إفادة المرام في
إشارات النورسي
دراسة أسلوبية
د. أحمد محمود زكريا توفيق
جامعة حران، تركيا
البريد
الإلكتروني: Dr.ah.zak@gmail.com
معرف
(أوركيد): 0000-0001-5900-2949
بحث أصيل |
الاستلام: 25-9-2023 |
القبول: 15-10-2023 |
النشر: 31-10-2023 |
الملخص:
في الوقت الذي تسعى فيه الدراسة الأسلوبية إلى الوقوف
على الوسائل اللغوية التي تمنح نصا أو خطابا ما سماته المميزة وخصائصه الفارقة،
فإن الباحث الأسلوبي مَعْنِيٌّ كذلك بالكشف عن القيم الجمالية في النص ومدلولاتها،
وفي سبيل ذلك الهدف يستعين بعدد من الإجراءات في تحليل الخطاب أيا كان نوعه؛ وفي تلك المقالة التي
بين أيدينا سعى الباحث إلى دراسة نص "إفادة المرام" من كتاب
"إشارات الإعجاز" لبديع الزمان النورسي، حيث تناول النورسي الأسباب التي
دفعته إلى تصنيف كتابه، كما كشف عن مرامه المقصود وهدفه المنشود، وقد قام البحث
على مطلبين: الأول نظري يعرض مفهوم الأسلوب لغة واصطلاحا من جهة ويستعرض أنواع
الأسلوب وخصائصه وأوجه استعماله مع التمثيل لكل لون من جهة أخرى، والمطلب الثاني
تطبيقي يتناول بالتحليل نص "إفادة المرام" بالدرس والتحليل
بالوقوف على مستوياته الصوتية والمعجمية والتركيبية، ثم خاتمة بأهم نتائج
البحث.
الكلمات المفتاحية:
علم
اللغة، الأسلوبية، سعيد النورسي، إشارات الإعجاز
للاستشهاد/ :Atif İçin / For
Citation توفيق، أحمد محمود زكريا. (2023). إفادة المرام في إشارات
النورسي دراسة أسلوبية. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع8، 275- 299 https://www.daadjournal.com/ /
“Ifadat
al-Maram” in Nursi’s Signs
Stylistic study
Ahmed Mahmoud
Zakaria Tawfik
Assistant Professor, Harran University,
Turkey
E-mail: Dr.ah.zak@gmail.com
Orcid ID: 0000-0001-5900-2949
Published: 31.10.2023 |
Accepted: 15.10.2023 |
Received: 25.09.2023 |
Research Article |
Abstract:
At a time when the stylistic study seeks to identify the linguistic means
that give a text or speech its distinctive features and distinguishing
characteristics, the stylistic researcher is also concerned with revealing the
aesthetic values in the text and their meanings, and for that goal he uses a
number of procedures in analyzing the discourse, whatever its type.. In that
article that is in our hands, the researcher sought to study the text “Ifadat
al-Maram” from the book “Isharat al-I’jaz” by Badi al-Zaman Nursi. The text is
exquisite in its style and unique in its wording. In it, Nursi discussed the
reasons that led him to compile his book, and also revealed his intended goal
and desired aim. The research was based on two objectives: The first is
theoretical, presenting the concept of style linguistically and
terminologically on the one hand, and reviews the types of style, its
characteristics, and aspects of its use, along with the representation of each
type on the other hand. The second requirement is applied and deals with the
analysis of the text of the lesson’s benefit and the analysis of the pause at
its phonetic, lexical and syntactic levels. This was followed by a conclusion
with the most important results of the research.
Keywords:
Linguistics, Stylistics, Saeed
Nursi, Signs of Miracles.
تقديم:
منذ عهد النبوة ومع نزول الوحي تترا أقبل المسلمون على القرآن يتلونه حق
تلاوته، ويتدبرون معانيه، وكان لكبار الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله
عليه وسلم دور كبير في بيان مراميه وتفسير أحكامه بما منحهم الله من سعة أفق، ودقة
بصيرة، وسار على دربهم التابعون وتابعو التابعين على مر العصور، فظهرت المصنفات
تباعا تُعنى بتأويل القرآن وتقف على أسرار إعجازه وتكشف عن أوجه النظم الفريد حتى بلغت
من الكثرة مبلغا، وفي الوقت الذي شهد مفسرين يكررون سابقيهم تلخيصًا أو ترتيبًا أو تحشية
كان ثمة مفسرون آخرون قد فتح الله عليهم من بركاته، فاختص كل واحد منهم بموضوعه
الذي برع فيه، وأسلوبه الذي أجاده، فصاروا لآلئ متلألئة في تاريخ التفسير.
ويعد الإمام بديع الزمان سعيد النورسي واحدًا من المفسرين الذين تميزوا
بأسلوب خاص، وطريقة غير مطروقة، وكان رجاؤه أن تكون وجها من وجوه التأويل، والحق
أنها لم تكن كذلك فحسب، بل إن شئت قل: ووجهًا من وجوه التعبير عن التأويل، حيث استطاع
النورسي أن يعلو بلغته من حيث الدقة والتلوين والإيجاز شأوًا عاليًا، ونحن إذ نقرأ
رسائل النور بشكل عام وفي إشارات الإعجاز بشكل خاص نلحظ بوضوح تأثره ببلاغة
القرآن، فجاءت إشاراته رشيقة، وعباراته لطيفة، وتشبيهاته جذابة، وحججه قاطعة.
