٣٦٪ ثم التعبيري بنسبة ١.٧٠٪ ثم التصريحي بنسبة ٠.٢٨٪ ونستعرض نتيجة
الاستقراء الكمي عبر الجداول والبيانات التالية:
·
جدول
حصر أفعال الكلام المضمنة في القول لكل موقف خطابي، من حيث عدد الجمل (ج) أو
الكلمات (ك) لكل نمط([42]):
الموقف
الخطابي |
الرسائل |
تقريري |
توجيهي |
التزامي |
تعبيري |
رسمي |
|||||
ج |
ك |
ج |
ك |
ج |
ك |
ج |
ك |
ج |
ك |
||
قتل ابن
هبيرة |
٦ |
٨ |
٥٠ |
٢ |
٤ |
٣ |
١٦ |
- |
- |
- |
- |
أبو مسلم
وإمارة الحج |
٤ |
٧ |
٤٧ |
٣ |
١٢ |
- |
- |
١ |
٤ |
- |
- |
التوجس بين
المنصور وأبي مسلم |
٧ |
٤٣ |
٢٧٨ |
٧ |
٣٨ |
٧ |
٤٠ |
٢ |
١٤ |
١ |
٤ |
تمرد النفس
الزكية على المنصور |
٣ |
١٧٠ |
١١١٠ |
٩ |
٤٩ |
١٨ |
١٢١ |
- |
- |
- |
- |
رغبة المنصور
في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد |
٨ |
١٨٩ |
١٤٥٦ |
١٩ |
١٦٤ |
١ |
٤ |
٣ |
١٩ |
- |
- |
تمرد نقفور على الرشيد |
٢ |
٧ |
٣٦ |
٢ |
١٦ |
١ |
٤ |
٢ |
٦ |
- |
- |
خلاف الأمين
والمأمون |
٩ |
٨١ |
٦٠١ |
١٥ |
١٢٤ |
١٢ |
٧١ |
- |
- |
- |
- |
التماس زبيدة
عفو المأمون |
٣ |
٣٢ |
١٤٦ |
٩ |
٧٢ |
١ |
٩ |
٤ |
٣١ |
١ |
٧ |
التماس محبوس
عفو المأمون |
٢ |
٨ |
٤٨ |
١ |
١٢ |
٢ |
٢٠ |
- |
- |
- |
- |
ثوفيل والمأمون بين الخلاف والاتفاق |
٢ |
١٠ |
٩٢ |
٣ |
٢٩ |
٢١ |
١٣١ |
- |
- |
- |
- |
·
الحصر
الكمي لإجمالي كل نمط في كل الرسائل([43]):
|
تقريري |
توجيهي |
التزامي |
تعبيري |
رسمي |
عدد الجمل |
٥٥٥ |
٧٠ |
٦٦ |
١٢ |
٢ |
النسبة المئوية |
٧٨.٢٢٪ |
٩.٩٣٪ |
٩.٣٦٪ |
١.٧٠٪ |
٠.٢٨٪ |
رغم
عدم خلو أي رسالة من الرسائل من ارتباطها بحالة شعورية من غضب أو حزن أو ضيق أو
خوف أو قلق إلخ، لكن التعبير عنها بأفعال إنجازية
تعبيرية مُضمّنة في القول كانت قليلة جدا، وكنت صاحبة النسبة قبل الأخيرة في
الاستخدام والتوظيف، وهو ما يبين أن الحالة الغالبة وسط الصراع السياسي كانت تحاول أن تتحكم في التعبير عن الانفعالات بشكل صريح
وتسعى لإخفاء هذه التعبيرات ما أمكن ذلك، ولا تظهرها إلا لتحقيق غرض مقصود من ذلك.
نمط الأفعال التصريحية هو الأقل استخداما على الإطلاق
يكاد أن يكون نادرا، رغم أن المواقف الخطابية كلها كان الخليفة جزءا من الحوار
السياسي، وكان الخليفة له رأي يريد إنفاذه، سواء تعلق رأيه بقتل شخص -مثل ابن
هبيرة- أو تحجيم نفوذ شخص مثل -أبي مسلم- أو مواجهة تمرد وتثبيت شرعية كما حدث في
مواجهة تمرد النفس الزكية، أو رغبة في أن يعزل ولي العهد نفسه، أو غضب الخليفة من
نكوث ملك الروم عن عهده أو تنازع في الشرعية والنفوذ بين الخليفة الأمين وولي عهد
الأمين إلخ، ويدل ذلك على وعي المتحاورين داخل الصراعات والنزاعات السياسية بطبيعة
الصراعات التي تستند إلى درجات النفوذ وقوة الشرعية وتمكنها ومراعاة حساسيات
وتوازنات خاصة، ويدرك القويُّ درجة قوته واحتياجه في بعض الأحيان لتحقيق مراده إلى
عدم التسرع باللجوء السريع إلى قرارات رسمية تصريحية قد تواجَه بالرفض أو التقليل
من شانها، أو تزيد من الطعن في شرعيته وقوته، أو تعجل الصدام والحرب إلخ.
النمط
التوجيهي هو جوهر الصراع السياسي صحيح ان التعبير الصريح عنها كان أقل من النمط
التقريري، لكن النمط التقريري الواسع كان طريقة للتعبير غير الصريح الغايات
التوجيهية الطلبية، ووسط حالة المراوغة والتأثير يصبح النمط التوجيهي الطلبي
والتعبير عنه بشكل قصدي ذا أهمية كبيرة لكشف بعض آليات التأثير والإقناع، او ربما
محاولة التلاعب والخداع، وكيف كان التعبير التوجيهي الطلبي نفسه ليس على نمط واحد
بل تعددت طرق توظيفه داخل الخطاب.
