المقاربة البنيوية في قصيدة المواكب للشاعر جبران خليل جبران

 

فاطمة الزهراء العسالي

باحثة دكتوراه بجامعة محمد الخامس، المغرب

البريد الإلكتروني: fatimaezzahraeelassali@gmail.com

معرف (أوركيد): 0009-0005-5554-0092

بحث أصيل

الاستلام: 31-7-2023

القبول: 10-10-2023

النشر: 31-10-2023

 

 

 

 

 

 

الملخص:

تروم هذه الدراسة استثمار مستويات التحليل البنيوي (البنية الصوتية، والمعجمية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، والقولية، ثم الرمزية)؛ في تحليل قصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران؛ هذه المستويات التي غالبا ما يتم إغفال أحدها أو بعضها في جل الدراسات الأدبية واللغوية التي اطلعنا عليها، إما لصعوبتها أو لعدم الوعي بها، وتحمل قصيدة "المواكب" معنيين اثنين: المعنى الأول مباشر واضح الدلالة، والثاني غير مباشر؛ لا يمكن الوصول إليه إلا بتضافر مستويات التحليل البنيوي، لإبراز دلالته الخفية وإيحاءاته الجمالية من خلال مستويات التحليل البنيوي المذكورة وعلاقاتها المتبادلة فيما بينها التي تنتج بنية أدبية متكاملة، تبرز جماليات النص الشعري من داخله عبر شبكة من العلاقات اللغوية، التي تنشأ بين كلماته وتنظم بنيته للكشف عن قصدية الشاعر الفلسفية، التي تختبئ خلف سطحها اللغوي المختزل لأقوال، وأصوات، ورموز دلالية تشير إلى الصراع الحاصل في نفس الشاعر.

الكلمات المفتاحية:

 المنهج البنيوي، القصيدة الشعرية، مستويات التحليل البنيوي، اللغة، الدلالة الكلية.

 

للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation فاطمة الزهراء، العسالي (2023). المقاربة البنيوية في قصيدة "المواكب" للشاعر جبران خليل جبران. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع8، 321- 367 https://www.daadjournal.com/ /

 

The structural approach in the poem "El mawakib" of the poet Gibran Khalil Gibran

 

Fatima-Ezzahraa Elassali

PHD Student at Mohammed V University, Morocco

E-Mail: fatimaezzahraeelassali@gmail.com

Orcid: 0009-0005-5554-0092

 

Published: 31.10.2023

Accepted: 10.10.2023

Received: 31.07.2023

Research Article

 

Abstract:

This study aims at investing structural analysis levels in "almawakib" of Jibran Khalil Jibran. Some of these levels have often been omiited in the majority of the literary studies found. May be because of the difficulty or lack of awareness. Especially in poem rather than prose.  In this regard. This study analyses the semantic structure of "almawakib" which contains two meanings . The first of these is direct and semantically clear. The second is indirect. It can be reached only through concerting structural analysis levels. In order to show its hidden significance and aesthetics connotations starting with: phonological structure, lexical, morphological, grammatical,semantic, anecdotal, and symbolic ones. And their interrelation among them which produces a complete literary structure showing the beauty of the poem from inside through a network of linguistic relationships. Which arise between its words. and arrange its structure to reveal the poet's philosophical intention which hides behind its linguistic surface reduced to quotes, sounds, symbolic representations which indicate the conflict btween reality and nature..

Keywords:

 Structural approach, Language, The poetic poem, Structural analysis levels, Total significance.

 

 

مقدمة:

يعد المنهج البنيوي من أوائل المناهج المعاصرة التي ساهمت في تحليل النصوص الأدبية، فقد كانت إسهاماتها أبرز وأعمق من المناهج النقدية الأخرى؛ لأنها قدمت تطبيقات مقنعة لما وصلت إليه على مستوى التنظير، استطاعت بذلك أن تصوغ مبادئها ومفاهيمها في منظومة محكمة ذات بناء داخلي متكامل.

 فالبنيوية تَعْتَبِرُ النص الأدبي بنية لغوية متعالقة؛ فتحليل الأعمال الأدبية يرتبط بعنصر المحايثة؛ أي دراسة النسق اللغوي في ذاته، وبمعزل عن التاريخ والمجتمع، وإدراك علائق النص الداخلية ودرجة ترابطها والعناصر المنهجية فيها وتركيبها بهذا النمط، الذي تؤدي به وظائفها الجمالية المتعددة.

ومن هنا سنجد أن العنصر الجوهري في العمل الأدبي هو: الذي لا يرتبط بالمؤلف أو سياقه النفسي، ولا بالمجتمع وسياقاته الخارجية ولا بالتاريخ وصيرورته؛ وهو ما سنحاول استخلاصه من تحليلنا لقصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران؛ حيث سنعمد على استخراج مكامنها وفق مستويات التحليل البنيوي، التي تعد " بمثابة معالم عريضة للدخول إلى عالم النص الأدبي بهدف استجلاء مكامنه الجمالية وستائره الخفية، وقد أجاد البنيويون العرب استنباط هذه المستويات من مختلف المقاربات البنيوية، حين عدّوها بهذه الكيفية وهذا التركيب ابتداء من الحرف انتهاء بالتراكيب الكبرى، التي يشغلها ملفوظ القول، وما يكتنزه نسيج ذلك الملفوظ من إيحاءات وإيماءات تجعل النص الأدبي ذا لغتين :

-  اللغة الأولى؛ هي اللغة التي كتب بها النص.

-  اللغة الثانية؛ هي اللغة التي تختفي خلف النص أو هي ميتافيزيقا النص"([1]).

والقارئ البنيوي هو الذي يجعل هذه المستويات مفيدة أو غير مفيدة، فاستخدامها يبقى رهينا بثقافته الموسوعية تنخر من: علوم الصوت، والصرف، والنحو، والدلالة، والسيميائيات، والتأويليات... وما إلى ذلك من العلوم الأخرى.

لقد ارتكز البحث على منهج لغوي لساني تطبيقي لكل هذه العلوم اللغوية؛ هو المنهج البنيوي في تحليل عناصر النص الشعري الرومانسي "المواكب"، بالتركيز على البنية اللغوية للنص، والتي تكمن في دراسة الحروف، والكلمات، والجمل، والرموز، والصور، والموسيقى وغيرها، وإبراز نسيج العلاقات اللغوية بينها، وما تشير إليه من دلالات وإيحاءات لغوية خفية، تتضمنها بنيات النص الشعرية الرومانسية، كما استعان البحث بالمنهج الوصفي التفسيري التحليلي في تحليل رؤية الشاعر للواقع والغاب وتفسيرها.

فالبحث يهدف إلى توضيح الآليات والمبادئ الأساسية، التي تقوم عليها مستويات التحليل البنيوي للشعر الرومانسي، والذي ينطلق من تحديد بنية نظم القصيدة وتوزيعه، وصولا إلى المعنى المخفي في النص الشعري، علاوة على هدفه الأعم هو إغناء الدراسات اللغوية بتقديم دراسة بنيوية لسانية تتعلق بالشعر الرومانسي الطبيعي.

وجديد هذا البحث هو استثمار مستويات التحليل البنيوي في تحليل النص الشعري الرومانسي، والتي غالبا ما يتم إغفال أحدها دون الأخرى في جل الدراسات الأدبية واللغوية التي اطلعنا عليها، إما لصعوبتها أو عدم الوعي بها، خاصة منها في الشعر دون النثر.

وتكشف لنا القراءة الأولية لمقاطع هذه القصيدة على مستوى الدلالة المباشرة؛ أن الشاعر جبران خليل جبران يتوجه في قصيدته إلى الطبيعة لأن فيها العالم المثالي والسعادة المطلقة.

أما كلمة المواكب فهي تعني معتقدات الناس، ومقاييسهم الخاطئة (الناس يمشون وراء الإنسان القوي وهذا هو الموكب) حسب رأي الشاعر.

تتألف القصيدة من ثمانية عشر مقطعا، والمقاطع السبعة عشر الأولى متشابهة في بنائها، أما المقطع الثامن عشر فيختلف كليا في تركيبه عنها.

وبالنسبة إلى مبنى المقاطع السبعة عشر الأولى فيتألف من التركيب التالي:

1.    الموضوع كما هو في الواقع أو كما يتصوره الشاعر (صوت الواقع).

2.    الموضوع حسب رأي الشاعر أو الوضع المثالي لهذا الموضوع (صوت الغاب).

3.    صوت الناي وهو التأكيد لصوت الغاب (أي لرأي الشاعر).

سنركز اهتمامنا في تحليلنا البنيوي لقصيدة الشاعر جبران خليل جبران " المواكب" على البنية الكلية لموضوع القصيدة؛ ذلك أن أبيات القصيدة بنيت على ثنائيات ضدية، تتحاور فيما بينها من خلال ثلاثة أجزاء أو أصوات ضمن كل مقطع من مقاطع القصيدة.

فالمقطع الأول تناول رؤية الشاعر للناس الذين لا يصنعون الخير إلا إذا جبروا عليه، أما الشر فهو متأصل فيهم، كما أنهم ضعفاء أمام الدهر الذي يلعب بهم؛ فهم عبارة عن قطعان تتبع الراعي القوي...

لينتقل في المقطع الثاني للحديث عن سر الحياة، إنها نوم طويل تراوده الأحلام... فالنفس الإنسانية تحقـق مـا فقدتـه فـي واقعهـا، أو ما تمنتـه مـن أمنيات في أحلامها، لكنها نفس حزينة متألمة، وأن الحـزن هـو الـذي يسـتر ســر الــنفس الإنســانية، فــإذا انــزاح ذلــك الحــزن اســتتر مــرة أخرى بنقيضـه الفـرح، وهـذه ثنائيـة معروفـة فـي الحيـاة، إذ لا قيمـة للألـم بـلا أفـراح التي تتعانق في صوت الغاب أو الطبيعة النقية، حيث لا يوجد حزن ولا هموم ولا مِحن ولا سموم.

في المقطع الثالث يوضح أن رضى الناس بحياتهم الواقعية قليل، لذلك يحوّلون نهر الحياة إلى كؤوس وهم وخمرة تتغلغل في عروق الذات الإنسانية، فتحس بالراحة الوهمية يحركها الدهر...، ليعلن في الجزء الثاني عن انتفــاء الســكر والمــدام والخيــال فــي الغاب، وإن سواقيها غنية بإكسير الغمام وأن التخدير أو الهروب مـن الواقـع مرحلي وليس هدف.