وعليه فإن الباحث يسعى في مقالته إلى الوقوف على خصائص الأسلوب لدى
النورسي، والكشف عن ملكات الكتابة الأدبية لديه، وأسرار صنعته الأسلوبية، من خلال
عينة مختارة من ثمرة يراعه، في نص بديع أودعه فاتحة إشاراته، وجعله قسمين وضع
للأول عنوان "إفادة المرام"، ولصنوه "نتيجة المرام"، ما يتطلب
أن تقوم الدراسة على مطلبين: الأول نظري، والثاني تطبيقي تحليلي، تعقبها خاتمة
تلخص جملة محصلات البحث.
الطَّرِيق المستوي([1])، وقيل: الْوَجْهُ
وَالْمَذْهَبُ وَالْفَنُّ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَسَالِيب([2])، ويقال: إِن كل شيء امتد
من غير اتساع، فهو: أسلوب على وزن أُفعُول، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ([3])، وَمِنْهُ قَوْلُهُم للمتكبّر: "إنَّمَا أنْفُهُ في أُسْلُوب"،
وَيُقَال: أَخذ فلَان فِي أَسَالِيبَ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ فُنُونٍ مِنْهُ([4])،
أَمَّا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ عَلَى أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَوْمِ فَيَعْنِي
عَلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِمْ([5])،
ومنه أسَالِيْبُ الشِّعْرِ ومَذَاهِبُه، وكانَ ذلك على أُسْلُوْبِ
الدِّهْرِ: أي على وَجهِه([6])،
وللمفارقة فإن مقابله في الإنجليزية كلمة (Style) تحمل
الدلالة اللغوية نفسها([7]).
باستقراء مظان المصادر التراثية التي يمكن أن تكون تناولت مفهوم الأسلوب
بمعناه الاصطلاحي، وقفنا على ما يمكن اعتباره إشارة له؛ حيث أومأ إليه أبو عبيدة
معمر بن المثنى (ت. ٢٠٩) في معرض حديثه عن أشعر الشعراء في الجاهلية، وأرجع تصنيف
بعضهم للأعشى واحدا منهم، إلى أنه "سلك أساليب لم يسلكوها"([8])، وكان يعني بالأسلوب
التراكيب الخاصة والصور المستحدثة والأخيلة المستجدة، فضلا عن الأغراض الكثيرة
التي نظم فيها الأعشى شعره، أما ابن قتيبة الدينوري (ت. ٢٧٦) فقد كره أن يسلك
الناظم "الأساليب التي لا تصحّ في الوزن ولا تحلو في الأسماع"([9])، ثم وجه اعتناء كل من الشاعر
والخطيب والكاتب إلى اتباع جملة من الأساليب فيحسن اختيار الروي، ويعمد إلى
الألفاظ السهلة، البعيدة من التعقيد، القريبة من فهم العامة، كما عدَّ ابن
سنان الخفاجي (ت. ٤٦٦) اختلاف الأبيات والفصول في الطول والقصر خروجًا عن أسلوب
المنظوم والمنثور([10])؛ أراد عادتهم في الصنعة، وكان عبد
القاهر الجرجاني (ت. ٤٧١) أكثر وضوحا فقال: "الأسلوب: الضْربُ مِنَ النْظم
والطريقةُ فيه"([11])، يعنى الصورة الشعرية
وطريقة التعبير عنها، فإذا وصلنا إلى حازم القرطاجني
(ت. 684) وجدناه يتحدث عن الأسلوب باعتباره هيئة تحصل نتيجة التأليف بين المعاني
ومتابعة الألفاظ والعبارات والانتقال من بعضها إلى بعض([12])،
وهو ما ذهب إليه ابن خلدون (ت. 808) فذكر أن الأسلوب عند أهل الصناعة عبارة عن
"المنوال الّذي ينسج فيه التّراكيب أو القالب الّذي يفرغ به"([13])؛ أراد بالمنوال الصّورة التي ترتسم في الذهن مثل القالب
الّذي يبنى فيه، وتتشكل هذه القوالب في الذهن باستظهار أشعار العرب وحفظ كلامهم.
أما الكتاب المحدثون فقد عرفوا الأسلوب بأنه "طريقة الإنسان في
التعبير عن نفسه كتابة"([14])، وقيل: "هو طريقة الكتابة،
أو طريقة الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد
الإيضاح والتأثير"([15]).
رغم أن لكل كاتب
أسلوبه الخاص، وطريقته في التعبير، إلا أنه يبقى موسومًا بسمات محددة تجعله يدخل في إطار التصنيف مع آخرين،
وبالنظر إلى نصوص الخطاب بكافة أنواعه أمكن تحديد الأساليب المستخدمة في ثلاثة
أنواع:
وهو أسلوب
مستعمل في نقل الحقائق العلمية بتجرد وحياد دون إفراط أو تفريط، وهو في سبيل ذلك يتجنب الكنايات
والتشبيهات والمجاز، ويخلو من الصور الفنية في العموم، هدفه مخاطبة عقل المتلقي
وإقناعه بالأفكار التي يشتملها النص، ولذلك
عادة ما يستعمله الباحثون والعلماء في طرح نظرياتهم والاستدلال عليها.
وهو أسلوب
مستعمل في نقل المشاعر والأفكار في إطار فني تصويري، بهدف التأثير في نفس المتلقي
وتحويل مشاعره لتتوحد مع الحالة النفسية التي تلتبس الكاتب أثناء إبداعه النص، وهو لتحقيق تلك الغاية يعتمد على المجاز والصور الفنية
والمحسنات البديعية والكنايات والتشبيهات وتنوع الأساليب بين الخبر والإنشاء، ولذلك عادة ما يستعمله الأدباء والشعراء وكتاب القصة
والرواية والمسرحية ونحو ذلك.