تُوَظِّف
الأنماطُ التوجيهية والالتزامية في أحيان كثيرة أسلوبَ
الشرط للربط بينهما، كما حدث مثلا في قول أبي جعفر المنصور لأبي مسلم -في محاولة
لاسترضائه وبث الثقة فيه- "لا تَحْمِلْ عَليَّ إِصْرَ غيري، ولا تُلْحِقْ ما
جناهُ سِواي بي، إنْ أَمَرْتني أنْ أَشْخصَ إليكَ وأَلْحقَ بخرسان فَعَلت"([44])،
أو قوله له "فَوَجِّهْ إلى مصر من أحببتَ، وأَقِمْ بالشَّأم... فإنْ أحبَّ
لقاءَك أتَيْتَهُ من قريب"([45])،
أو قول المنصور في مواجهة تمرد النفس الزكية ومحاولة إثنائه "لكَ عليَّ عهدُ
اللهِ وميثاقُه وذمةُ رسوله صلى الله عليه وسلم إنْ تبتَ ورجعتَ من قبل أنْ
أَقْدِرَ عليكَ أنْ أُؤَمِّنَكَ وجميعَ ولدِكَ وإخوتِكَ وأهلِ بيتِكَ..."([46])،
وغير ذلك كثير مما سنبينه لاحقا.
يبرز أحيانا التداخل في الاستخدام بين عدة أنماط في جملة
واحد، فقد يختلط غرض تقريري بآخر توجيهي، أو قد يختلط غرضٌ تقرير بآخر التزامي،
وقد يكون التداخل بين غرض صريح واضح، وغرض ضمني غير مباشر يمكن فهمه واستنباطه من
السياق، أو قد يزداد التداخل الصريح بحيث يصعب أحيانا تحديد نمط محدد بشكل واضح.
في مسألة التداخل بين الصريح وغير الصريح، سنلاحظ أن
كثيرا من الاستخدامات التقريرية الواسعة لها أغراض ضمنية غير مباشرة، قد تكون
توجيهية طلبية أو التزامية تهديدية أو تعبيرية إلخ،
لذلك من المهم أن يحظى النمط التقريري الغالب في استخدام الرسائل بمزيد من التحليل
لكشف الغايات الضمنية الأخرى أو تضمينه لأنماط أخرى من أفعال الكلام في قالب
تقريري.
النمط التوجيهي الطلبي هو جوهر عملية الصراع السياسي وما
يرتبط به من حوار وآليات للتأثير والإقناع، صحيح أن النمط التقرير حظى باستخدام واسع لكنه كان غالبا من أجل التهيئة أو التمهيد
أو دعم غاية طلبية، لذا يحتاج النمط التوجيهي الطلبي اهتماما خاصا في تحليله
واستكشاف آليات توظيفه في التأثير والإقناع.
يظهر جليا خلال محاولات التأثير والإقناع في المراسلات
أن هناك فارقا بين القصد الإنجازي الذي يريده المتحدث
وما يُنجَزُ فعلا من فهم المتلقي أو استجابته التي قد لا تتطابق مع رغبة المتحدث
وقصده، حتى لو كان المتحدثُ يملك سلطةً أعلى من المتلقى،
على سبيل المثال قد يكون القصدُ بثَّ الطمأنينة لكنّ النتيجةَ إثارةٌ للقلق والشك
والريبة، وقد يكون القصدُ رغبةً في الانصياع لأمر لكنّ النتيجةَ رفضٌ وممانعة أو
مماطلة أو حرب، في ثلاث حالات فقط في المواقف الخطابية محل البحث تغيرت وجهةُ نظر
المتلقِي، مثل استجابة عيسى بن موسى لرغبة المنصور وخلع نفسه من ولاية العهد بعد
محاولات ورسائل متعددة، أو استجابة المأمون لاستعطاف زبيدة والعفو عنها، أو توافق ثوفيل ملك الروم والمأمون على استمرار الهدنة رغم ما بينهما
من خلافات، وهذا لا يمنعُ حدوثَ توافقٍ جزئي في بعض المراسلات داخل الموقف الخطابي
بغض النظر عن النتيجة النهائية.
4- تحليل
النمط التوجيهي المضمن في القول Directive:
بحسب سيرل Searle يمثل النمط التوجيهي لأفعال الكلام المضمنة في القول
رغبة المتحدث وقصده في أن يحمل المستمع على أمر ما([47])،
قد يكون موقفا أو رأيا أو سلوكا إلخ، وطبيعي أن يكون هذا الحَمْلُ له أكثر من شكل
أو درجة، فهو يشمل الطلب بشكل عام، ما يعني أنه قد يبدأ بالتمني الذي لا يتوقع له
استجابة، وينتهي بالطلب القاطع الذي لا مفر منه.
سيكون علينا الحذر أيضا حين يتعلق الأمر بالسلطة والصراع
السياسي، خاصة حين يكون أحد المتحاورين ذا سلطة عليا مثل سلطة الخليفة، كما سنحاول
اكتشاف تنوع استخدام درجات الطلب والتوجيه وتوظيف ذلك في محاولة التأثير والإقناع.
درجات
التوجيه:
سننطلق
أولا من البحث عن درجتين من التوجيه الطلبي، وهي درجة تتعلق بالطلب (الأمر
والنهي) القاطع الذي لا مفر منه، والذي قد ينبني عليه سلوك عملي في الخصومة
السياسية أو العداوة أو الحرب، والدرجة الأخرى التي تتعلق بالطلب الذي يحمل
الحض أو الحث أو الالتماس سواء كان من طرف أعلى أو أدنى، ثم ننظر هل نحن بحاجة
إلى النظر في درجات أخرى أم لا؟
الطلب
القاطع الذي لا مفر منه:
رغم
أنّ الرسائل كلّها دارت حول صراعات ونزاعات سياسية، لكن التعبير بالنمط التوجيهي
عن هذا الطلب القاطع -الذي لا يقبل الرد- كان محدودا، ويمكننا فهم هذا الحذر من
الإسهاب فيه في حالة الصراع والجدال الإقناعي خلال النزاعات،
حيث يؤدي هذا الأمر القاطع الذي لا مفر منه إلى وضوح الردود، فإن لم تكن مقبولة،
فستذهب النتائج بسرعة إلى إعلان الرفض الواضح أو الخصومة أو العداوة أو الحرب، ويمكن
حصره في ستة مواضع:
في
الموقف الخطابي المتعلق بحوار الخليفة أبي العباس مع ولي عهده المنصور حول رغبته
في قتل ابن هبيرة آخر ولاة الدولة الأموية بعد أن خاضوا معه حروبا ثم عقدوا معه
اتفاقا وعهدا، وكانت رغبة أبي مسلم في ضرورة قتله، وقد قبل أبو العباس ذلك وأراد
أن يقتله المنصور، وقد دلّت الرسائل في هذا الموقف الخطابي رغم قصرها على محاولة
المنصور ممانعة هذا القرار ونصح الخليفة بألا يفعل، فقد بدأ أوّلا المنصور بقوله
في إحدى الرسائل لا أفعل، وبرر ذلك بوجود بيعة وعهد وأنه لا يقبل رأي أبي مسلم،
لكن الخليفة ظل مقتنعا ومُصرّا، وبدأ رفع درجة الطلب والإلحاح، فبدأ أوّلا بتأكيد
الطلب ودفع الحجج التي ذكرها المنصور وأنّ السبب ليس رأي أبي مسلم بل خيانته
ودسيسته مع آل طالب، ومع استمرار الطلب واستمرار الممانعة رفع الخليفة حدة التأكيد
"والله لتقتلنه" وأنّه عازم على ذلك حتى لو اضطر لإرسال شخص آخر
لفعل ذلك، بما يحمله هذا من إشارة غضب ضمنية، حتى يصل الأمر إلى التصريح بذروة
التوجيه الطلبي "لستَ منّي ولستُ منكَ إنْ لم تقتلْه"([48])،
وهنا يبدو الطلب واضحا أنه بلغ الذروة الحاسمة التي لا تقبل الرد، وأن مخالفة ذلك
ستعنى لدى صاحب السلطة العليا موقفا حاسما من ولي عهده وهي درجة خطيرة في هذا
الحوار الذي بدأ من حوار عادي إلى تهديد بالتبرؤ.