يرى في المقطع الرابع أن الدين عند الناس حقل أجرد، لا يزرعه إلا أصحاب الغايات والمنافع الذين لابد مـن أن يجنـوا مـن وراء زرعـه؛ أي أنـه وسـيلة لا غايـة، فمـنهم مـن يأمـل بالجنـة مـن وراء تَدَيُّنـه، ومنهم من يخاف من النار، ومنهم من يخاف من عقاب البعث، فالدين على هذا الأساس عند جبران خليل جبران تجارة قائمة على الربح والخسارة، ويتبرأ من هذا المفهوم الديني في الجزء الخاص بصوت الغاب، البريء منه كبراءته من الكفر القبيح، مؤكدا على أن الأرض احتوت دينين قائمين فيهما هما الإسلام والمسيحية.

ينتقل في المقطع الخامس للحديث عن العدل المزيف عند الناس، الذي يعد مصـدر بكـاء ومأسـاة لـلأرواح والجـن إذا سـمعوا بـه، وإذا نظـر إليه الأموات سخروا منه أي أنه دلالة بلا معنى...، يذوب كالثلج كلما برزت الشمس إلى سماء الوجود (الحقيقة)....

إن إيمان جبران خليل جبران بالعدالة القائمة على الحرية، جعله يربط العدل وحب الإنسان بالحق وارتباطه بعزم الإنسان في المقطع السادس، وبالعلم والحلم وأبعاد الجهل في المقطع السابع، والحرية غير الحرة المقيّدة، التي يبقى فيها الإنسان عبدا لأفكاره في المقطع الثامن، وباللطف المقترن بالجبن والنذالة في المقطع التاسع، وبالظرف والتواضع الذي يراه تمويها في الناس في المقطع العاشر.

يصور الشاعر موقفه من الحب والهوى والعشق والهيام والجنون في المقطع الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ ذلك أن أسمى معاني الحب وأروع صـفات العشـق والغـرام، تتجلـى فـي روحانيـة الحـب وليس جسديته، في حين يركز المقطع الرابع عشـر عـن مفهـوم السـعادة فـي حيـاة الإنسان.

يخصص جبران خليل جبران المقطع السادس عشر والسابع عشر لتوضيح رؤيته الفلسفية لمفهوم الروح والموت، ساخرا من أولئــك الــذين يعتقــدون أن "الــروح" مرحلــة زمنيــة فــي علاقاتهــا الحميمــة "بالجســم"، وأن الــروح ســرعان مــا تمــوت إذا انتهــى أمــد الجســد، وتلاشت صورته من الوجود البشري، ذلك أن الموت خاتمـة "الحيـاة" أو نهايـة وجـود ابـن الأرض، فـــالموت فنـــاء وعدميـــة ابـــن الأرض ولكنه للإنسان الأثيري بدء لحياة روحية أخرى في عالم ٍثانٍ جديـد، المـوت فيه ظفر.

يختم جبران مواكبه بمقطعه الثامن عشر وهو يختلف عن المقاطع السابعة عشر في تركيبها، بحيث تبدأ مباشرة بالجزء الثاني صوت الغاب يخاطب الجزء الأول، وهو الصوت الأول المعبر عن ثورة جبران ضد ثنائيات الحياة الضدية وتناقضاتها، متخذا من الغاب منزلا له، وملجأ مصححا لهذه التناقضات الاجتماعية والنفسية في الحياة الإنسانية بين الخير والشر، الحزن والفرح، الرضا والضجر، الجنة والنار، القوي والضعيف، العلم والجهل، الحر والأسير، الروح والجسم، الخاتمة والبدء وغيرها من الثنائيات المتناقضة.

هذه الثنائيات التي تتلاشى في الغاب أو الطبيعة حيث الوضع الأمثل؛ فهناك كل شيء متساوِ فلا يوجد راع ولا قطيع، ولا قائد عدل، ولا عقاب في السر ...أما صوت الناي في كل المقاطع يؤكد فكرة صوت الغاب ورأي الشاعر ... فهو الذي حَفظ العقول، وعدّل القلوب. وهو الصوت الذي سيبقى بعد زوال العزيز والحقير، الثواب والعقاب، القوي والضعيف...

أوضحت لنا القراءة الأولية للغة القصيدة ما تحتويه من دلالات مباشرة، تُفصح عنها للقارئ وتظهرها له، لجذبه واستمالته للبحث عن عمق وجوهر القصيدة، في حين تركز القراءة الباطنية عنما تخفيه وتضمره لغة القصيدة من إيحاءات، لا يمكن الكشف عنها إلا بتفكيك البنية التركيبية للقصيدة لإظهار ما تخفيه من دلالات غير مباشرة؛ يسعى التحليل البنيوي للكشف عنها وتوضيحها؛ وينطلق هذا التحليل من:

1.      المستوى الصوتي:

يعد المستوى الصوتي من أهم المستويات في مقاربة الجانب اللغوي لأي نص أدبي، خاصة الشعري منه؛ ذلك أن النظام الصوتي يتعلق بطبيعة الأصوات ومخارجها، وصفاتها وتداخلها، "ورمزيتها وتكويناتها الموسيقية ويتم معرفته من خلال الصوتيات" ([2]) وما تحققه من جمالية داخلية للنص الأدبي.

وتكشف لنا القراءة الأولية لهذه القصيدة على المستوى الصوتي " أنها حوار فلسفي، ذو صوتين: صوت الشيخ المجرب، الحكيم، الذي يمثل الحكمة الناضجة المستمدة من تجربة السنين والحياة... وصوت الشاب الذي يرمز إلى الطبيعة بعفويتها" ([3])، فالمواكب إذن تتكون من صوتين متجاورين يليهما "نغم الناي الذي يبدو قرارا أو نداءا " ([4]) يدعوا الناس للعودة إلى الطبيعة.

يتمثل التركيب الصوتي للقصيدة في عدة عناصر منها:

1.1.       البنية الإيقاعية الخارجية:

الإيقاع وسيلة موسيقية تعبيرية، يعتمدها الشاعر بغية إيصال تجربته وحالته النفسية؛ وذلك من خلال الأصوات والحركات، وقد لجأ جبران خليل جبران إلى مثل هذا التعبير من خلال عناصره التي تتمثل في الوزن والقافية.

1.1.1.   الوزن:

يعتبر الوزن من أبرز الخصائص الصوتية في القصيدة؛ ذلك أنه يحقق الموسيقى التي لها الأثر البالغ في سحر قلب المستمع للشعر، وبالتالي فإننا نجد جبران قد اعتمد في بناء قصيدته على تفعيلات بحرين اثنين، ولعل اختياره لبحرين مختلفين في مواكبه قد يكون أوقع تعبيرا عن اتجاهين مختلفين للحياة، فاتخذ الاتجاه الأول بحر البسيط، وجعل الثاني مجزوء الرمل.

يقول الشاعر:  

الخــير فـي الناس مصنوع إذا جبروا **** والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا ([5])

/0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0 **** /0/0//0 /0//0 /0/0//0 ///0

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن**** مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

سالمة سالمة سالمة مخبونة      **** سالمة سالمة   سالمة   مخبونة

وقاتل الجسم مقتول بفعلته **** وقاتل الروح لا تدري به البشر([6])

//0//0 /0//0 /0/0//0 ///0 **** //0//0 /0//0 /0/0//0 ///0

مفاعلن فاعلن مستفعلن فعلن **** مفاعلن فاعلن مستفعلن فعلن

مخبونة سالمة سالمة مخبونة **** مخبونة سالمة سالمة مخبونة

وزنت هذه الأبيات على وزن البحر البسيط، وهو من البحور المركبة ذات التفعيلات (مستفعلن، فاعلن، مستفعلن، فاعلن)، ونلاحظ على مستوى هذا التقطيع أن التفعيلات الأساسية قد طرأت عليها بعض التغييرات: كالخبن وهو حذف الثاني الساكن لتصبح تفعيلة (مستفعلن = متفعلن)، وتنقل إلى (مفاعلن)، وتصير تفعيلة (فاعلن= فعلن).

والبحر البسيط يمتاز بدقة إيقاعه وجزالة موسيقاه، ويعتبره العَروضيون من البحور الطويلة، التي يعمد إليه الشعراء في الغالب حين يتطرقون للمواضيع الجادة، كمواضيع هذه القصيدة في صوتها الأول.

فيحدثنا جبران عن (الخير، والشر، والقتل، والعدل ...) كل هذه المواضيع جدية ومهمة للإنسان، إن لم نقل هي الحياة كلها بالنسبة له، وتحتاج إلى رصانة وعمق في التعبير عنها، والشاعر في حالةِ يأسٍ وجزعٍ يتخير عادة وزنا طويلا، كثير المقاطع يصب فيه من أشجانه ما يُنَفس عن حزنه وجزعه.

وقد نظم الشاعر الصوت الثاني في قصيدته على مجزوء الرمل:

يقول جبران خليل جبران:   

خلق الناس عبيدا **** للذي يأبى الخضوع([7])

///0/0 ///0/0 **** /0//0/0 /0//0/0

فعلاتن فعلاتن **** فاعلاتن فاعلاتن

فإذا ما هب يوما **** سائرا سار الجميع([8])

///0/0 /0//0/0 **** /0//0/0 /0//0/0

فعلاتن فاعلاتن **** فاعلاتن فاعلاتن

ويقول أيضا:                   

ليس في الغابات عدل **** لا ولا فيها العقاب([9])

/0//0/0 /0//0/0 **** /0//0/0 /0//00

فاعلاتن فاعلاتن **** فاعلاتن فاعلان

فإذا الصفصاف ألقى **** ظله فوق التراب([10])

///0/0 /0//0/0 **** /0//0/0/0 //00

فعلاتن فاعلاتن **** فاعلاتن فاعلان

وردت تفعيلة (فاعلاتن) مخبونة (فعلاتن)، ويجوز الخبن (فاعلان) فتصير (فعلان) هذا بالنسبة إلى الزحاف، أما بالنسبة إلى العلة فقد وردت علة القصر؛ وهي حذف ساكن السبب الخفيف من آخر التفعيلة وإسكان متحركه، وقد طرأ على التفعيلة (فاعلاتن) فصارت (فاعلات)، ثم نقلت إلى تفعيلة مستعملة هي (فاعلان).