وهو أسلوب
مستعمل في تهييج الجماهير، واستنهاض الهمم، وتقوية العزائم في وقت الشدائد
والأزمات، وهو في سبيل ذلك يعتمد على الحجج القوية، والكلمات الجزلة، والمرادفات الكثيرة، وتكرار الجمل
والمعاني بأشكال مختلفة فضلاً عن وسائل أخرى تظهر عند تلقي هذا النص شفاهة، وهي وسائل متعلقة بكينونة الخطيب نفسه من حيث قوة
شخصية ونبرة صوته وحسن أدائه.
وقد يمزج الكاتب
بين أساليب عدة إذا كانت لديه الحرية في اختيار أسلوبه، دفعًا للسأم والملل الذي قد يصيب المتلقي من استعمال أسلوب واحد
في الكتابة، وربما لطبيعة الموضوع الذي يتناوله الكاتب حيث تفرض عليه تنوعا في
الأسلوب.
وجدير بالذكر أن النورسي نفسه تناول الأسلوب وجعله ثلاثة
أنواع: الأسلوب المجرد، وجعل خصائصه الاختصار وعدم التكلف والتلون، ويستمل
في المناظرات وعلوم الآلة ممثلاً له بكتب السيد الجرجاني، ثم الأسلوب المزين،
وجعل خصائصه التزيين وتحريك القلوب، ويستعمل في الخطابيات والإقناعيات ممثلاً له
بدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، أما الأسلوب العالي فهو أسلوب فريد وخاص جدا،
وجعل خصائصه القوة والهيبة والعلوية الروحانية ومقامه الإلهيات ممثلاً له بالقرآن الكريم([16]).
آثرنا أن ننقل النص محل الدراسة إلى المقالة لأهداف عدة منها التيسير على
القارئ، والتخفف من الإحالة، والحفاظ على الوحدة
العضوية للنص؛ التي بدونها يصعب فهم الدلالة الأسلوبية للنص بأكمله.
إِفَادَةُ الْمَرَام
أَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ جَامِعًا لِأَشْتَاتِ الْعُلُومِ
وَخُطْبَةً لِعَامَّةِ الطَّبَقَاتِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ،
لَا يَتَحَصَّلُ لَهُ تَفْسِيرٌ لَائِقٌ مِنْ فَهْمِ الْفَرْدِ الَّذِي قَلَّمَا
يَخْلُصُ مِنَ التَّعَصُّبِ لِمَسْلَكِهِ وَمَشْرَبِهِ؛ إِذْ فَهْمُهُ يَخُصُّهُ
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةُ الْغَيْرِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُعَدِّيهِ قَبُولُ
الْجُمْهُورِ، وَاسْتِنْبَاطُهُ - لَا بِالتَّشَهِّي - لَهُ الْعَمَلُ
لِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنْ
يُصَدِّقَهُ نَوْعُ إِجْمَاعٍ.
فَكَمَا لَابُدَّ لِتَنْظِيمِ الْأَحْكَامِ وَاطِّرَادِهَا وَرَفْعِ
الْفَوْضَى - النَّاشِئَةِ مِنْ حُرِّيَّةِ الْفِكْرِ مَعَ إِهْمَالِ الْإجْمَاعِ
- مِنْ وُجُودِ هَيْئَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ الَّذِينَ -
بِمَظْهَرِيَّتِهِمْ لِأَمْنِيَّةِ الْعُمُومِ
وَاعْتِمَادِ الْجُمْهُورِ - يَتَقَلَّدُونَ كَفَالَةً ضِمْنِيَّةً لِلْأُمَّةِ،
فَيَصِيرُونَ مَظْهَرَ سِرِّ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَصِيرُ
نَتِيجَةُ الْاجْتِهَادِ شَرْعًا وَدُسْتُورًا إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ وَسكَّتِهِ، كَذَلِكَ
لَابُدَّ لِكَشْفِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَجَمْعِ الْمَحَاسِنِ الْمُتَفَرِّقَةِ
فِي التَّفَاسِيرِ وَتَثْبِيتِ حَقَائِقِهِ - الْمُتَجَلِّيَةِ بِكَشْفِ الْفَنِّ
وَتَمْخِيضِ الزَّمَانِ - مِنَ انْتِهَاضِ هَيْئَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الْمُتَخَصِّصِينَ، الْمُخْتَلِفِينَ فِي وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ، وَلَهُمْ مَعَ
دِقَّةِ نَظَرٍ وُسْعَةُ فِكْرٍ لِتَفْسِيرِهِ.
نَتِيجَةُ الْمَرَامِ:
إِنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرُ الْقُرْآنِ ذَا دَهَاءٍ عَالٍ
وَاجْتِهَادٍ نَافِذٍ وَولَايَةٍ كَامِلَةٍ، وَمَا هُوَ
الْآنَ إِلَّا الشَّخْصُ الْمَعْنَوِيُّ الْمُتَوَلِّدُ مِنَ امْتِزَاج
الْأَرْوَاحِ وَتَسَانُدِهَا وَتَلَاحُقِ الْأَفْكَارِ وَتَعَاوُنِهَا وَتَظَافُرِ
الْقُلُوبِ وَإِخْلَاصِهَا وَصَمِيمِيَّتِهَا، مِنْ
بَيْنِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ، فَبِسِرِّ لِلْكُلِّ حُكْمٌ لَيْسَ لِكُلٍ كَثِيرًا مَا
يُرَى آثَارُ الاجْتِهَادِ وَخاصةُ الْولَايَةِ، وَنُورُهُ وَضِيَاؤُهَا مِنْ
جَمَاعَةٍ خَلَتْ مِنْهَا أَفْرَادُهَا.