خلال
الموقف الخطابي الطويل بين الخليفة المنصور وولي عهده عيسى بن موسى، وقد أراد
المنصور أن يُبادرَ عيسى بن موسى بخلعِ نفسِهِ من ولاية العهد لصالح المهدي، وطال
الحوار ولم يَستخدمْ المنصور في الأنماط التوجيهية الصورة القاطعة الحاسمة رغم
ثبات رأيه وعدم تزحزحه عنه، وحين جاءت فرصة للمنصور ليخاطبه بشدة وغلظة بعد أن قتل
رجلا دون الرجوع للمنصور، أرسل له خطابا قاطعا بأوامر لا مفر منها "فأمسك
عمن ولاك أمير المؤمنين أمره من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبدن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة"([49])،
ورغم أنّ إرادة المنصور في نقل ولاية العهد لابنه كانت أشد من هذا الموقف -كما
تُبيّن الرسائل التي أرسلها لعيسى بن موسى وما فيها من إلحاح-، لم يلجأ إلى نمط
الأمر الذي لا مفرّ منه في موضوع نقل ولاية العهد، لكن في هذا الموضع ورغم أن عيسى
بن موسى ولي العهد وله كامل الولاية والحكم في الإقليم الذي يحكمه، فقد قرّر
المنصور أن يستخدمَ النمطَ التوجيهيَ الذي لا مفرّ منه الذي يرتقي للتهديد، وهو ما
يدل على قصد المنصور لعدم التصريح به في الغاية الأولى، والتصريح بذلك في الغاية
الثانية، وقد نُسمى هذا الجمع بين (العصا والجزرة) لكن بصورة غير مباشرة، فلا زالت
إرادة المنصور أنْ يقوم عيسى بن موسى بتنحية نفسه، لذلك لا يريد أن يكون الأمر القاطع
-الذي لا مفر منه- في هذا الموقف، حتى لا يدفعَ هذا الحوار إلى نهايته بسرعة ويضطر
لاستخدام القوة والبطش أو الحرب، أما الأمر الثاني فهو فرصة للخليفة أن يغلظ على
ولي عهده وأن يمارس الضغط والتهديد المباشر لكن في مسألة أخرى غير ولاية العهد، لتكون
الشدة والغلظة في أمر يصعب الاحتجاج في شرعيته وتصعب معه المراوغة والممانعة.
وبعد موت مَلِكةِ الروم، وتولي نقفور
مُلكَ الروم ومحاولته تغيير الخطاب والتبعية لهارون الرشيد، وجّه نقفور طلبا واضحا وقاطعا "فإذا قرأتَ كتابي فارددْ ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به
المصادرة لك"([50]) وما
يؤكد النمط القاطع -الذي لا مفر منه- ليس مضمون التمرد على الاتفاقات السابقة ولكن
أيضا ما تبعه من تهديد ووعيد يؤكد النظرة القاطعة "وإلا فالسيف بيني وبينك"([51])
ويدل رد الرشيد على فهمه لهذا الطلب القاطع "الجواب ما تراه دون ما تسمعه".
وفي
التماس محبوس أن ينظر المأمون في أمره مع الإشارة أن قضيته تعرضت للغفلة والنسيان،
ليرد المأمون ردا قاطعا يبين أنه ليس غافلا ولا ناسيا، ويوجه ردا قاطعا وتوجيها لا
مفر منه "فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلاتك على قدر صبرك على كثير
جناياتك، فإن حصل في نفسك كف عن معصيتي وعزم على طاعتي وندم على مخالفتي فلن تعدم
مع ذلك جميلا من نيتي"([52])
وهنا يؤكد الخليفة أنه باق في محبسه وأنه لا غفلة ولا نسيان، وواجب عليه أن يسعى ليؤكد
للخليفة ندمه الشديد وتوبته وحينها قد ينظر الخليفة في أمره.
وفي
رد الخليفة المأمون على ثوفيل ملك الروم الذي أراد
السلم والاتفاق؛ لكنه عبر عن اختلافه مع الخليفة وقدّم تهديدا مُعلّقا إذا رفض
المأمون، أنه قد يلجأ للحرب وخوض غمارها، وأمام الجمع بين التهديد المعلق -الذي قد
ينتقص من هيبة الخليفة- ورغبة الخليفة في عقد الاتفاق معه، لجأ الخليفة إلى تنويع
الأساليب وأنماط أفعال الكلام، فقد ذكر أن ثوفيل خلط
اللين بالشدة، وقدم تهديدا ملغيا أنه كان ينوي البأس وسفك الدماء لكن منعه تراجع
أسلوب ثوفيل عن استمرار أسلوب التهديد، وأمام هذا
الموقف الملتبس بين الرغبة في الاتفاق والحاجة للتهديد والوعيد ليكون الاتفاق عن
قوة، قدّم المأمون طلبا لا مفر منه يحمل التهديد والعزم الذي لا مفرّ منه وهو طلب
الفدية يعني أنه في حالة حرب وسيكون عليه تقديم الفدية ليتجنب الحرب، لكن ذلك معلقٌ
أيضا إذا أعلن رفضه للموعظة والنصيحة "غير أنّي رأيتُ أن أتقدمَ إليك
بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة... فإن أبيتَ ففدية توجب ذمة وتثبت نظرة"([53]).