يتضح لنا أن الشاعر نظم أفكاره وآرائه حول الطبيعة على مجزوء الرمل، الذي فيه شيء من السرعة والخفة وقصر الأبيات، يؤدي إلى توالي النغمات وتكرارها بسرعة، ما يضفي عليها إيقاعا جميلا عاليا، استعدادا للتغني بمزايا الطبيعة ومحاسنها، أليس يطلب الناي في كل مرة؟ ويدعو المتلقي للغناء طربا بالطبيعة؟

2.1.1.   القافية:

أولى الشعراء العرب اهتمامهم بالقافية على مر العصور، بحيث تعد عنصرا أساسيا من عناصر البناء الإيقاعي؛ ذلك أنها تقوم على الربط بين أبيات القصيدة، كما أنها تمثل نسقا من الأصوات تتكرر في نهاية الأبيات الشعرية، بحيث تشمل " الحرف الذي يلزمه الشاعر في آخر كل بيت حتى يفرغ من شعره...وإنما سمى الحرف قافية لأنه يقفو ما تقدمه من الحروف "([11]).

كما حددها الخليل في أنها من " آخر البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبله الساكن"([12])، وقد تعددت أنواع القوافي في مقاطع القصيدة بين:

-       القافية المردوفة: والردف هو "حرف مد يكون قبل الروي، سواء أكان هذا الروي ساكنا أو متحركا، وحروف المد ثلاثة هي: الألف، الواو، الياء؛ وسمي ردفا لأنه ملحق في التزامه وتحمل مراعاته بالروي، فجرى مجرى الردف للراكب لأنه يليه وملحق به"([13]).

يقول جبران:

 ليس في الغاب عقيم **** لا ولا فيها الدخيل([14])

 أن في التمر نواة **** حفظة سر النخيل([15])

ويقرص الشهد رمز**** عن فقير وحقول([16])

إنما العاقر لفظ **** صيغ من معنى الخمول([17])

يتبين لنا ان الشاعر عاقب بين الياء والواو في ثقفية قصيدته، ومرد ذلك إلى طول النفس الذي تحققه حروف المد ومناسبتها لنفسية الشاعر الثائرة، الداعية إلى نبذ الأعراف، التي هي حسب رأيه لا تغدو سوى قيودا تحد من حرية الإنسان، وتجمح استقلاليته.

-       القافية المطلقة: وهي التي يكون فيها حرف الروي متحرك بضمة أو فتحة أو كسرة، وهي بدورها تنقسم إلى نوعين: ما تبع الحرف وهي مد يتولد عنه الإشباع، وما كان آخر حروفه هاء متحركة، وقد وردت القافية المطلقة موصولة بضم في:

وأكثر الناس آلات تحركها **** أصابع الدهر يوما ثم تنكسر([18]) 0///0

فلا تقولن هذا عالم علم **** ولا تقولن ذاك السير الوقر([19]) 0///0

يتضح لنا عند استقرائنا للقوافي التي انتهت بضم، أنها وردت في كل الأبيات المنظومة على بحر البسيط، وهو البحر الذي خصه الشاعر للصوت الأول (الواقع)، وربطه لقافيته بالضم دلالة على محاولة الشاعر التحلي بالقوة والعزيمة لمواجهة واقعه المتأزم الذي يحاول تغييره باللجوء إلى الطبيعة الثابتة؛ فهي توحي بحركية الشاعر وانفعاله وغضبه على واقعه غير الراضي عنه.

-      القافية المقيدة: وهي ما كان فيها "حرف الروي ساكن غير موصول"([20])، وجل أبيات مقاطع القصيدة مبنية على بحر مجزوء الرمل، والذي خص به الشاعر الصوت الثاني من حواره الفلسفي، جاءت قوافيه مقيدة.

يقول جبران: 

ليس في الغابات راع **** لا ولا فيها القطيع([21]) //00

الشتا يمشي ولكن **** لا يجاريه الربيع([22]) //00

يتضح لنا أن جبران يقيد قافيته حين يتحدث عن الطبيعة (القطيع، الربيع)؛ ذلك أنها مسكن بالنسبة إليه، يسكًن أنفاسه ليستريح من غضبه وثورته في وجه الحياة المصطنعة، التي يمثلها الصوت الأول الغني بالحركية والدينامية، في حين أن الصوت الثاني يمثل الطبيعة المليئة بالسكينة والطمأنينة.

لقد نظم جبران قصيدته المواكب على نظام الشعر المقطعي، وكل مقطع يلتزم قافية معينة، وتنوعت القوافي في هذه القصيدة كثيراً لتعدد المقاطع فيها ولكن الذي يمثل ظاهرة شعرية جديدة هي مزج بين بحور الشعر في القصيدة الواحدة.

   2.1.     البنية الإيقاعية الداخلية:

1.2.1.     التكرار: ويقصد به " الإتيان بشيء مرة بعد أخرى" ([23])؛ أي إعادة للحرف، أو اللفظ، أو المعنى، أو العبارة من أجل التأكيد على الشيء المكرر، ودلالته في نفسية الشاعر.

 -  تكرار الأصوات:

اعتمد جبران في بناء القافية لقصيدته على حرف روي متنوع؛ ومن أهم وأكثر الحروف التي استعملها كحرف روي (الراء، اللام، الباء، العين...)، وسبب اختياره لها يعود لخفة مجراها وسهولة النطق بها وهي من الأصوات الجهرية، كما وظف أيضا أصوات مهموسة (التاء، السين، القاف ...).

 ويرجع هذا التباين في نظم الأصوات إلى نظرة الشاعر المتمردة على زيف الحقائق في الحياة البشرية؛ نظرة كان الصوت المجهور ركيزة في بنائها، وأساسا في إظهارها للناس فتوافقت نفسيته مع هذا الجهر، الذي تماهى مع مشاعر التمرد والرفض والعصيان لما يعيشه الناس في حياتهم الضيقة من تناقضات يكرهها الشاعر، أما الأصوات المهموسة فيخفي فيها الشاعر حزنا ذفينا يُغَلِّفه بتمرده وقوته وعزيمته على تغيير هذا الواقع الراهن؛ الذي كله ضياع وظلم وتعب وقهر وانهزام.

-       تكرار الألفاظ:

كرر الشاعر في قصيدته عدة ألفاظ، التي تفصح عنما يختلج نفسيته، وأكثر هذه الألفاظ التي تكررت كلمة (الغابات) التي أعطت القصيدة نغما وقوة في الجرس الموسيقي، لتؤكد على رؤیة الشاعر للحياة بأن السعادة موجودة في الغاب، حيث البساطة الإنسانية الأولى البعيدة عن أطماع الحياة من مال، وقوة، وسلطة، التي هي زيف للواقع ودمار للنفس الإنسانية، وقد لازمت هذه اللفظة (الغابات) كل المقطوعات التي تدعو إلى الغناء، والمقطوعات التي تجعل كل متساوٍ في الحياة الإنسانية حيث لا يوجد قهر، ولا كذب، ولا حزن...

يقول:

ليس في الغابات راع **** لا ولا فيها القطيع([24])

ويقول أيضا:

ليس في الغابات حزن **** لا ولا فيها الهموم([25])

2.2.1.     الجناس:

ويقصد بالجناس أن " يأتي الشاعر بلفظتين في البيت إحداهما مشتقة من الأخرى"([26])، وقد جمع الشاعر في قصيدته بين الجناس التام وغير التام ومن ذلك نجد:

-       الجناس التام:

وهو ما اتفق فيه في أربعة أمور: نوع الحروف، وشكلها، وعددها، وترتيبها.

يقول الشاعر:

 والسر في النفس حزن النفس يستره **** فإن تولى فبالأفراح يستتر ([27])

ورد الجناس بین لفظتي (النفس، النفس)، فسر النفس الأولى معناه لغز النفس أو سرها، أما الحزن النفس في الثانية هو الكتمان فإن تولّى هذا الكتمان وانتهى أصبح الشخص في فرح دائم.

-       الجناس غير التام:

 وهو ما اختلف فيه أحد هذه الأمور: نوع الحروف، شكلها، عددها، وترتيبها: ومن ذلك نجد في القصيدة:

ليس في الغابات حزن **** لا ولا فيها الهموم

فإذا هب نسيم **** لم تجيء معه السموم([28])

ورد الجناس غير التام بين لفظتي (الهموم، السموم) وهو جناس ناقص؛ فقد اختلفا في الحرف الأول بعد "آل" التعريف؛ فالسین لسانية، أما الهاء فمهموسة حلقیة رخوة، وهنا يدعوا جبران إلى عالم الغاب، الخالي من الهموم والسموم.

     3.2.1.    الطباق:

 ويقصد به " أن يأتي الشاعر بالمعنى وضده أو ما يقوم مقام الضد"([29])، وهو نوعان:

-       الطباق الإيجاب:

 وهو الذي يجتمع فيه المعنى وضده كقول الشاعر:

ليس في الغابات حر**** لا ولا العبد الذميم([30])

وقوله أيضا:

كأنما الدين ضرب من متاجرهم **** وإن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا ([31])

وقوله:

والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا *** به ويستضحك الأموات لو نظروا ([32])

طابق الشاعر بين الكلمة وضدها في هذه الأبيات (حر/ العبد)، (واظبوا/ أهملوا)، (ربحوا/ خسروا)، (يبكي/ يستضحك)، وغيرها كثير في جل أبيات القصيدة.

-       الطباق السلب:

وهو الذي تجتمع فيه الكلمة نفسها، إما بالإثبات أو النفي ومن ذلك قوله:

والدين في الناس حقل ليس يزرعه **** غير الألى لهم في زرعه وطر ([33])

فالطباق السلب بين لفظتي: (ليس يزرعه: المنفية)، و(زرعه: المثبتة)، حيث وظف نفس الكلمة، وليثبت ضدها نفاها بأداة النفي (ليس).