ثُمَّ إِنِّي بَيْنَمَا كُنْتُ مُنْتَظِرًا وَمُتَوَجِّهًا لِهَذَا
الْمَقْصَدِ بِتَظَاهُرِ هَيْئَةٍ كَذِلِكَ - وَقَدْ كَانَ هَذَا غَايَةُ خَيَالِي
مِنْ زَمَانٍ مَدِيدٍ - إِذْ سَنَحَ لِقَلْبِي مِنْ قَبِيلِ الْحِسِّ قَبْلَ
الْوُقُوعِ تَقَرُّبُ زَلْزَلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَشَرَعْتُ - مَعَ عَجْزِي وَقُصُورِي
وَالْإِغْلَاقِ فِي كَلَامِي - فِي تَقْيِيدِ مَا سَنَحَ لِي مِنْ إِشَارَاتِ
إِعْجَاز الْقُرْآنِ فِي نَظْمِهِ وَبَيَانِ بَعْضِ حَقَائِقِهِ، وَلَمْ
يَتَيَسَّرْ لِي مُرَاجَعَةُ التَّفَاسِيرِ. فَإِنْ وَافَقَهَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ
وَإِلَّا فَالْعُهْدَةُ عَلَيَّ.
فَوَقَعَتْ هَذِهِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، فَفِي
أَثْنَاءِ أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْجِهَادِ كُلَّمَا انْتَهَزْتُ فُرْصَةً فِي خَطِّ
الْحَرْبِ قَيَّدْتُ مَا لَاحَ لِي فِي الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ بِعِبَارَاتٍ
مُتَفَاوِتَةٍ بِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ، فَمَعَ احْتِيَاجِهَا إِلَى التَّصْحِيحِ
وَالْإِصْلَاحِ لَا يَرْضَى قَلْبِي بِتَغْيِيرِهَا وَتَبْدِيلِهَا؛ إِذْ ظَهَرَتْ
فِي حَالَةٍ مِنْ خُلُوصِ النِّيَّةِ لَا تُوجَدُ الْآنَ، فَأَعْرِضُهَا
لِأَنْظَارِ أَهْلِ الْكَمَالِ لَا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّنْزِيلِ، بَلْ لِيَصِيرَ
- لَوْ ظَفِرَ بِالْقَبُولِ - نَوْعَ مَأْخَذٍ; لِبَعْضِ وُجُوهِ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ
سَاقَنِي شَوْقِي إِلَى مَا هُوَ فَوْقَ طَوْقِي، فَإِنِ اسْتَحْسَنُوهُ
شَجَّعُونِي عَلَى الدَّوَامِ.
وَمِنَ اللهِ التَّوْفِيقُ.
يدور الخلاف بين اللغويين حول مدى القدرة الدلالية التي يمتلكها الصوت
باعتباره أصغر وحدة لغوية؛ فبينما ذهب بعضهم إلى أنه لا علاقة بين أصوات الكلمة
والمعنى الذي تعبر عنه، ورأوا في السعي لإثبات تلك الرابطة قدرا من التكلف والتعسف([17])،
ذهب آخرون إلى أن الصوت يحمل في ذاته قيمة دلالية، وبالتالي لا يمكن تجاهل
المناسبة القائمة بين الأصوات ومدلولاتها، بل إن هناك من ذهب إلى أكثر من ذلك،
فوضع لكل صوت دلالة خاصة به([18]).
وفي المقابل فإن ثمة اتفاقا حول الطاقة التعبيرية التي يمكن أن يحدثها
الصوت في النص؛ "لفض مغاليقه الدلالية"([19])
بواسطة المؤثرات الصوتية النوعية والدلالة الإيقاعية المتمثلة في النبر والتنغيم
والجهر والهمس والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق وغير ذلك، ولا فرق هنا بين النثر والشعر، فكلاهما له موسيقاه الخاصة
وبالتالي فإن رصد تلك الدلالات في نص ما قد يكشف لنا مدى التلاؤم بين الموسيقى
الداخلية النابعة من ثنايا العمل الأدبي من جهة والحالة النفسية للأديب ومضمون
النص من جهة أخرى؛ فضلا عن الوقوف على بعض الخصائص الفنية في أسلوب كاتبه، وهو ما
قمنا باستقرائه في نصي "إفادة المرام
ونتيجة المرام".