الطلب الذي يحمل التماسا أو حضا وحثا:
في هذا النوع سنجد التعبير عنه أوسع من التعبير عن الطلب
القاطع الذي لا مفر منه، قد يصل لأكثر من اثنا عشر موضعا:
في طلب الخليفة أبي العباس من أبي مسلم لتحديد عدد الجند
معه وهو قادم للحج، بدأ بطلب عاديّ قد لا يحمل درجة من درجات الحث أو الحض "اقدم
في خمسمائة من الجند"، فحاول أبو مسلم أن يقدم مبررات يُفهم منها أنه
يطلب المزيد، فله كارهون ومتربصون كُثر، وهو يخاف على نفسه، فرفع الخليفة العدد
لكنه رفع درجة الطلب لتكون في الحث والحض على الاستجابة وعدم تقديم مبررات أخرى
"أقبل في ألف"([54])
ويؤكد هذا الحض عدم اكتفاء الخليفة بالأمر بل تبعه بتوضيح حثه على القبول
والاستجابة "فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا يحتمل العسكر".
وخلال الموقف الخطابي المتعلق بالقلق مما يظهر من نفوذ
أي مسلم بين الناس في موسم الحج، أرسل أبو العباس للمنصور طلبا "اكتب إلى
تستأذنني في الحج"([55])
وللتعبير أنه ليس طلبا عاديا، فقد شرح الخليفة للمنصور الأمر أن أبا مسلم راغب في
الحج وأنه يعلم أنه يريد إمارة الحج وأنه يرغب أن يكون المنصور أمير على أبي مسلم
لكن دون أن يبدو ذلك قرارا مبيتا من الخليفة، وهو شرح وتبرير يدل على رغبة الخليفة
في حث المنصور وزيادة الاهتمام بهذا الطلب، لكنه لم يرتق إلى درجة التهديد أو
الدرجة العليا التي لا مفر منها.
حين تولى المنصور الخلافة وفي محاولة منه لتقليل نفوذ
أبي مسلم وسلطته ولكن دون إثارة غضبه أو الوصول لإعلان حرب أو تمرد، قرر أن يوليه
مصر والشام بدل خراسان، وهو قرار ونمط تصريحي، ونظرا لحاجة المنصور لطمأنة أبي مسلم وإخفاء رغبته الحقيقة، فقد قدم نمط التوجيه
غير الحاسم الذي فيه حث وحض لدفعه لقبول التصريح وأيضا لتخفيف وطأة التصريح
والقرار "فوجّه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين،
فإن أحبَّ لقاءَك أتيتَهُ من قريب"([56])
وهو هنا يطلب بدرجة تحمل المودة والثقة والقرب ويقدم أيضا ما يدلّ على الحث والحض
لا رغبة القطع التي لا مفر منها.
وحين أرسل أبو مسلم رسالة تعبر عن تغير نظرته للخليفة
الأول وبراءته من أفعاله مع الخليفة الأول وهو ما يعني تغير علاقته بالخلافة
وطريقة تجاوبه مع الخليفة التي لن تكون مثل السابق، حاول المنصور وهو الخليفة
وصاحب السلطة الأعلى أن يبتعد عن لغة الطلب التي لا مفر منها، ولجأ إلى الحث والحض
"لا تحمل عليّ إصر غيري، ولا تلحق ما جناه سواي بي" رغم أنه صاحب
السلطة الأعلى فقد آثر لغة أخرى غير لغة السلطة والأمر والقرارات الرسمية "إنْ
أردتَ أن أشخصَ إليك وألحقَ بخراسان فعلتْ".
كذلك في حوار المنصور مع أبي مسلم حين استمر الشكُّ
والتوجسُ وذكر أبو مسلم أمثلةً من التاريخ لبروز خلافات بين الأمراء والوزراء،
ورغم أن المنصور هو الخليفة وصاحب السلطة الأعلى؛ ما زال يريد طمأنة أبي مسلم
وتقليل هواجسه ما استطاع ذلك، فيقدم له طلبا في استفهام استنكاري "فلم
سويت نفسك بهم"([57])،
فيحاول المنصور أن يقدم طلبا في ظاهره يحمل تقريرا ضمنيا أنه لا يراه مثلهم ولا
ينبغي أن يكون مثلهم، ودعم هذا الطلب بدعاء لله تعالى "وأسأل الله أن يحول
بين الشيطان ونزغاته وبينك".
وفي تقديم الخليفة أبي جعفر المنصور عهدا لمحمد النفس
الزكية الذي أعلن تمرده، أنه سيعفو عنه وعن كل من معه إنْ أقرَّ ببيعته، وقدم له
طلبا فيه من لغة الحث والحض التي تخفف أي تهديد ووعيد "فإنْ أردتَ أن
تتوثقَ لنفسكَ فوجّه إلىّ من أحببتَ أن يأخذَ لك من الأمان والعهد والميثاق من تثقُ
به"([58])، لكن
حين اشتد الحوار والجدال ورفض النفس الزكية ما قدّمه له المنصور، قدم له طلبا
ظاهرا في سؤال استنكاري "وكيف ورثتم ولايته وولده أحياء"([59])،
وفي رغبته في تأكيد علو نسبه وشرفه وأحقيته بالخلافة وأيضا في دحض عهد الخليفة فقد
أجاب باستفهام استنكاري "فأما أمانُكَ الذي عرضتَ عليّ فأيّ الأماناتِ هو؟
أأمان بن هبيرة؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي؟ أم أمان أبي مسلم؟"([60])
وهو يستخدم الاستفهام الاستنكاري في دحض ما قدّمه له من عهد وأمن ليحثه على أن
اتباع هذه الوسيلة غير مجدٍ، ونلاحظ أن النفس الزكية الذي عبّر عن تمرده صراحة
استخدام مضامين الرفض وإشارات التمرد، لكن في أسلوب الجدال والرد على الحجج جعل
النمطَ التوجيهي الطلبيَ في إطار الرد والدحض وليس في إطار الطلب القاطع الذي لا
مفر منه.