 

 

4.2.1.   المقابلة:

وهي أن " يأتي الشاعر في الموافِق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف" ([34])، وهو الأمر الذي لم تخلو منه أبيات جبران خليل جبران المواكبية، حيث يقول:

وهو الشديد وإن أبدى ملاينة **** وهو البعيد تدانى الناس أم هجروا ([35])

وهي مقابلة بين مقطعين في بيت واحد، حيث يقابل المقطع الأول بالمقطع الثاني، فالإنسان الحالم في نظر جبران یكون قاسيا حتى وإن أبدى بعض اللین، ویكون بعیدا مهما أتى الناس أو رحلوا.

2.  المستوى المعجمي:

وتُدرس فيه "الكلمات لمعرفة خصائصها الحسية، والتجريدية، والحيوية، والمستوى الأسلوبي لها؛ بمعنى أنه يبحث في دلالة الكلمات اللغوية" ([36]). وقد تنوعت المعاجم التي استعملها جبران خليل جبران في نظم مقاطع قصيدته منها:

    1.2.  معجم الطبيعة:

سيطرت الطبيعة على قلم الشاعر ونفسيته وفكره؛ ذلك أنه سعى إلى الخلاص من فساد المجتمع الملوث بالهروب إلى طهر الطبيعة وصفاءها.

 ومن المفردات التي تدل على معجم الطبيعة نذكر: الأرض، الليل، ترابا، الترب، الزهر، الشمس، البحر...

يقول في المقطع الحادي عشر:

 والحب في الناس أشكال وأكثرها **** كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر([37])

وفي المقطع الخامس عشر:

لم أجد في الغاب فرقا **** بين نفس وجسد

فالهوا ماء تهادى **** والندى ماء ركد

والشذا زهر تمادى **** والثرى زهر جمد ([38])       

ثم يقول في المقطع السابع عشر:

والموتُ في الأرض لابن الأرض خاتمةٌ **** وللأثيري فهو البدءُ والظفرُ

فمن يعانق في أحلامه سحرا **** يبقى ومن نام كل الليل يندثرُ

ومن يلازم تربا حال يقظته **** يعانق التربَ حتى تخمد الزُهرُ

فالموت كالبحر، من خفّت عناصره **** يجتازه، وأخو الأثقال ينحدرُ ([39])

فالطبيعة رمز للفطرة (التراب، الغاب)، و(الزهر) رمز للجمال، و(الماء) رمز للحياة، و(الحقل، البحر، الثمر) رمز للخير، و(الليل) رمز للظلام والهواجس، و(الشمس) رمز للنور، و(الهوا) رمز للروح، و(الأرض) رمز للأصل، ... كل هذه الرموز يكتنزها المعجم الشعري للطبيعة عند جبران.

2.2.         معجم الموت:

من الألفاظ الدالة على هذا المعجم في القصيدة نذكر: الأموات، الموت، قاتل، مقتول، أنين، تفنى، يفنى، قبروا، أشباحا، الأرواح، خاتمة، يندثر، القبور....

يقول الشاعر في المقطع السابع عشر:

ليس في الغابات موت **** لا ولا فيها القبورْ

إن هول الموت وهم **** ينثني طيَّ الصدورْ ([40])

وفي المقطع التاسع عشر:

فالذي يحيا بعجز**** فهو في بطء يموت ([41])

يبدوا من خلال هذه المفردات أن الشاعر تعب من الحياة المزيفة المليئة بالخبث، والشر، والكره، والكذب، والظلم، متمنيا الموت والفناء للطغاة في هذه الأرض، التي غاب فيها العدل وكل القيم الإنسانية السامية.

3.2.  معجم الحب والحرية:

 تواردت في القصيدة عدة ألفاظ، ومفردات، وعبارات تدل على هذا المعجم ومن ذلك نجد: الحر، تحرر، الطليق، الحب ...

يقول في المقطع السابع:

والحر في الأرض يبني من منازعه **** سجنا له وهو لا يدري فيؤتسرُ

فإن تحرّر من أبناء بجدته **** يظل عبدا لمن يهوى ويفتكرُ ([42])

ويقول أيضا في المقطع الحادي عشر:

والحب في الناس أشكال وأكثرها **** كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر

وأكثر الحب مثل الراح أيسره **** يرضي وأكثره للمدمن الخطر

والحب إن قادت الأجسام موكبه **** إلى فراش من الأغراض ينتحر ([43])

4.2.   معجم الإنسان:

ضم هذا المعجم ألفاظا دلت على الجسد منه: أصابع، الجسم، القلوب، العقول، الناس، السيد، قاتل، سارق، البشر، فالغنا، الروح، عبيدا، عالم، يقولن، يستضحك، نظروا، يسير، يمش، تنكسر، السواعد، الروح، النفس...

يقول في مطلع قصيدته:    

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا **** والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا

وأكثر الناس آلات تحركها **** أصابع الدهر يوما ثم تنكسر ([44])

يعد هذا المعجم من أهم المعاجم التي ارتكز عليها جبران في قصيدته - على اعتبار أن الإنسان مكون هام وفاعل في الوجود من خلال سلوكاته وأفعاله وانفعالاته، والتي تدل على تنوع وثراء مستوى بنية الإنسان العقلية والمادية والنفسية، فتنوع مصادر الأفعال والسلوكات التي يقوم بها الإنسان دليل على غنى تجربته في الحياة.

وبالتالي تشكل القصيدة صورة عاكسة لهذه الأفعال، وإبراز مختلف التصرفات الحميدة والقبيحة التي يقوم بها الإنسان، فالقصيدة من بدايتها توضح وتصف هذه السلوكات إما بالذم أو المدح، أو التقبل والرفض.

نستخلص مما سبق أن القصيدة غنية من حيث تنوع المعاجم غير التي ذكرت في التحليل، لم يسع المقام لاستحضارها كلها من: معجم: العلم، والدين، والحياة، الآخرة...، والتي عملت على تكثيف الدلالة وإبراز المعنى بشكل لافت، كما أضفت على القصيدة جمالا فنيا وتناسقا نصيا.

3.  المستوى الدلالي:

 يمثل المستوى الدلالي جزءا من الدراسة البنيوية؛ ذلك أنه يهتم بتحليل " المعاني المباشرة وغير المباشرة، والصورة المتصلة بالأنظمة الخارجية عن حدود اللغة، والتي ترتبط بعلوم النفس والاجتماع، وتمارس وظيفتها على درجات في الأدب والشعر"([45])، وقد مثلت قصيدة جبران "المواكب" حدثا مهما في حياة الشاعر، فحملت دلالة عميقة صور فيها الشاعر تجربته في الحياة؛ ذلك أن التصوير الفني هو الذي يجعل من القصيدة حقلا خصبا لتلك المشاهد المتحركة، التي يرمي الشاعر إلى إيصالها إلى المتلقي.

فالصور هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص، وذلك ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة، مستخدما طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، وغيرها من أدوات التعبير الفني.

وتتعدد الصور الفنية في قصيدة " المواكب" بين:

1.3.   الصورة الكلية:

يحمل النص في ثناياه كلمات خاصة بأنساق التشكيل، بحيث تحمل هذه الكلمات إيحاءات ودلالات تتجلى من خلالها معاني القصيدة، وهي بذلك تتخذ صورا مختلفة في ثنائيات تتناسق فيما بينها، لتصور لنا الصورة الكلية لواقع إنساني يتفجر داخل الذات الشاعرة، تطعمه جمل من العوامل النفسية، والوقائع الاجتماعية المزرية التي ينبذها الشاعر ويسعى إلى تغييرها.

فالقصيدة من مطلعها إلى آخرها تنتشر أفقيا وعموديا، لتبرز تلك المعاني المندثرة بنوع من الغموض، وترسم لوحة فنية يوحي فيها الشاعر بقصديته إلى الآخر في مواجهة مباشرة مع تطلعات الأنا الشاعرة، لتجرد الذات من نفسها مخاطبا حاضرا دلاليا، وغائبا وجوديا، وتتضح الصورة بشكل جلي في الثنائيات الضدية التالية:

1.1.3.   ثنائية الخير /الشر:

يقول: الخير في الناس مصنوع إذا جبروا *** والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا ([46])

ويقول أيضا: وقاتل الجسم مقتول بفعلته **** وقاتل الروح لا تدري به البشر ([47])

فمجمل هذه القضايا التي وردت في الأبيات الممثلة، هي قضايا تقريرية متواضع عليها، لا تحتمل دلالات بعيدة، فالخير والشر متعلقان بالإنسان، وقاتل الجسم ظاهر للعين معروف، أما قاتل الروح فمجهول مستتر.

2.1.3.   ثنائية الحياة / الموت:

يقول الشاعر:

والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا **** به ويستضحك الأموات لو نظروا

فالسجن والموت للجانين إن صغروا **** والمجد والفخر والاثراء إن كبروا ([48])

3.1.3.   ثنائية الفرح/ الحزن:

يقول الشاعر:

والسر في النفس حزن النفس يستره **** فإن تولى فبالأفراح يستتر ([49])

4.1.3.   ثنائية الجنة/ النار

يقول الشاعر:

من آمل بنعيم الخلد مبتشر **** ومن جهول يخاف النار تستعر

فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا **** ربا ولولا الثواب المرتجى كفروا ([50])

5.1.3.   ثنائية القوة/ الضعف:

يقول الشاعر:

والحق للعزم والأرواح إن قويت **** سادت وإن ضعفت حلت بها الغير

ففي العرينة ريح ليس يقربه **** بنو الثعالب غاب الأسد أم حضروا

وفي الزرازير جبن وهي طائرة **** وفي البزاة شموخ وهي تحتضر

والعزم في الروح حق ليس ينكره **** عزم السواعد شاء الناس أم نكروا

فإن رأيت ضعيفا سائدا فعلى **** قوم إذا ما رأوا أشباههم نفروا ([51])

تولد الصراع بين أبيات القصيدة من خلال: ثنائية الموت/ الحياة، الجنة/النار، الفرح/ الحزن وغيرها من الثنائيات، التي تدل على موت القيم الإنسانية في واقع الشاعر المأزوم المميت الذي أصبح مليئا بالظلم، والخبث، والشر...، واقع أصبح فيه القوي يأكل الضعيف، واقع أصبح فيه الظالم ينتصر على المظلوم، واقع غابت فيه قيم العدل، والإنصاف، والمساواة...، جاعلا صوت الغاب والناي ملجأه ومهربه، الجنة والحياة التي ستنسيه واقعه المر المليء بالتناقضات.