حيث ظهر توزيع الأصوات التي
استعملها الكاتب من حيث الجهر والهمس على النحو التالي:
الأصوات المجهورة |
الأصوات |
عدد تكرارها |
ب |
39 |
|
ج |
29 |
|
د |
36 |
|
ذ |
14 |
|
ر |
63 |
|
ز |
9 |
|
ض |
10 |
|
ظ |
12 |
|
|
ع |
49 |
غ |
5 |
|
ل |
170 |
|
م |
98 |
|
ن |
79 |
|
الأصوات
المهموسة |
ت |
72 |
ث |
5 |
|
ح |
24 |
|
خ |
16 |
|
س |
26 |
|
ش |
12 |
|
ص |
24 |
|
ط |
8 |
|
ف |
57 |
|
ق |
44 |
|
ك |
30 |
|
ه |
71 |
بالنظر إلى بيانات الجدول السابق نلاحظ غلبة الأصوات المجهورة على الأصوات
المهموسة، وهو أمر رغم أنه يبدو بديهية؛ حيث تمنح الأصوات المجهورة الكلام سمته
المميز، وإيقاعه الذي ينافي حالة الصمت، إلا أنه قد يشي بدلالات إضافية بالنظر إلى
مدى توافقها مع الغرض من النص؛ حيث يؤسس النورسي لمشروعه الفكري، ويبدي حرصًا
شديدا على إسماع مريديه منهجه في تفسير القرآن، وبالتالي فهو يحتاج إلى اعتماد فونيمات تتسم بالقوة، لا تترك أمام القارئ مجالا سوى الإنصات،
وهذا لا يعني خلو النص من الأصوات المهموسة التي قد تمثل محطات استراحة للأوتار
الصوتية حيث لا تتذبذب عند النطق بها، كما أنها تسمح بمساحة من الهدوء والسكينة
يتمكن فيها كل من المتحدث والمستمع من تدبر المعاني المكنونة في ثنايا الكلام،
فضلا عما تحمله من معاني اللطف والحنو؛ للتأثير على قلب المستمع بشكل غير مباشر
وتحريك مشاعره بصورة إيجابية سعيًا نحو
تحقيق الهدف الأسمى للخطاب.
وعن طريق هذا التمازج بين الجهر والهمس ينشأ لنا نص إيقاعي متوازن يعبر عن
حالة انفعالية طبيعية لا تتسم بالتوتر أو التشنج
والتعصب.
لا شك أن تكرار صوت ما في خطاب ما يشكل جرسا خاصا كما يصنع إيقاعا من
الموسيقى الداخلية، تنبعث بين ثنايا النص، وقد يحدث هذ التكرار في أجزاء مختلفة
منه، فقد تلاحظه في المقاطع النبرية وكما تجده في أوائل الجمل، فقد ترصده في
أواخرها، وتارة تجده في آخر جملة وأول جملة تالية وهذا بدوره يخلق هندسات موسيقية متنوعة.
ويمكن التمثيل على هذا التكرار الموسيقي داخل النص، فلننظر مثلا إلى تكرار
حرف اللام في قوله: (أَقُولُ: لَمَّا)، والأمر نفسه مع تكرار الفونيمين
الصوتيين العين والميم في النص التالي له (كانَ الْقُرْآنُ جَامِعًا لِأَشْتَاتِ
الْعُلُومِ وَخُطْبَةً لِعَامَّةِ الطَّبَقَاتِ) وفونيم
الفاء في النص التالي (تَفْسِيرٌ لَائِقٌ مِنْ فَهْمِ الْفَرْدِ)، وفونيما الفاء والهاء في نحو (فَهْمُهُ يَخُصُّهُ ...
لِنَفْسِهِ فَقَطْ) وفونيم اللام الذي يتبادل المواقع
بين جوانب النص التالي فتارة في أول الكلمة وتارة في آخرها: (فَأَعْرِضُهَا
لِأَنْظَارِ أَهْلِ الْكَمَالِ لَا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّنْزِيلِ، بَلْ
لِيَصِيرَ - لَوْ ظَفِرَ بِالْقَبُولِ) وأخيرا وليس آخرا انظر إلى تكرار فونيمي القاف والياء في نحو قوله (قَدْ سَاقَنِي شَوْقِي
إِلَى مَا هُوَ فَوْقَ طَوْقِي).
وهكذا نلاحظ أن النص اشتمل على هندسات موسيقية
متنوعة منحت القارئ متعة سمعية إضافية، كما أضفت على النص نفسه مسحة أدبية شعرية
إن جاز التعبير.
تشتمل الألفاظ العربية على وحدات صوتية، تؤلفها صوامت تتبعها صوائت قصيرة
وطويلة تتوالى وفق ترتيب معين، ويختلف طولها من مقطع صوتي إلى آخر، لكنها تتفق في
أنها لا تبدأ إلا بصامت أو نصف صائت، وتأتي بنية المقطع الصوتي في اللغة العربية
على خمس صور:
-
مقطع قصير مفتوح، ويتألف من صوت صامت يليه صائت قصير،
فالفعل (ضَرَبَ) يتكون من ثلاثة مقاطع قصيرة، هي: ضـَ / ــرَ / بَ.
-
مقطع طويل مفتوح، ويتألف من صوت صامت يليه صائت طويل،
فالفعل (قالوا) يتكون من مقطعين طويلين، هي: قا/ لو.
-
مقطع طويل مغلق، ويتألف من صوت صامت يليه صائت قصير ثم
صامت، ومن أمثلتها أسماء الاستفهام (مَنْ)، وَ(كَمْ) وحروف النفي "لَمْ"
و"لَنْ"؛ حيث تتكون جميعها من مقطع طويل
مغلق.
وهذه المقاطع الثلاثة هي الأكثر شيوعًا في اللسان العربي؛ حيث ترد في أول
الكلمة ووسطها وآخرها، كما أنها تظهر في حالتي الوقف والوصل.
-
مقطع مديد مغلق بصامت، ويتألف من صوت صامت يليه صائت
طويل، ثم الوقف على الصامت التالي. ومن أمثلته الوقف على كلمة (سُورْ)؛ حيث تتكون
من (ســـــ/ صامت)، و(ـــــو/ صائت طويل)، و(رْ/ صامت في حال الوقف).
-
مقطع مديد مغلق بصامتين، ويتألف من صوت صامت يليه صائت
قصير، فصامت، ثم الوقف على الصامت التالي. ومن أمثلته الوقف على كلمة (قَصْرْ)؛
حيث تتكون من (قـــ/ صامت)، و(ــــَ/ صائت قصير)، و(ــصـــْ/ صامت)، (ـــرْ/ صامت
في حال الوقف).