وفي إطار رغبة المنصور دفعَ عيسى بن موسى لخلع نفسه عن
ولاية العهد، وأن يقوم بذلك بنفسه، من الطبيعي أن يلجأ إلى التوجيه في درجة أقل من
القطع الذي لا مفر منه، رغم تتابع الإشارات التي تؤكد أن المنصور عازم ولن يغير
رأيه، وهو يجمع بين وضوح القصد القاطع لكن باستخدام نمط أخف من هذا التعبير القاطع
حتى لا ينتهي الحوار فجأة ويصل إلى مدى لا يريده المنصور، ونجد تكرار نمط الحث
والحض رغم أنّه صاحب السلطة الأعلى "ويرى لكَ إذا بلغكَ من حال ابن عمك ما
ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداءُ ذلك من قِبَلَك"([61])
ويؤكد في مرة أخرى "فاقبلْ نُصح أمير المؤمنين لكَ، تصلحْ وترشدْ"([62])
صحيح أنّ الدلالة تشمل أنّه إنْ لم يقبل ذلك فليس في ذلك صلاحه ورشاده؛ لكنّه أبقى
النمطَ الظاهر حثا وحضا، ورغم أن عيسى بن موسى هو الأقل مرتبة وهو يحاول ممانعة
الخليفة في قراراه، فقد عبّر عن رغبته أن يراجع المنصور رأيه، ولم يستخدمْ درجة دُنيا
في الالتماس والطلب؛ لكنه أيضا لم يُعبّر بدرجة أكثر قطعية لا مفر منها، وهي منزلة
بين المنزلتين تُبيّن الحزنَ وتُبرز قدرا من الندية؛ لكنها لا تلجأ إلى إنهاء
الحوار والقطع واللجوء إلى وسائل أخرى من القطيعة والحرب "فاقبل العافية،
وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيتَ بقوة، وكن من الشاكرين"([63])،
لكنْ تغيرتِ الدرجةُ حين حدث أمرٌ هدّد أمنَ عيسى بن موسى الشخصي وسلطته، وأنه
بحاجة لدعم الخليفة العاجل، هنا عاد عيسى بن موسى إلى مرتبته الأدنى بشكل واضح
والتي تحمل قدرا من الالتماس وطلب العون "وقد استعنتُ بكَ على قوم لا
يعرفون الحق معرفتك، ولا يلحظون العواقب لحظك، فكن لي عليهم نصيرا، ومنهم مجيرا، يَجزكَ
الله خير جزائك عن صلة الرحم، وقطع الظلم، إن شاء الله"([64]).
ووسط حجاج طويل بين الأمين الذي يرغب في تقليل نفوذ أخيه
وولي عهده المأمون، وتقليل الأراضي التي تحت سيطرته والأموال التي يحوزها، ووسط
تمنّع الأمين ورغبته في التمسك بما أثبتَه الرشيد قبل وفاته لكن دون أن يُبدي لغة القطع
في التمرد، هنا يحاول الأمين مرات أن يستخدم أوامر الحث والحض وإن كانت تحمل
دلالات أخرى "فاثن عن همّك، أثن عن مطالبتك إن شاء الله"([65])،
أو بعد تكرار بيان الحُجج وعدم تغيير الرأي واستمرار غضب الأمين، يطلب منه أن يُبيّن
رأيه النهائي وكأنه يعطيه فرصة أخرى لقبول قرارات الأمين "فأعلمني رأيكَ
أعمل عليه إن شاء الله"([66])،
لكن يستمر المأمون أيضا في محاولة تلافي الصدام النهائي والوصول للتعبير عن الرفض
القاطع الظاهر الذي لا مفر منه على الأقل في شكل النمط والأسلوب وإن ظل المضمون
ثابتا لا يتغير، "فإنّ رأى أمير المؤمنين تولّى أمرهم"([67])،
هكذا يلجأ المأمون إلى جملة (فإن رأى) وهي صياغة ذكية رغم أنه رافض بشدة لما يريده
الأمين، لكنه يحاول تخفيف هذه الشدة ويحاول إبراز نمط الحث والحض لا القطع والحسم.
وحين قرّر الأمين عزل المأمون عن ولاية خراسان حاول أن يُتبعَ القرار الصعب طلبا
فيه حث وحض وترغيب يُخفّف وَقْعَ القرار عليه -إن استطاع- "فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط
أمل، وأفسح رجاء، وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة"([68]).
وحين قُتل الأمين وحُبست أمّه زبيدة -وهي في مكانة أم
المأمون لكنها انحازت للأمين-، أرسلت إليه الشكوى والتعبير عن الحزن والتماس العفو
"سأشكو الذى لاقيته بعد فقده"([69])،
"تذكّر أمير المؤمنين قرابتي"([70])،
"إن رأيتَ أن ترحمَ ضعفي واستكانتي، وقلّةَ حيلتي، وأن تصلَ رحمي، وتحتسبَ فيما
جعلكَ الله طالبا، وفيه راغبا، فافعل، وتذكر من لو كان حيّا لكان شفيعي إليك"([71]).
5- إمعان النظر في العملية التحليلية:
نخرج من هذا التحليل بعدة ملاحظات: أن من وظّفَ النمط
الطلبي التوجيهي في عملية الإقناع والتأثير لجأ إلى استخدام نوعين من الطلب
التوجيهي يمكن توظيفهما خلال محاولة التأثير والإقناع، نوع يحمل حثا وحضا أو
التماسا، ونوع فيه الطلب القاطع الحاسم الذي لا مفر منه، وقد كان النوع الأول هو
الأكثر استخداما وتوظيفا رغم أن كل المواقف الخطابية انطوت على رغبات وإرادات قوية
حاسمة؛ لكنّ المتحاورين لم يريدوا اللجوء بسرعة إلى ما يؤدي إلى الحسم والقطع خاصة
القطع بالرفض أو التمرد أو الحرب، وهو وعي بحساسية الموقف الخطابي والقدرات
اللغوية التي يمكن توظيفها لإحداث التأثير المطلوب.