من هنا يمكن القول إن الصورة الكلية لمقاطع القصيدة تبلورت في ثنائياتها الضدية المتناقضة، والتي دأب الشاعر من خلالها على إظهار صراع الإنسان معها في الحياة، وتعرضه لانكساراتها في محاولة لتغييرها.

2.3.   الصورة التشبيهية:

يذهب قدامة بن جعفر إلى أن التشبيه "يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معاني تعمّهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها"([52])، والغرض من التشبيه الإيضاح والبيان، والإيجاز والاختصار، ومن ذلك نجد في القصيدة:

يقول في المقطع الأول: وأكثر الناس آلات تحركها **** أصابع الدهر يوما ثم تنكسر([53]).

وفي المقطع الرابع:

إن دين الناس يأتي **** مثل ظل ويروح ([54]).

وفي المقطع الخامس: إن عدل الناس ثلج **** إن رأته الشمس ذاب ([55])

وفي المقطع السابع: والعلم في الناس سبل بان أوّلها **** أما أواخرها فالدهر والقدرُ ([56])

المشبه

المشبه به

أداة التشبيه

وجه الشبه

نوع التشبيه

الناس

آلات

محذوفة

الانكسار مع مرور الوقت

التشبيه المؤكد

دين الناس

ظل

مثل

إيمان البشر مادي فهو غير ثابت سينتهي وسيزول

التشبيه التام

عدل الناس

الثلج

محذوفة

(محذوف)

التشبيه البليغ

العلم في الناس

سبل

محذوفة

(محذوف)

التشبيه البليغ

شبه الشاعر في البيت الأول الناس بالآلات التي سرعان ما تنكسر أمام الزمن، وكأنه يريد دفع المتلقي إلى التأويل وفهم المراد من الصورة، من خلال توظيفه للتشبيه المؤكد، كما نجد المرسل يشير إلى أن الزمن يغير نفوس الناس ويتحكم ويعبث بهم، أما في البيت الثاني فقد شبه دين الناس بأنه إيمان مادي لا روحي سرعان ما سيزول.

أما البيتان الأخيران فقد تضمنا تشبيها بليغا، شبه في الأول؛ عدل الناس الزائف بالثلج الزائل بعد سطوع أشعة الشمس، في حين شبه في الثاني العلم بالطريق بدايته واضحة ونهايته مجهولة.

 

3.3. الصورة الاستعارية:

يقول السكاكي: " هي تشبيه حذف منه المشبه به أو المشبه، ولا بد أن تكون العلاقة بينهما المشابهة دائما، كما لا بد من وجود قرينة لفظية أو حالية مانعة من إرادة المعنى الأصلي للمشبه به أو المشبه ".([57])

يقول جبران:     فالشتا يمشي ولكن **** لا يجاريه الربيع([58])

يقول أيضا: كأنما هي أثمار إذا نضجت **** ومرت الريح يوما عافها الشجر([59]).

يقول الشاعر:

غاية الروح طي الروح قد خفيت **** فلا المظاهر تبديها ولا الصور ([60])

المستعار له (المشبه)

المستعار منه (المشبه به)

القرينة

نوع الاستعارة

الشتا

محذوف

يمشي (لفظية )

مكنية

الريح/ الشجر

محذوف

يمر (لفظية)

مكنية

روح الإنسان

محذوف

طي (لفظية)

مكنية

شبه جبران فصل الشتاء بالإنسان الذي يمشي، كما شبه في البيت الثاني الريح بالإنسان الذي يمر، وعندما لا يعجبه أمر ما عافه وتركه مع مروره، وشبّه روح الإنسان بالورق القابل للطي، مع حذف المشبه به والبقاء على أحد لوازمه في كل الأبيات المذكورة، وهي الأفعال (يمشي، يمر، طي) على سبيل الاستعارة المكنية.

 

4.3.   الصورة البصرية:

يعتبر البصر من أوثق حلقات الوصل بين الإنسان وعالمه الخارجي، وأكثر الحواس تعاملا مع الواقع، فهي تمكنه من إدراك أدق تفاصيل محيطه وما يدور حول "فالشاعر يرى ما لا يرى ...ومادة (رأى) تثمر صورة فنية حسية بصرية " ([61])، وقد عمد جبران إلى توظيفه أفعال الرؤية (نظروا) لرسم صورته الحسية البصرية، لتساعده على وصف إحساسه وإشراك المتلقي ودمجه في دائرة إحساسه.

يقول: والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا **** به ويستضحك الأموات لو نظروا ([62])

لقد رسم الشاعر صورة بصرية غاية في الجمال، إذ يدفع المتلقي إلى تخيل عناصر هذا المشهد الذي يصوره: بكاء الجن، ونظر الأموات وضحكهم، وكأن بجبران يأخذ بيد المتلقي ليرحل معه إلى عالم الجن، فيريه بكاء الجن حين سماعهم بحقيقة العدل بين الناس، ثم يعرج به إلى عالم الموت ليرى ضحك الأموات، في مشهد ليس مألوفا لدى المتلقي، وهي صورة رهيبة غير معهودة عند الإنسان، أراد الشاعر إشراكنا في تخيلها حين حديثه عن العدل.

5.3.   الصورة السمعية:

تتميز حاسة السمع بقدرة عالية لحفظ التواصل المستمر بين الإنسان ومحيط؛ فهي الحاسة الوحيدة التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها؛ ذلك أنها تعمل على تصوير كل الأصوات له، ووقعها على نفسيته، وتظهر لنا هذه الصورة في مقاطع القصيدة من خلال توظيف الشاعر للألفاظ الدالة على التكلم والاستماع (غنِّ).

يقول في المقطع الأول:       

أعطني الناي وغني **** فالغنا يرعى العقول

وأنين الناي أبقى **** من مجد وذليل ([63])

ويقول أيضا في المقطع الخامس:

أعطني الناي وغن **** فالغنا عدل القلوب

وأنين الناي يبقى **** بعد أن تفنى الذنوب ([64])

وظف جبران الصورة السمعية الصاخبة حين طلب من الطرف الثاني الغناء (غنِّ)، هذا المخاطب نجهله، وقد وظفه الشاعر لينزل به منزلة استخلاص الحكم بين الصوتين المتحاورين في القصيدة، وهو حكم مرتبط بالغناء الذي يرى فيه الدواء لكل ما يعانيه الناس من أحزان، وأنين الناي ونغمته هي نغمة هادئة جعلها عنوان الخلود والحياة الشاملة.

4.  المستوى النحوي:

ترتبط الدراسة النحوية بالشكل لا المضمون، بحيث يتم دراسة " تأليف وتركيب الجمل وطُرق تكوينها وخصائصها الدلالية والجمالية"([65])، فالعلاقات تأخذ موقفا معينا في الجملة، حسب ما تقتضيه قوانين اللغة، فلكل كلمة وظيفة نحوية وذلك من خلال موقعها في الجملة.

زاوج الشاعر في بناء "قصيدته" مواكب بين الجمل الفعلية والجمل الإسمية، ولكل جملة ميزة تنفرد بها، تكشف عن الغايات التي من أجلها وظفت في بناء النص.

ونورد فيما يلي بعض من هذه الجمل الإسمية والفعلية، في محاولة لاستقراء إيحاءاتها ودلالاتها ووظيفتها في البناء التركيبي العام لمقاطع القصيدة.

    1.4.   الجمل الاسمية:

هي "التي تبتدئ عادة باسم مرفوع مبتدأ، وقد تبدأ بمصدر صريح، وقد يكون المصدر مؤولا، وقد تبدأ الجملة الاسمية بوصف له فاعل سد مسد الخبر، كما يجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخر"([66])، ومن الأمثلة الواردة في القصيدة.

-       المثال1:

الخير في الناس مصنوع اذا جبروا *** والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا([67])

-       المثال 2:

ليس في الغابات عدل **** لا ولا فيها العقاب ([68])

-           المثال 3:

أعطني الناي وغن **** فالغنا يرعى العقول ([69])

-       المثال 4:

العدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا *** به ويستضحك الأموات لو نظروا ([70])

وقد اعتمد جبران في بناء قصيدته على أنماط مختلفة من الجمل الإسمية؛ كالمثال الأول الذي يتكون من مبتدأ (الخير) وجار ومجرور (في الناس)، وخبر ورد اسما مفردا (مصنوع)، أما المثال الثاني فيتألف من ناسخ (ليس) وشبه الجملة (في الغابات) في محل خبرها مقدم، و(عدل) اسم (ليس) وقد أفادت النفي نفي العدل عن الغابات.

أما بالنسبة إلى المثال الثالث؛ فقد تألف من مبتدأ (فالغنا) وخبر جاء جملة فعلية (يرعى العقول)، كما اعتمد الشاعر في المثال الرابع على جملة إسمية (العدل في الأرض يبكي) المتكونة من مبتدأ وجار ومجرور وجملة فعلية، ما تناسب مع رؤيته في بلوغ العدل منزلة دنيا بين الناس؛ فهي حقيقة قارة ومؤكدة عنده حتى أنها أبكت الجن وأضحكت الأموات عليها على حد تصويره له.

يتضح لنا مما سبق؛ أن الجمل الإسمية تخللت كل القصيدة في أكثر من موضع، لما لها من ميزة ثنائية جمعت بين سمة الثبات والاستقرار للإسم، وبين الاستمرارية التي يحققها زمن الفعل (المضارع) في خبرها ليقوي الشاعر تأكيده ويزيده مثانة وقوة، فلا يسري الشك في نفسية المتلقي أو يحس بشيء من الريبة.

2.4.   الجمل الفعلية:

 هي" التي تبتدئ بفعل ماض أو مضارع أو أمر، ويلي الفعل دائما فاعلا مرفوعا، وإذا حذف الفاعل قام مقامه نائب فاعل" ([71])، ومن أمثلة الجمل الفعلية في القصيدة.