وهذان المقطعان أقل شيوعًا في اللسان العربي؛ حيث يردان في آخر الكلمة،
ويظهران غالبا في حالة الوقف.
وسنحاول الوقوف على أنواع المقاطع التي وردت في الفقرة الأولى من نص
"إفادة المرام"، وما قد تعكسه من دلالات، على النحو التالي:
فَا |
دَ |
تُلْ |
مَ |
رَام |
|
ص ح |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ح
ص |
أَ |
قُولْ |
لَمْ |
مَا |
كَا |
نَلْ |
ص ح |
ص ح ح
ص |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح ح |
ص ح ص |
قُرْ |
آ |
نُ |
جَا |
مِـ |
عًا |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ص |
لـِ |
أَشْـ |
تَا |
تِلْ |
عـُ |
لُو |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ح |
مِ |
وَ |
خُطْ |
بــَ |
ــةً |
لِـ |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
عَامْ |
مَ |
تِطْ |
طَ |
بـَ |
قَا |
ص ح ح
ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح ح |
تَ |
فِي |
كُلْ |
لِلْ |
أَعْـ |
صَارْ |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ح
ص |
لَا |
يَـ |
تـَ |
حَصْ |
صَ |
لُ |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
لـَ |
ـهُ |
تَفْـ |
سِيـ |
رٌ |
لَا |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح ح |
ئــِ |
قٌ |
مِنْ |
فَهْـ |
مِلْ |
فَرْ |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ص |
دِلْ |
لَـ |
ذِي |
قَلْ |
لَـ |
مَا |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ح |
يَخْــ |
لـُ |
صُ |
مِـ |
نَتْ |
تَ |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
عَصْ |
صُـ |
بِ |
لـِ |
مَسْـ |
لَـ |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ـكِــ |
ـهِ |
وَ |
مَشـْ |
رَ |
بِهْ |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
إِذْ |
فَهـْ |
مـُ |
ـهُ |
يَـ |
خُصـْ |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
صـُ |
ـهُ |
لَيْـ |
سَ |
لَـ |
ـهُ |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
دَعْـ |
ـوَ |
تُلْ |
غَيْـ |
رِ |
إِ |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
لَيْـ |
ـهِ |
إِلْ |
لَا |
أَنْ |
يـُ |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح |
عَدْ |
دِي |
ـهِ |
قـَ |
بُو |
لُلْ |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح ص |
جُمْـ |
هُو |
رِ |
وَسْ |
تِنْ |
بَا |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح ح |
طُ |
ـهُ |
لَا |
بِتْ |
تَـ |
شَهْ |
ص ح |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
هِي |
لَـ |
هُلْ |
عَـ |
مـَ |
لُ |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
لـِ |
نَفْـ |
سـِ |
ـهِ |
فَـ |
قَطْ |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
وَ |
لَا |
يـَ |
كُو |
نُ |
حُـجْ |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ح |
ص ح |
ص ح ص |
جـَ |
ــةً |
عَـ |
لَلْـ |
غَيْـ |
رِ |
ص |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ص |
ص ح |
إِلْ |
لَا |
أَنْ |
يـُ |
صَدْ |
دِ |
ص ح ص |
ص ح ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
قُ |
ـهُ |
نَوْ |
عُ |
إِجْـ |
مَاعْ |
ص ح |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح |
ص ح ص |
ص ح ح
ص |
تتكون الفقرة الأولى المختارة كعينة من ١٦١ مقطعًا صوتيًا، ورد المقطع
القصير المفتوح ٧٣ مرة، والمقطع الطويل المغلق ٥٨ مرة، ويليه المقطع الطويل
المفتوح ٢٥ مرة أما المقطع الصوتي المديد المغلق بصامت فقد ورد خمس مرات في حال
الوقف، (رام/ قول/ عام/ صار/ ماع) وكان من الممكن في حال الوصل تحويله إلى مقطعين
أحدهما طويل مفتوح والأخر قصير مفتوح، وبالنسبة إلى المقطع المديد المغلق بصامتين فلم يرد بالنص،
وهو أمر شائع في العربية؛ حيث يتخلص من التقاء الساكنين بحذف أحدهما أو تحريكه، ويتضح لنا مما
سبق غلبة المقاطع القصيرة والطويلة على حساب المقاطع المديدة.
وفق هذه النتائج يمكننا القول إن أسلوب النورسي جاء منسجما صوتيا مع طبيعة
الخطاب العربي حيث تشيع المقاطع الصوتية القصيرة والطويلة دون المديدة في شعرهم
ونثرهم على حد سواء وذلك لخفتها على اللسان ويسر التلفظ بها دون جهد أو تكلف
بالإضافة إلى إيقاعها الموسيقي، على عكس المقاطع المديدة التي تحتاج إلى جهد أكبر
في التلفظ بها لكنها في الوقت نفسه تتمتع بمدى زمني أطول وطاقة أكبر ما يجعلها
أكثر وضوحًا في السمع.