خلال التحليل يمكن اكتشاف بعض الجمل والعبارات التوجيهية
المطلقة التي لا يُرجى منها تحقيق طلب مباشر -وإن كانت موظفة ضمنيا في سياق طلب
مباشر في الحوار السياسي-، مثل الدعاء مثلا "وأسأل الله أن يحول بين
الشيطان ونزغاته وبينك"([72])،
فهو دعاء يعبر عن تمن عام ويتم توظيفه لدعم الحالة التوجيهية الطلبية، وهناك حالة
أخرى لطلب توجيهي -وردت في موضع واحد تقريبا- يمكن أن نسميها "درجة
عادية"، لم يعقبها حثٌ أو حضٌ أو تأكيد، كما فعل الخليفة أبو العباس في طلبه
الأول "اقدم في خمسمائة من الجند"([73])،
الذي كان طلبا عاديا تحول بعد قليل من الأخذ والرد إلى الحاجة إلى تأكيد هذا الطلب
ورفع درجته بعد محاولات الاستدراك والتغيير.
6- توظيف درجات التوجيه الطلبي في التأثير والإقناع:
في إطار التوظيف كشفنا أن استخدام توجيه الحث أو
الالتماس أكثر من استخدام توجيه الحسم القاطع -الذي لا مفرّ منه-، رغم أن كل
المواقف انطوت على نيات قاطعة في صراع سياسي، لكن رغم ذلك كانت هناك محاولات
متعددة للعدول عن التعبير القاطع إلى درجات أقل رغبة في تجنب الصدام أو إحداث
تغيير وإقناع خلال الحوار دون اللجوء إلى وسائل أخرى، وظلّت محاولات التعبير
القطعي محدودة كما فعل أبو العباس مع المنصور وهدّده بالقطيعة، أو بين المنصور
وعيسى بن موسى في قضية أقل أهمية من القضية الكبرى التي يريدها المنصور، أو حين
أعلن نقفور تغيير سياسته بشكل قاطع، أو الرد القاطع
للمأمون على المحبوس، أو ثوفيل ملك الروم، وقد تبع هذه
المواقف حسما فعليا في الواقع، فقد اضطر المنصور إلى الاستجابة وانتهت فرصة
الحوار، واضطر عيسى بن موسى للتراجع وقبول تخليه عن ولاية العهد، وأقام الرشيد
حربا على نقفور حتى عاد عن موقفه، ونعلم أن نهاية
الخلاف بين الأمين والمأمون انتهت بحرب أهلية قُتل فيها الأمين.
سنجد أيضا تعبيرات ذكية تُوَظّف قدرات لغوية في عملية
التلاعب بدرجة التوجيه والطلب، فهناك استخدام للاستفهام أو الشرط أو بعض العبارات
التي تؤثر على الأسلوب المستخدم، فقد استخدم الشرط في بناء تهديد معلق، أو تهديد
ملغى، كما استخدم الاستفهام الاستنكاري مثل "فلم سوّيت نفسك بهم"([74])،
"وكيف ورثتم ولايته وولده أحياء"([75])،
"فأما أمانُكَ الذي عرضتَ عليّ فأي الأمانات هو؟ أأمان ابن هبيرة؟ أم أمان
عمك عبد الله بن علي؟ أم أمان أبي مسلم؟"([76])،
"فكيف تفخر علينا؟"([77])
في إطار توجيه الطلب إلى استنكار موقف قد يكون بغرض الطمأنة
والتودد كما في حالة المنصور تجاه أبي مسلم، أو في إطار التمرد كما في حالة النفس
الزكية تجاه المنصور، وهي كلها تحمل دلالات ضمنية للحث على تغيير الرأي أو التخلي
عن المضامين التي لم تعد مجدية أو مناسبة للحوار.
عن
العدول من منزلة عليا لأدنى أو من أدنى لأعلى:
لفهم أعمق لتوظيف النمط التوجيهي ودرجاته في التأثير
والإقناع، يجب أن نلتفت إلى سلطة المتحدثين وشعورهم بالمرتبة والسلطة هل هي مرتبة
عليا أو دنيا، هذا بجانب انتباهنا السابق إلى الدرجة وإلى السياق الذي يدل على
الدرجة، وبالنظر إلى تقاطع الدرجات مع منزلة المتحدثين سنجد صورة أخرى للتوظيف، قد
تدفع صاحب مرتبة أعلى في سلطته ومنزلته إلى تخفيض مرتبة الطلب لتبدو أقل رتبة، وقد
نجد صاحب مرتبة أدنى يرتفع بلغته لتكون في مرتبة عليا، وهي كلها حالات عدول تعبر
عن محاولات متعددة لتوظيف النمط التوجيهي في عملية التأثير والإقناع.
لا
شك أن لغة الالتماس من أدنى تحمل قدرا من التودد للآخر، والرغبة في إرضائه، وتمني
تلبية طلبه، ومحاولة تقديم دعم للطلب بلغة ليس فيها استعلاء؛ بل تودد، أما لغة
الحث من أعلى يبدو فيها رغبة من سلطة عليا -أو من يشعر بأن له سلطة عليا- تخفيفَ
حدة القطع والحسم، وتكثيفَ بيانِ شدةِ رغبته في هذا الفعل -دون الوصول في الأسلوب
إلى الحد القاطع-. لكن ما الذي يدفع صاحب سلطة عليا أن يعدل إلى أسلوب التماس أدنى،
أو صاحب منزلة أدنى أن يلجأ إلى أسلوب أعلى؟
يبدو
الأمر الثاني مفهوما في إطار الصراع أو التمرد والنزاع، فالذي يتمرد ويعلن نفسه
حاكما أو خليفة يريد أن يتحدث بلغة الأعلى -وإن لم يتمكن منها بعد- مثل حديث النفس
الزكية أو نقفور ملك الروم، لكن بخصوص النوع الأول: ما
الذي يدفع صاحب سلطة عليا أن ينزل لالتماس يبدو من لغة أدنى؟
تعطينا
الرسائل إجابات متنوعة فقد يكون
التأثير المطلوب محاولة بث الطمأنينة أو الخداع حتى يحد من النفوذ ويتمكن منه. كما
أن قرار ولي عهد الخليفة أن يتخلى عن ولاية العهد، أمر عظيم وصعب ويحتاج وقتا من
الحث والإلحاح، وحين يمانع المأمون -والي خراسان وولي العهد- الخليفة في قرارات
مهمة فإنه يحتاج أحيانا إلى لغة الالتماس أحيانا أو الحث والحض، وتعطينا الإشارات
المتعددة هنا إلى حاجة صاحب سلطة عليا في أحيان كثيرة خلال الصراع السياسي إلى
الصبر واستخدام لغة فيها تودد وحث وحض -حتى لو كان يريد تنفيذ أمر قاطع-، لكنه لا
يلجأ للأمر القاطع الحاسم الذي لا مفرّ منه من أجل تحقيق غايات خطابية متعلقة
بعملية التأثير والإقناع، قد تكون تلك الغايات مثل بثّ الطمأنينة والتخفيف من وطأة
قرار صعب والتهيئة والخداع والتبرير وغير ذلك.