-       المثال 1:

 أعطني الناي وغن **** فالغنا عدل القلوب ([72])

-       المثال 2:

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا *** والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا ([73])

-       المثال 3:

فأفضل الناس قطعان يسير بها **** صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر ([74])

-       المثال 4:

 لا يقول السرو هذي**** بدعة ضد الكتاب ([75])

-       المثال 5:

فإذا شاخوا وماتوا **** بلغوا سن الفطام ([76])

-       المثال 6:

فقل هم البهم ماتوا قبلما ولدوا *** أنّى دروا كنه من يحيى وما اختبروا! ([77])

-       المثال 7:

هل اتخذت الغاب مثلي **** منزلا دون القصور([78])

استعمل جبران في المثال الأول جملة فعلية (أعطني الناي)، مكونة من فعل أمر، وفاعل مستتر أنت، ومفعول به أول (ياء المتكلم)، ومفعول به ثان (الناي)، وقد وظف الشاعر هنا فعلا من أفعال المنح والعطاء.

أما بالنسبة إلى المثال الثاني نجد أن جبران خليل جبران يؤكد جربان ثبوت صفة الشر عن الناس، بتركيبة فعلية أحسن اختيار فعلها (يفنى)، و "لا" خاصة بنفي الحدث في الأفعال، وكذا نفي الأسماء ودلالة النفي بها حاصلة الثبوت لا محالة.

وقد وظفها الشاعر في هذا البيت ليؤكد أن الشر باقٍ في النفوس البشرية حتى بعد الموت، ويمنحه صفة الخلود والديمومة، كما نلاحظ في المثال الثالث (لم يمش) جملة فعلية منفية سبقت بأداة الجزم (لم)، وهي أداة تختص بالأفعال وعملها الجزم بالفعل، شأنها شأن أداة النفي (لا) في المثال الرابع.

أما المثال الخامس استعمل جبران جملة فعلية شرطية مسبوقة بأداة شرط (إذا)، متبوعة بأفعال مصرفة في زمن الماضي (شاخوا، ماتوا، بلغوا)، في حين بدأ بيت المثال السادس بأداة عطف مرتبطة بفعل أمر (قُلْ)، أما المثال السابع فتضمن جملة فعلية استفهامية مسبوقة بأداة الاستفهام (هل)؛ وسر على هذا النسق البنائي في كل أبيات القصيدة.

نستخلص مما سبق أن الشاعر زاوج بين الأسماء والأفعال؛ ذلك أن مقطعي القصيدة يقومان على صوتين: الصوت الأول الواصف لمنظومة الحياة عند البشر، وبين الأبيات التي جعلها الشاعر للصوت الثاني الداعي للطبيعة، فوجدنا أن أغلب الأفعال وردت في المقطع الثاني، ما يوحي على الحركية والاستمرار عند جبران خليل جبران، فكل ما يراه لا يعدوا سوى فوضى تسود العالم وتفرض منطق اللاثبات عند الإنسان.

أما في معرض حديثه عن الطبيعة (ليس في الغابات راع **** لا ولا فيها القطيع) نجد غلبة الأسماء على الأفعال في المقطع الأول، ذلك أن الهدف والمغزى من القصيدة هو بث الاستقرار والثبات في نفسية المتلقي، إذ يبدأ بإخباره عن مساوئ هذا العالم غير السوي المليء بالزيف والظلم ...ثم ينتقل إلى سرد محاسن الغاب، فيَطْمَئِنُّ المتلقي ويُؤمن بعقيدة الشاعر ويُصدق نداءه ودعوته.

3.4.   الوصل: يقوم اتساق النص على عنصر أساسي يتمثل في الوصل، وهو " عطف جملة على جملة أخرى"([79])، بحيث يحقق الترابط بين الجمل بطريقة منتظمة، باستعمال أحد حروف العطف.

 وقد كان لأدوات الوصل حضورا بارزًا في النّص، بحيث ساهم إلى حدّ كبير في إحداث نوع من الترابط الداخلي، وبهذا يكون قد أحدث تماسكا وتلاحما في القصيدة.

     أهمّ هذه الأدوات التي استخدمها الشاعر هي "الواو والفاء"، كان لها دور بارز في القصيدة ومن أمثلة ذلك:

والدين في الناس حقل ليس يزرعه **** غير الألى لهم في زرعه وطر

من آمل بنعيم الخلد مبتشر**** ومن جهول يخاف النار تستعر

فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا **** ربّا ولولا الثواب المرتجى كفروا ([80])

نلاحظ في جل أبيات القصيدة قد اتكأ جبران خليل جبران على أداتين للوصل "الواو" و"الفاء" باعتبارهما وسيلة رئيسية للرّبط بين عناصر النص وأجزائه، بالإضافة إلى أدوات أخرى مثل:(ثم، أو، لكن، حتى...)، وهي جميعها أدوات تشكل سمة إبداعية رسمت ملامح تشخيصات الشاعر في نفسية المتلقي لقصيدته، كما ساهمت في تلاحم بنية النص وانسجامه.

كما نلاحظ في هذا المقطع أنّ الشاعر قد نوّع في أدوات الوصل بين الواو والسين والفاء واللّام، وحروف الجر، وقد لعبت هذه الأدوات دورها النحوي في تضافر عناصر القصيدة.

5.  المستوى الصرفي:

تُدرس فيه "الوحدات الصرفية ووظيفتها في التكوين اللغوي والأدبي خاصة"([81])، والتعامل مع أبيات قصيدة "المواكب" من حيث البنية الصرفية تتمثل في رصد أهم الصيغ الصرفية الواردة بكثرة فيها، لذلك سنركز اهتمامنا على وصف البنية الصرفية للأفعال والأسماء، وذلك بالتركيز على الصيغ البسيطة والمركبة من أفعال وأسماء في البناء التركيبي للقصيدة.

1.5.    بنية الأفعال:

يتكون الفعل من الأوزان التالية (فعل، تفعل، يفعل، أفعل، سيفعل)؛ وهي أفعال تدل على أحداثا إما تقع في الماضي أو في الحاضر وهو ما يظهر في كل أبيات القصيدة، ومن أمثلة ذلك:

-       خلق الناس عبيدا**** للذي يأبى الخضوع ([82])

-       وأكثر الناس آلات تحركها **** أصابع الدهر يوما ثم تنكسر([83])

-       فالشتا يمشي ولكن **** لا يجاريه الربيع([84])

-       أعطني الناي وغن **** فالغنا يرعى العقول ([85])

-       واذ يقول هي الأجسام إن هجعت **** لم يبق في الروح تهويم ولا سمر([86])

-       كالنهر يركض نحو السهل مكتدحا **** حتى إذا جاءه يبطئ ويعتكر([87])

-       إن دين الناس يأتي **** مثل ظل ويروح([88])

-       ومن يلازم تربا حال يقظته**** يعانق الترب حتى تخمد الزهر([89])

طغى على هذه الأبيات فعل المضارع الذي جاء على وزن: فعل، يفعل، تفعل، أفعل، وهذه الأفعال [يأبى، يمشي، يجاريه، أعطني، يركض، يبطئ، ويعتكر، يلازم، تخمد...]؛ وهي أفعال تدل على زمن الحاضر الذي هيمن على معظم القصيدة، ما زادها حركة ونشاطا، لأن الشاعر هنا يتكلم عن القيم النبيلة التي غابت عن مجتمعه من عدل وخير ومجد وعلم ...لتنطق مقاطع القصيدة بضمير الغائب لغياب هذه القيم النبيلة.

كما أن استخدام الشاعر للفعل المضارع بكثرة في هذه القصيدة، لأنه يريد أن يعبر عن حدث يعايشه في حاضره؛ ذلك أن الشاعر يتمنى أن يذهب الألم والحزن والمعاناة عن عالمه، باحثا عن الراحة النفسية والطمأنينة في الغاب، هاربا من وجع بيئته ومجتمعه الذي ساد فيه الطغيان والظلم والكذب والشر بمختلف أشكاله.

2.5. بنية الأسماء:

هيمنت على القصيدة الأسماء المعربة من الأعجمية، خاصة منها الأسماء المجردة، والاسم هو "كلمة تدل على شيء جامد وهي ذات ثلاثة أصول: أصل ثلاثي، رباعي، خماسي" ([90]).

وقد غلبت على القصيدة الأسماء المعربة، بحيث توزعت بين الأسماء الثلاثية والرباعية.

-      الأسماء المجردة الثلاثية : هي "ما كانت حروفها الأصلية ثلاثة، وتأتي على الأوزان التالية : [فَعَل، فَعِل، فَعُل، فَعْل، فِعَل، فِعِل، فِعْل، فُعَل، فُعُل، فُعْل]" ([91])، ومن أمثلة ذلك في القصيدة: [خير، علم، حقل، دهر، ناس، أرض، زهر، موت، سجن، شمس، نهر، عدل، بعث، روح، جسد، نفس، عزم، علم، حلم، لطف، حجر، إبر، خطر، ضعف، سقم، طعم، هول...].

-      الأسماء المجردة الرباعية: وهي "ما كانت حروفها الأصلية أربعة، وأبنيته خمسة [فَعْلَل، فِعْلِل، فُعْلُل، فِعْلَل، فِعَلّ ]" ([92]) ومن أمثلة ذلك في القصيدة: [ متاجرهم (مَتْجَر)، مِرْآة، شَمْأل، عناصره(عُنْصُر)، مَضْجَعك، حليب، بُلْبُل...].

يقول الشاعر:

 فالسجن والموت للجانين إن صغروا **** والمجد والفخر والإثراء إن كبروا

فسارق الزهر مذموم ومحتقر**** وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر

وقاتل الجسم مقتول بفعلته **** وقاتل الروح لا تدري به البشر

ليس في الغابات عدل **** لاو لا فيها العقاب

فإذا الصفصاف ألقى **** ظله فوق التراب

لا يقول السر وهذي **** بدعة ضد الكتاب([93])

من الملاحظ أن الشاعر نوع في استعماله للأسماء المجردة الثلاثية والرباعية بكثرة، واعتماده على الأفعال المضارعة في بناء قصيدته.

في حين نجد أن؛ حضور الماضي في القصيدة يكاد يكون باهتا، وبهذا يحاول الشاعر إلغاءه من حاضره، ليأتي الغاب في نسق القصيدة ليحمل اللفظة من حاضرها الآني اليائس المضطرب، والهرب إلى الطبيعة باحثا عن السكينة الروحية، لذلك تتفوق إشارات الحاضر حالما بانبعاث قيم الخير والعدل من جديد، وجاعلا منها قاعدة يرتكز عليها.