أما عن الأثر الدلالي الذي يتركه استعمال تلك المقاطع الصوتية فيمكن
ملاحظته عبر تناسقه مع الفكرة التي يحملها النص وملاءمته للحالة الشعورية التي
تكتنف الكاتب، فالفقرة المختارة تعد تمهيدا للهدف من النص ومحاولة لتبصير القارئ
بضرورة الوصول إلى هذا الهدف، حيث أشار الكاتب إلى الجانب الموسوعي في القرآن
الكريم وصلاحيته كخطاب لكل الأزمنة والعصور، ما يستدعي تفسيرا يتميز بالصفات نفسها
أو يكاد، وهو ما لا يطيقه فرد بحال، إذن كان الخطاب عقلانيا هادئا موجها إلى ذهن المتلقي
بالدرجة الأولى، وهو ما يستلزم مقاطع صوتية متوازنة هادئة تتسم بالوضوح السمعي
والقوة ولا ترهق القارئ في الوقت نفسه، وبالتالي كانت المقاطع الصوتية القصيرة والطويلة مناسبة
تماما لإحداث ذلك الأثر.
يشكل المعجم اللغوي لأي كاتب ملمحًا هامًّا في الكشف عن أسلوبه الأدبي، فمن
خلال تتبع اختياراته لألفاظ دون ألفاظ، يمكننا الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا وفقًا
لمدى تناسبها مع المعنى، كذلك فإن تكرار بعض المفردات اشتقاقًا أو ترادفًا قد
يسهم في ترابط النص واتساقه، فضلاً عن منحه إيقاعًا موسيقيًّا ما، أما عن أثره
في المعنى فلا ريب أن في تكرار ذكر لفظة ما قد توحي بمركزيتها،
ورغبة الكاتب في توجيه ذهن المتلقي إليها؛ لأن التكرار في النص ليس عملا اعتباطيا
يجري دون قصد، بل هو تعبير عن حالة شعورية مسيطرة على الكاتب، والوقوف على رصده
وتحليله يمنحنا فرصة لإدراك طبيعة تلك الحالة الوجدانية أو الفكرية وأثرها في
إنشاء النص.
وبإحصاء المعجم اللغوي في نص "إفادة المرام" للإمام النورسي،
تظهر لنا النتائج التالية في الجدول التالي:
عدد الكلمات |
355 |
عدد الأحرف |
2858 |
وكانت نسبة تكرار الكلمات على النحو التالي:
من |
14 (%4,14) |
القرآن |
3 (%0,89) |
في |
9 (%2,66) |
لي |
3 (%0,89) |
لا |
6 (%1,78) |
كان |
2 (%0,59) |
إلاّ |
4 (%1,18) |
تفسير |
2 (%0,59) |
ما |
4 (%1,18) |
الذي |
2 (%0,59) |
له |
3 (%0,89) |
اذ |
2 (%0,59) |
أن |
3 (%0,89) |
ليس |
2 (%0,59) |
لابد |
3 (%0,89) |
الغير |
2 (%0,59) |
مع |
3 (%0,89) |
الجمهور |
2 (%0,59) |
هيئة |
3 (%0,89) |
يكون |
2 (%0,59) |
بالنظر إلى النتيجة السابقة نلاحظ تكرارًا لبعض الحروف
وأدوات الربط والصلة والاستثناء والنفي نحو (من، في، على، مع، لا، إلا، ما) وهي
تؤدي دورا وظيفيا داخل النص، فتعمل على تماسك جمله وترابط عباراته، أما ما يخص
الأسماء المكررة فنلاحظ تكرارا مميزا لأسماء بعينها نحو (القرآن، هيئة، تفسير،
الجمهور) وكأنها كلمات مفتاحية تعبر عن موضوع النص وتفصح عن قضيته، فالفكرة
الرئيسة التي يحملها النص تشير إلى رغبة المؤلف في تكوين هيئة علمية جماعة لتفسير
القرآن الكريم، وتكرار هذه الكلمات يصب في التأكيد على هذا الهدف، كما يشير إلى أن
الفكرة ملحة في عقل الكاتب وانعكس ذلك على أسلوبه بطبيعة الحال، أما الفعل
[يكون] فقد تكرر في سياقين مختلفين شكلا وإن اتحدا مضمونا فالأولى في قوله: (وَلَا
يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ نَوْعُ إِجْمَاعٍ). وهو
نفي للكون والوقوع والتكرار الثاني في قوله: (إِنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُفَسِّرُ الْقُرْآنِ ذَا دَهَاءٍ عَالٍ وَاجْتِهَادٍ نَافِذٍ وَولَايَةٍ كَامِلَةٍ) وهو
استدعاء للكون وضرورة وقوعه، ومع ذلك فتكرار الكون يشير إلى الهدف الرئيسي للنص
وهو أنه لا يمكن أن يكون التفسير ذا حجية على الجميع إلا إذا كان المفسر ذا ولاية
كاملة وتحظى بقبول الجميع، أو بعبارة أخرى (يكون) التفسير حجة عندما (يكون) المفسر
هيئة، فـ "الكون" هناك يقابله "كون" هنا
أو العكس.
يمنح تركيب الجملة للأديب مساحة إضافية للتعبير عن مراده والوصول إلى
مقصده، بصورة تفوق ما تدل عليه ألفاظ الجملة نفسها؛ حيث تنتج الدلالة من اختيار
نوع الجملة ابتداء، ثم تشكيل نمط أو قالب يستوعب المعنى وفق نظام اللغة وعبر
تقنيات لغوية مثل التقديم والتأخير والوصف والحذف والاستبدال ونحو ذلك، حيث ينتقي
منها الكاتب انتقاء ليصنع أسلوبه الخاص. وعلى المتلقي أن يبحث في ظلال المعنى
المتولدة من ثنايا التركيب.