ما الذي يعنيه ذلك؟
يعني أنّ البقاء خلف الوصف العام لأي نمط من أنماط أفعال
الكلام ليس كافيا لكشف كل آليات التأثير والإقناع، فاستخدام كل نمط يحمل داخله
تنوعا في عملية التوظيف، فداخل الموقف الخطابي الواحد ومع كل حوار أو رسالة، قد
تنوع آليات التأثير للنمط التوجيهي أو لأي نمط آخر من أنماط أفعال الكلام، وهو ما
يدفعنا إلى البحث عن نماذج تحليلية تمكننا من تحليل أكثر سعة لأي نمط من أنماط
أفعال الكلام.
7- خلاصات ختامية وتطوير النموذج التحليلي للنمط التوجيهي:
بالتأمل في تحليل الأنماط الخمسة على المراسلات السياسية
في بحثنا يظهر أن الصراع السياسي يدور حول غايات يُراد تحقيقها وهي تدور حول النمط
التوجيهي الطلبي من حيث الأصل، لكن حالة الحوار وآليات التأثير والإقناع توظّف
النمط التقريري والنمط الالتزامي لدعم الغاية التوجيهية
الأساسية، كما أن التعبير بالنمط التوجيهي يأخذ عدة أشكال ودرجات في التعبير، ويتم
توظيف درجات هذا الطلب بشكل مباشر وغير مباشر لإنجاح عملية التأثير أو الإقناع أو
الإخضاع.
أقرّ أوستن وسيرل أنّ أنماط
أفعال الكلام يمكن أن تكون صريحة أو غير صريحة، وهو ما بدا جليا خلال تحليلنا
للرسائل، لكن درجة التداخل بين الصريح وغير الصريح أو المباشر وغير المباشر، ودرجة
توظيف كل نمط وتداخله مع أنماط أخرى أو مع محاولات خداع أو تلاعب، مما يخلق صعوبة
أحيانا في رسم حد فاصل بين الصريح وغير الصريح لكل نمط من الأنماط، بل أحيانا يمكن
لتعبيرات بشكل غير حاسم أن تُفهم أو تُحلل بأكثر من نمط وفق تقدير الباحث أو
المحلل.
8- تطوير
نموذج لتحليل النمط التوجيهي:
قدمنا تحليلا يكشف توظيف النمط التوجيهي Directive في عملية التأثير والإقناع، خاصة في بيان درجات
التوجيه الذي قد يكون طلبا قطعيا حاسما لا مفر منه، وقد ينطوي على التماس من أدنى
لأعلى أو حث وحض من أعلى لأدنى، وأعطانا التحليل صورة عامة وثرية لعملية
توظيف النمط التوجيهي في التأثير والإقناع وتمييزه عن الأنماط الأخرى، ولأن
الغايات التوجيهية الطلبية هي جوهر الخطاب والصراع السياسي الذي يدور حول تنازع
الإرادات التي تريد حمل الآخرين على فعل شيء ما أو قبوله او الإذعان له، فإننا
بحاجة إلى تحقيق استفادة مثلى من تحليل النمط التوجيهي وتوظيفه في التأثير
والإقناع خلال الخطاب السياسي، من هنا نحتاج أن نجمع بين درجات الطلب ومنزلة
المتحدثين ونقدم اقتراحا يساعد في عملية التحليل، مستفيدين من الملاحظات التحليلية
السابقة.
بخصوص
درجات الطلب فقد بدأنا الاستكشاف بدرجتين: درجة الطلب القاطع الذي لا مفر منه،
والدرجة التي تحمل قدرا من الحث أو الالتماس، وقد رأينا خلال التحليل تأثير منزلة
المتحدثين ودرجة سلطتهم أو شعورهم بهذه السلطة، ويحتاج نموذجنا أن يجمع بين
المعيارين.
كذلك
كشفنا عن حالات العدول من أعلى لأدني أو من أدنى لأعلى، كما ظهرت عندنا إشارات
تتعلق بطلب فيه تمنٍ مطلقٍ لا يُتوقعُ معه استجابةٌ مباشرة، كما ظهر استخدامٌ لما
أطلقنا عليه (الطلب العاديّ) الذي لم يعضده ما يدل على الحث أو الالتماس، ومن هنا
يبرز مقياسٌ من المهم الالتفات له في عملية التحليل وتأثر درجة الطلب في الخطاب،
يبدأ المقياس بالتمني ثم الالتماس ثم يصل إلى الحث والحض وصولا إلى القطع الذي لا
مفر منه، ويشمل أيضا (الطلب العاديَّ) الذي لا يصاحبه تأكيدا سياقيا
على درجة الالتماس أو الحث.