فالنص مملوء بالحركة من خلال إشارات الزمن عبر استعماله للأفعال المضارعة، وبالتالي اتجاه النص من الحركة المليئة بالشر، والظلم، واللامساواة إلى السكون المليء بالسكينة، والطمأنينة، والثبات وكل القيم السامية النبيلة، وذلك بغلبة الأسماء على القصيدة أيضا.

6.  مستوى القول:

 ويتم فيه "تحليل تراكيب الجمل الكبرى لمعرفة خصائصها الأساسية والثانوية"([94]).

ولو نظرنا إلى القصيدة نفسها وإلى تراكيب جملها ولكن على مستوى القول فيها، لأمكننا ملاحظة أن الأقوال التي وردت فيها، تتبع ترتيبا خاصا بها في كل مقطع من مقاطع القصيدة؛ ذلك أننا نجد ترتيبا لثلاثة أصوات قولية تمثل الجمل الكبرى وهي:

-  صوت الشاعر/ الشيخ الحكيم: الذي يمثل الحكمة الناضجة الواعية المستمدة من تجربة السنين والحياة، والعارفة بخفايا الزمن، وخبث الحياة المصطنعة والزائفة، المحكومة بالعادات والتقاليد.

-  صوت الغاب/ الشاب: الذي يمثل الطبيعة بعفويتها وفطرتها البريئة، حيث المساواة والمحبة والفرح والخير...، المتمردة على كل قيد من القيود؛ كونها عالم الطبيعة والصفاء والنقاء الإنساني.

-  صوت الناي/ القرار: الذي يمثل النداء، ينادي الناس ويدعوهم إلى اتخاذ قرار بين هذه المتناقضات، ويحثهم على البقاء في الطبيعة، حيث لا يوجد تناقض ولا تنافر بين ظواهر الحياة الإنسانية، بل البساطة المطلقة.

لقد اعتمد جبران خليل جبران في ترتيب موضوعات الجمل الكبرى نظاما بنيويا خاصا به، ثم يتدرج ليبرز الخصائص الأساسية والثانوية لهذه الجمل، حيث يبدأ بتحليل مشاغل واهتمامات الحياة الإنسانية الزائفة بقول الصوت الأول/ الشيخ، في كل مقطع من مقاطع القصيدة.

هذه المشاغل الكثيرة التي تؤرق الإنسان من (الخير والشر، الحزن والفرح، الرضا والضجر، الدين والإيمان، الجنة والنار، العدل الموهوم والظلم، الحق وجدليته، العلم والجهل، الحرية والعبودية، القوة والضعف، الحب والهوى والجنون، الجسد والروح، الموت والحياة، الوجود والفناء...)، ولكثرتها خصص لها في قول الصوت الأول أبياتا متباينة، تتزايد بتزايد مشاغل الإنسان، فمرة نجد خمســة أبيــات مــرة، ومرة ســتة أبيــات، ومرة سبعة أبيات؛ حيث يظهر ذلك بوضوح في المقطع الثالث، والسادس، والسـابع، والتاســع، والخـــامس عشــر، والســـادس عشــر.

ينتقل جبران خليل حبران إلى إعلان تمرده عليها، منتقدا إياها باتباع ترتيب بنائي ينفي كل ما عرضه القول الأول في الواقع، والذي نجده ملغيا تماما منفيا في قول الصوت الثاني الغاب، بقوله عبارة (ليس في الغابات راع، ليس في الغابات حزن، ليس في الغابات عدل...)، ففي الغاب يتمرد على هذه المتناقضات التي تشغل الإنسان وينبذها وينفيها، وبنفيها جعل قول الصوت الثاني أربعة أبيات تعبر عن هذا النفي.

تنتهي بنية كل مقطع من مقاطع القصيدة بقول الصوت الثالث؛ صوت الناي الذي حدد له بيتين فقط، يؤكدان ما ورد في قول الصوت الثاني، ودعوته الصـــريحة لتحريـر الإنسـان من زيف الحيـاة والواقـع الفعلـي المعـاش المضـطرب بقيمـه المعقدة، بيد أن الشاعر جبران يخرق هذه القاعدة في المقطع الأخير من القصيدة، حيث عمد على مزج قول الصوت الأول والثاني، في حـوار مؤلـف مـن عشـرين بيتـا لينتهــي هــذا الحــوار بثلاثــة أبيــات هــي خلاصــة رحلــة الشــاعر الفكريــة مــن خــلال حواره الطويل المتعدد الأصوات، والذي يجسد قراره الأخير بقوله:

العيش في الغاب والأيام لو نظمت **** في قبضتي لغدت في الغـــــــــــــــــاب تنتثر

لكن هو الدهر في نفســــي له أرب **** فكلمـــــــــــــا رمت غابـــــــــــــــــــا قام يعتـــــــــــــذر

وللتقـــــــــــــــــــــــــادير ســـبل لا تغيرهــــــــــــــــــا **** والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا ([95])

تسعى الوظيفة الشعرية إلى إقامة تماسك لقصيدتها الذي هو قولها، بحيث تثير وجدان وعقل القارئ لقولها انطلاقا من تركيب الصوت الأول، الذي يجعله مشدودا مصغيا إلى إجابة أو قول الصوت الثاني، ومنتظرا النتيجة في الصوت الثالث، والتي سبقتها سلسلة من المقدمات تدل على واقع الشاعر الحزين المليء بالآلام، والشر، والظلم، والضعف، والعجز، والجهل...التي تعانيها النفس الإنسانية هروبا إلى الغاب الذي في نظره واقع مثالي للعيش فيه؛ ذلك أنه يدل على (الفرح، الخير، الحياة، العلم، العدل...)، هذه القيم التي نقلتها الأصوات للقارئ برؤية متنوعة تعددت فيها الأصوات، زادت من وقع قول القصيدة على القارئ.

لقد جعلت هذه التقنيات التي استخدمها الشاعر في القول الشعري لتراكيب جمل القصيدة؛ القارئ ينجذب لفهم بنية هذه القصيدة الشعرية، ولفهم رسالة الشاعر التي يسعى إلى إيصالها، من خلال اعتماده على هذا التركيب البنيوي للجمل الكبرى، وما ينطوي تحتها من مقاطع طويلة وقصيرة تعتبر نهاية القول/ الصوت الأخير الذي يدل على استسلام الشاعر للأقدار من خلال قراره الأخير العيش في الغاب.

7.  المستوى الرمزي:

إن اختيارنا دراسة دلالة الرمزية للكلمات جاءت في الأساس نتيجة تضمين الشاعر لكلمات قصيدته طاقة رمزية، لأنها ترتكز في تسميتها على قدرة اللغة في إحداث المستوى الرمزي، بحيث تعمل على بناءها بتركيب لغوي يهدف إلى إنتاج دلالة جديدة تقودنا إلى معنى ثاني غير المعنى الأول؛ على اعتبار أن هذا المستوى "تقوم فيه المستويات السابقة بدور الدال الجديد، الذي ينتج مدلولاً أدبيًا جديدًا يقود بدوره إلى المعنى الثاني أو ما يُسمى باللغة (داخل اللغة)"([96]).  

لقد بنى الشاعر جبران خليل جبران قصيدته على لغة رمزية، بصياغة لغوية تبتعد عن التصريح المباشر بالمعنى المنشود، ومحاولة رسم المعنى الغامض للدلالة وشحنه بطاقة رمزية مكثفة، تتناثر في جل مقاطع قصيدته تحملها ألفاظ وعبارات ترمز إلى المعنى الذي يريد الشاعر إيصاله إلى المتلقي، ومن هذه الرموز نجد لفظة (الغابات).

يقول جبران خليل جبران:

ليس في الغـــــــــــابات راع **** لا ولا فيــــــــــــــها القطيـــــــــــع

فــــالشـــــــــــــــــتا يمشي ولكن **** لا يجـــــــــــــــــاريه الربيـــــــــــــــع([97])

يقول أيضا:

ليس في الغـــــــــــــــــابات عدل **** لا ولا فيها العقــــــــاب

فـــــــــــــــــــــــــإذا الصفصاف ألقى**** ظله فوق التــــــــــــــراب([98])

ويقول أيضا:

ليس في الغـــــــــــــابات سكر **** من مدام أو خيال

فالســـــــــــــــــــواقي ليس فيها **** غير أكسير الغمـــــــــــام([99])

إن المتأمل في قصيدة جبران خليل سيدرك أن الغابة/ الطبيعة لم تكن مكان هروبه من واقعه المر المعيش، شأنه شأن جل الشعراء الرومانسيين، بل استخدمها رمزا فلسفيا لحل مشكلة الاختلاف والصراع والتنافر بين البشر من خلال حب يسع كل شيء، كما أن فلسفته في وحدة الوجود إيجابية، ذلك أن الحضارة في رؤية جبران خليل جبران مظهر من مظاهر الغاب/ الطبيعة؛ وهو رمز للتمرد على التقاليد وملذات الحياة التي يسعى الإنسان إليها في تكاملها، فالغابة رمز لحياة الفطرة البريئة حيث لا وجود للمتناقضات.

فالغاب رمزا رومانسيا عند الشعراء الرومانسيين، يرمز إلى الثورة على ما حدث في المدينة من تشويش وخداع ومظاهر الزيف والغربة، جعلتهم يتخذون الطبيعة رمزا للخلاص، والحياة الحرة بلا زيف وبلا متناقضات، رمز للفطرة السليمة الخالية من الانحراف والعقد، هي رمز للنقاء والصفاء، وهي رمز للمثالية المطلقة التي ينفيها في آخر مواكبه بقوله:

العيش في الغاب والأيام لو نظمت **** في قبضتي لغدت في الغـــــــــــــــــاب تنتثر

لكن هو الدهر في نفســــي له أرب **** فكلمـــــــــــــا رمت غابـــــــــــــــــــا قام يعتـــــــــــــذر

وللتقــــــــــادير ســـبل لا تغيرهـــــــا **** والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا([100])

هذه الأبيات التي تدل على طول المسافة بين الواقع والخيال، وتنتهي بإعلان العجز الإنساني في صنع المثالية المطلقة، حيث القيم السامية والفاضلة.