بقي
أن نضيف إضافة مهمة تتعلق بـ(الطلب العاديّ)، صحيح أنه لم يرد إلا مرة واحدة لكن
الغرض من تقديم هذا النموذج المقترح أن يكون ملائما للتطبيق في نماذج أخرى متعددة
من الخطابات عموما أو السياسية خصوصا، ما لاحظناه من (الطلب العادي) يتعلق
بالأسلوب والنمط لا المعنى والتوظيف، بمعنى أن الأسلوب عاديٌّ لم يحمل معه دلالات
الالتماس من أدنى أو الحض من أعلى أو الأمر القاطع، ومع النظر لاختلاف منازل
المتحدثين فحسب كل منزلة بالتأكيد خلال ممارسته الكثيفة اليومية للغة هناك الكثير
من الاستخدامات الطلبية العادية التي لا يحتاج المتحدث فيها إلى تأكيد أو التماس
أو حض أو بيان للقطع، سواء كان المتحدث ذا سلطة عليا أو دنيا، وسواء كان الحوار
اجتماعيا أو تجاريا أو سياسيا أو دينيا، وهنا تأتي دلالات السياق لتُبقيَ (العاديَّ)
عاديا أو تنقله من (العادي) إلى درجة أخرى، صحيح أن (عاديّ) صاحب السلطة العليا
يختلف عن (عاديّ) من تقع عليه السلطة، لكن ذلك يفتح آفاقا متعددة للتحليل
والتمييز، واستغلال حالات العدول لتكون جزءا من آليات التأثير والإقناع، أو
التواصل والتعبير لتحقيق غايات أخرى، وحتى خلال الحوارات اليومية لا يحتاج الناس
في كثير من الأمور للتأكيد على درجة الفعل العادي، لكن وسط غايات معينة أو تغير
منحى الحوار أو طبيعة السياق خاصة الصراع السياسي، فإننا سنحتاج دلائل وقرائن
وإشارات تميز العادي عن غيره، وبهذا تفسح لنا آفاق البحث والنظر في البحث حول
انتقال درجات التعبير الطلبية ليس بحسب منزلة المتحدثين فقط ولن بحسب الحالة التي
يريدها من التأثير والإقناع داخل الحوار أو الموقف الخطابي.
بعد
هذه النقاشات التحليلية يقترح الباحث نموذجا للاستفادة المثلى من تحليل النمط
التوجيهي وتوظيفه في الحوارات السياسية، يراعي درجة الطلب ومنزلة المتحدثين:
يراعي
هذا النموذج اختلاف المنزلة بين المتحدثين وما له من تأثير، ودرجات الطلب، ويسمح
بالكشف عن توظيف درجات وعمليات العدول في المنزلة أو في الدرجة، ولو طبقنا هذا
النموذج على ما قمنا به من تحليل سنكتشف حالة الثراء في استخدام النمط التوجيهي
لتوظيفه في عملية التأثير والإقناع:
يمثل الكشف عن الغايات الطلبية التوجيهية أهمية كبيرة في
تحليل الخطابات السياسية، سواء كانت غايات عليا تتعلق بالموقف السياسي ومقاصده، أو
غايات فرعية داخل الخطاب لدعم الغاية السياسية أو التمكين لها أو مواجهة غاية
وإرادات أخرى، ولا يمكن تحليل خطاب سياسي دون الكشف عن غاياته الطلبية التي يتم
توجيهها للأنصار أو الخصوم أو غيرهم، ورغم أن الغايات السياسية خاصة في حالات
الصراع وتنازع الشرعية تتسم بسمات تحمل قدرا من القوة والصلابة خلف هذه الغايات،
فالخطاب السياسي في كثير من سماته لا يكون دائما صريحا مباشرا، ليس في التعبير عن
المضامين والرسائل فقط، ولكن في التعبير عن مضمون الغايات ودرجتها، كما أن سمة
الخداع والتلاعب التي ترافق الحوارات السياسية تجعل النظر للنمط التوجيهي يكتسب
قدرا أكثر أهمية في التحليل، فلأي درجة يكون التوجيه أو الطلب أو الحث جزءا من
حالة تلاعب أو خداع؟ أو لأي درجة يكون التوجيه مرحليا يراد منه تحقيق غاية أخرى
أكبر؟ ويصبح النظر في النمط التوجيهي سواء كان مباشرا أو غير مباشر طريقا مهما ومفتاحيا لتحليل الخطاب السياسي كله والكشف عن سماته وآثاره
ومقاصده وحالات التلاعب أو الخداع فيه.
المصادر والمراجع
الأفعال اللغوية بحث في فلسفة اللغة، جون سيرل، ترجمة أميرة غنيم، دار سيناترا المركز الوطني للترجمة،
تونس، ٢٠١٥م.
الأنساق العميقة للتأويلية العربية، محمد بازي، كنوز المعرفة، عمان، ٢٠١٥م.
التداولية أصولها واتجاهاتها، جواد ختام،
كنوز المعرفة، عمّان الأردن، ٢٠١٦م.
التداولية، جورج يول، ترجمة قصي العتابي، الدار
العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ٢٠١٠م.
التداولية اليوم علم جديد في التواصل، جاك موشلار وآن روبول، ترجمة سيف الدين
دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،
٢٠٠٣م.
التفكير اللساني في الحضارة العربية، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، طرابلس، ١٩٨٦م.
الخطاب والتغير الاجتماعي، نورمان فيركلف، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٥م.
الخطاب والسلطة، توين فان دايك،
ترجمة غيداء العلي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٤م.
الرسائل السياسية في العصر العباسي الأول، حسين بيوض،
منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٦م.
العقل واللغة والمجتمع الفلسفة في العالم الواقعي، جون سيرل، ترجمة صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١١م.
اللغة والسلطة، نورمان فيركلف، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٦م.
اللغة والتفسير والتواصل، مصطفى ناصف،
سلسلة عالم المعرفة/١٩٣، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير ١٩٩٥م.
المصطلحات المفاتيح في اللسانيات، ماري نوال وغاري
بريور، ترجمة عبد القادر فهيم الشيباني، الجزائر، ٢٠٠٧م.
تحليل الخطاب، ج ب براون وجورج يول، ترجمة محمد
لطفي ومنير التريكي، النشر العلمي والمطابع جامعة الملك سعود، الرياض، ١٩٩٧م.
تحليل الخطاب النظرية والمنهج، ماريان يورغنسن ولويز فيليبس، ترجمة شوقي بو عناني، هيئة البحرين
للثقافة والآثار، المنامة، ٢٠١٩م.
تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، أنيس
المقدسي، سرخيس برس، بيروت، ١٩٣٣م.
جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي
صفوت، ج3، المكتبة العلمية، بيروت، ١٩٣٧م.
في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، طه عبد
الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، ٢٠٠٠م.
في اللسانيات والنقد أوراق بينية، سعد عبد
العزيز مصلوح، عالم الكتب، القاهرة، ٢٠١٧م.
معجم اللغويات الاجتماعية، جون سوان
وآخرون، مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ترجمة
فواز محمد الراشد وعبد الرحمن حسني، الرياض، ٢٠١٩م.
نظرية أفعال الكلام العامة كيف ننجز الأشياء بالكلام،
جون أوستن، ترجمة عبد القادر قينيني، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ١٩٩١م.