كما استعمل الشاعر لفظة (الناي)؛ كرمز فكري دلالي يؤكد وحدة الغابة التي تزيل الفواصل والفوارق بين الثنائيات الضدية، حيث يقول:

  أعطــــني النــــــــاي وغــــــــن **** فالغنـــــا ظـــــرف الظريــف

  وأنيـــــــــــن النـــــــاي يبقــــى**** مـــــــن رقيـــــــــــــــق وكثيــف ([101])

ويقول أيضا:

     أعطـــــــــني النــــــــــاي وغـــــن**** وانــــــــــــس داء ودواء

     إنمـــــا النــــــــــــاس ســـطور **** كتبــــــــت لكــــن بمـــــاء([102])

يرمز الناي إلى فناء المتناقضات، والترفع عن المطالب الدنيوية الدنيئة والوضيعة، إلى المثل والقيم النبيلة الفاضلة؛ حيث تنعدم قيود القلق والتشاؤم، وتنبعث السكينة، والهدوء، والراحة النفسية الوجودية المطلقة والثابتة.

لقد استعمل الشاعر رموزا صوفية تبرز نظرته الزاهدة في الحياة، المرتبطة بالحقيقة الإلهية والوجودية، حيث يقول:

فالأرض خمـــارة والدهـــر صاحبـــها **** وليــــس يرضـى بها غيــــر الألـى سكروا!

فإن رأيت أخا صحو فقل عجبا **** هل استظل بغيم ممطر قمر؟ ([103])

ترمز لفظة (خمارة) إلى الخمرة الصوفية التي تدل على فناء الشاعر/ الذات الإنسانية عامة بالذات الإلهية، وانتصار الإنسان على ذاته الضعيفة وملذاتها، وفنائه النهائي في الله المتمتع بالوجود الحقيقي.

لقد جعل جبران خليل جبران من المستوى الرمزي مساحة لتعبر فيها اللغة عن حقيقتها الفنية والتي لا ترضى بما هو موجود وكائن، بل تحاول أن تقيم بناء لغويا دلاليا يجمع بين المتحول القلق، وبين الثابت المريح، فالقصيدة رومانسية ذات طبيعة رمزية صوفية، استطاعت أن تحول الصراع الداخلي والجدل الفلسفي للذات الإنسانية، وما تسعى إليه في وجودها إلى الكمال، البعيد عن القناعة إلى رموز فنية دلالية ذات معاني غير محدودة، حاول من خلالها جبران خليل جبران إبراز فهمه للطبيعة الإنسانية المتناقضة في إطارها: المادي/ المعنوي، الواقعي/ الخيالي، الطبيعي/ المثالي، المتحول/ الثابت.

خاتمة:

في نهاية هذا البحث، يمكن القول أنّ لغة قصيدة جبران خليل جبران تحمل معنيين؛ المعنى الأول مباشر واضح الدلالة، والثاني غير مباشر؛ لا يمكن الوصول إليه إلا بتظافر مستويات التحليل البنيوي لإبراز دلالته الخفية، بدءا من الاستعمالات الصوتية في القصيدة، التي تنوعت بين تكرار الأصوات المجهورة والمهموسة، مما ترتب عنه نغما موسيقيا صنع الإيقاع الداخلي لها إلى جانب المكونات البديعية.

 كما اعتمدت في تشكيلها الموسيقي الخارجي على بحرين اثنين البسيط ومجزوء الرمل؛ ذلك أن المواكـــب قصــيدة ذات حــوار فلســـفي ذي صــوتين صــوت الشـــيخ الحكيم، الذي يمثل الحكمة الناضجة المستمدة من تجربة السـنين والحيـاة، والذي اتخذ (البسـيط) بحرا لـه، وصـوت الشـاب الـذي يرمـز إلـى الطبيعـة بعفويتهـا وقـد اتخذ (مجزوء الرمل) بحرا لـه.

ولعـل اختيـار جبـران بحـرين مختلفـين، ومزاوجته بين الجمل الفعلية والإسمية فـي مواكبـه يكون أوقع تعبيـرا على الحياة المعقـدة فـي ظـل الحضـارة، والتي تكشف عن اتجـاهين مختلفـين: الحيـاة الماديــة وقيمهـــا الزائفـــة المتحولة، والتي عبرت عنها الأفعال والأصوات الجهرية، والحيـــاة الأصـــلية الحقيقيـــة بــين أحضـــان الطبيعـــة حيــث المساواة والمحبـة، والتي عبرت عنها الأسماء والأصوات المريحة المهموسة، أسهم في ثرائها إيقاعيا وتركيبيا.

كما أن بعض تفعيلات القصيدة تخللتها زحافات وعلل، مما أبرز الحالة النفسية والشعورية للشاعر، دون أن تنقص هذه العلل من جمالية القصيدة في شيء.

اختلفت القصيدة من حيث تشكيلاتها البيانية، بحيث انطلقت من إبراز الصورة الكلية عبر مجموعة من الثنائيات: الخير/ الشر، الموت/ الحياة ...ثم الصورة التشبيهية، والصورة الاستعارية، والصورة البصرية والصورة السمعية؛ ذلك أن الشاعر لم يحد من الحدود المعرفية في تشكيل الصورة، إذ امتاح من البلاغة العربية هذه المكونات الأساسية للتصوير الفني.

لقد عملت المعاجم الدلالية في القصيدة على صنع جسد النص الشعري، انطلاقا من عدة معاجم متنوعة التي تشكل البنية الكلية للنص من: معجم الطبيعة، الموت، الإنسان...، إضافة إلى تراكيب الجمل التي توزعت على ثلاثة مقاطع قولية، كل قول فيها يمثل صوتا معينا، تتركب منه قولية القصيدة.

هذه القصيدة التي بنيت على لغة رمزية تحمل دلالات ومعاني إيحائية، تصرح بشكل غير مباشر عن قصدية الشاعر المتمردة على الواقع المتناقض للإنسان عامة، وللشاعر جبران خليل جبران خاصة.

 

 

المصادر والمراجع

أثر المحتسب في الدراسات الصرفية، خالد محمد عيال سلمان، دار الحامد للنشر والتوزيع، ط1، عمان،2010 م.

الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، محمد بن علي بن محمد الجرجاني، تحقيق: الدكتور عبد القادر حسين، مكتبة الآداب، 1997م.

أصداء دراسات أدبية نقدية، عناد غزوان، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2000 م.

الإعراب الميسر، محمد علي أبو العباس، دار الطلائع للنشر والتوزيع، القاهرة، دت.

تصريف الأسماء في اللغة العربية، شعبان صلاح، دار الثقافة العربية، ط1، القاهرة مصر، دت.

التعريفات، علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، تحقيق محمد الصديق المنشاوي، دار الفضيلة، مصر، 2004م.

الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، عبد الإله الصائغ، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، بيروت، 1999 م.

علوم البلاغة (البديع والبيان والمعاني)، محمد أحمد قاسم، محي الدين ديب، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط1، طرابلس لبنان، 2003 م.

الكافي في العروض والقوافي، الخطيب التبريزي، مكتبة الخانجي، تحقيق: الحساني حسن عبد الله، ط3، القاهرة، 1994م.

المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، دار الجيل للنشر والتوزيع والطبع، ط1، لبنان، 1994.

مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية، عبد الله خضر محمد، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، دت.

نظرية التحليل البنيوي للنص الشعري في كتابات النقاد العرب المعاصرين، بشير تاوريرت، مجلة الأثر، العدد 11، الجزائر، 2011 م.

نقد النثر، أبي فرج قدامة بن جعفر، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1980 م.


 

 

 



([1]) نظرية التحليل البنيوي للنص الشعري في كتابات النقاد العرب المعاصرين: ١٢٢.

([2])  مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 150.

([3]) أصداء دراسات أدبية نقدية: 27.

([4]) أصداء دراسات أدبية نقدية: 27.

([5]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([6]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([7]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([8]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([9]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([10]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([11]) الكافي في العروض والقوافي: 7.

([12]) الكافي في العروض والقوافي: 149.

([13]) الكافي في العروض والقوافي: 153.

([14]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/268.

([15]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/268.

([16]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/268.

([17]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/268.

([18]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([19]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([20]) الكافي في العروض والقوافي: 146.

([21]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([22]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([23]) التعريفات: 59.

([24]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([25]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/240.

([26]) الكافي في العروض والقوافي:172.

([27]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/240.

([28]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/240.

([29]) الكافي في العروض والقوافي: 170

([30]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/252.

([31]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/244.

([32]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([33]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/244.

([34]) الكافي في العروض والقوافي: 175.

([35]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/251.

([36]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 150.

([37]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/259.

([38]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/267.

([39]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/271.

([40]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/271.

([41]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/272.

([42]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/252.

([43]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/259.

([44]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([45]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 151.

([46]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([47]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/ 247.

([48]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([49]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/240.

([50]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/244.

([51]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/248.

([52]) نقد النثر:65.

([53]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([54]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/244.

([55])  المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([56])  المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/251.

([57]) علوم البلاغة (البديع والبيان والمعاني): 193.

([58]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([59]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: / 267.

([60]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/267.

([61]) الخطاب الشعري الحداثي والصورة الفنية:60.

([62]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([63]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([64]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([65]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 150.

([66]) الإعراب الميسر: 23.

([67]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([68]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([69]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([70]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([71]) الإعراب الميسر: 61

([72]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([73]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([74]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/239.

([75]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([76]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران:2/243.

([77]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران:2/260.

([78]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/272.

([79])  الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة: 101.

([80]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 244.

([81]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 150.

([82]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 239.

([83]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 239.

([84]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 239.

([85]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 239.

([86]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 267.

([87]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 264.

([88]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 244.

([89]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 271.

([90]) أثر المحتسب في الدراسات الصرفية: 27

([91]) تصريف الأسماء في اللغة العربية: 7.

([92]) تصريف الأسماء في اللغة العربية: 9.

([93]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/247.

([94]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 151.

([95]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 275

([96]) مناهج النقد الأدبي السياقية والنسقية: 151.

([97]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 239.

([98]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 247.

([99]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 243.

([100]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران:2/ 275.

([101]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران: 2/ 256.

([102]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران:2/ 272.

([103]) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران:2/243.