وباستقراء نص "إفادة المرام" للنورسي، تبين استخدامه لنوعي
الجملة الاسمية والفعلية مع غلبة الفعلية على الاسمية، وهو ما يوضحه الجدول
التالي:
نوع الجملة |
عددها |
الجملة
الإسمية |
3 |
الجملة
الإسمية المنسوخة |
6 |
الجملة
الفعلية |
23 |
الجمل
الفعلية المحولة |
9 |
يلاحظ استعمال النورسي للجملة الفعلية في بناء نصه بدرجة أكبر، ليعبر عن أحداث كثيرة ووقائع جمة يشتمل عليها
النص، بل إن تركيب الجملة الاسمية نفسه كان لا يخلو أحيانا من جملة فعلية صغرى تقع
موقع الخبر نحو قوله: (إِذْ فَهْمُهُ يَخُصُّهُ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةُ الْغَيْرِ
إِلَيْهِ)، وهو ما جمع بين دلالة الجملة الاسمية على الدوام
والاستمرارية ودلالة الجملة الفعلية على الحدوث والتجدد، وقد كان لهذا
التفوق العددي في استعمال الجملة الفعلية دور في منح النص ديناميكة
وحركية وتجددا، كما أنه تناسب مع غاية المؤلف التي تسعى إلى تحريك همم العلماء
واستنهاض المختصين للقيام بالمسئولية المنوطة بهم تجاه تفسير القرآن الكريم.
وقد لوحظ أيضا تناوب زمن الجملة الفعلية بين الماضي والمضارع، ولعل ذلك
يرجع إلى أن النص يتناول قضية تتشعب فروعها، بين مسألة عامة وحقيقة واقعة من وجهة
نظر الكاتب، شأنها شأن الدستور أو الناموس الكوني لا يتبدل ولا يتغير، وقد استعمل
لها المضارع [البسيط]([20])، نحو قوله (لَا يَتَحَصَّلُ
لَهُ تَفْسِيرٌ لَائِقٌ مِنْ فَهْمِ الْفَرْدِ الَّذِي قَلَّمَا يَخْلُصُ مِنَ
التَّعَصُّبِ لِمَسْلَكِهِ وَمَشْرَبِهِ/ يُعَدِّيهِ قَبُولُ الْجُمْهُورِ/ يُصَدِّقَهُ
نَوْعُ إِجْمَاعٍ/) وهناك أحداث خاصة بالكاتب اختلف زمانها بين الماضي [التام]
والمضارع [المستمر[
نحو قوله: (فَوَقَعَتْ هَذِهِ الطَّامَّةُ
الْكُبْرَى/كلما انْتَهَزْتُ فُرْصَةً فِي خَطِّ الْحَرْبِ قَيَّدْتُ مَا لَاحَ
لِي/ ظَهَرَتْ فِي حَالَةٍ مِنْ خُلُوصِ النِّيَّةِ لَا تُوجَدُ الْآنَ،
فَأَعْرِضُهَا لِأَنْظَارِ أَهْلِ الْكَمَالِ/ لَوْ ظَفِرَ بِالْقَبُولِ/ وَقَدْ
سَاقَنِي شَوْقِي/ فَإِنِ اسْتَحْسَنُوهُ شَجَّعُونِي عَلَى الدَّوَامِ)، فالحرب العالمية
حدث ماض لكنه أثره قائم يستلزم الإسراع في تدوين تلك الخواطر والإشارات.
كما لوحظ غياب صياغة الأمر داخل النص ويرجع ذلك إلى الكاتب لا يمتلك سلطة على المتلقى تمنحه القدرة على إصدار الأوامر والتعليمات، حتي إذا افترضنا وجود سلطة أدبية باعتباره عالما له مريدوه
وتلاميذه فإن تواضعه وحياءه يمنعانه من ذلك، فضلاً عن أن الخطاب
نفسه لا يقوم على الأمر والتكليف وإنما يعتمد على العرض
والإقناع.
أما عن الجملة الاسمية فقد وردت في سياقات وصفية
ومقامات تقريرية لإفادة الدوام والاستمرار.
خاتمة:
في نهاية هذا التحليل الأسلوبي لنص إفادة المرام لصاحبه بديع الزمان
النورسي، يمكن الإشارة إلى جملة من النتائج منها:
- غلبة الفونيمات
الصوتية المجهورة على الفونيمات الصوتية المهموسة جاء
متوافقا مع النسب الطبيعية للخطاب في عمومه، حيث يغلب الجهر على الهمس، وكان دالاً على رغبة
الكاتب في إسماع صوته والجهر بفكرته والحرص على وصولها كاملة نقية وغير مشوشة.
- التمازج بين المجهور والمهموس عبّر
عن حالة نفسية مطمئنة لدى الكاتب وثبات انفعالي منشؤه وضوح كلٍّ من الهدف والوسيلة معًا.
- نجح الكاتب في تكوين موسيقى داخلية
منحت نصا نثريا نغما مميزا، وذلك بواسطة تكرار فونيمات
بعينها وتشكيل مجموعات صوتية وهندسات إيقاعية متنوعة.
- تكرار كلمات (هيئة، القرآن، تفسير،
الجمهور) تشير إلى أهميتها داخل النص من حيث دورها في الكشف بوضوح عن الهدف
الرئيسي من النص وتبدو مثل كلمات مفتاحية تعبر عن مكنونه والغرض من إنشائه.
- شيوع الجملة الفعلية يشير إلى كثرة
الأحداث والوقائع التي يرصدها النورسي ويتكئ عليها في تمكين فكرته في العقول أو
على الأقل تقريبها إلى الأفهام.
- تجنب الكاتب استعمال الفعل الأمر
على أي وجه كان، يشير إلى حرصه على منح المتلقي الحرية الكاملة في تلقي فكرته
بالقبول أو رفضها، فالخطاب ينبني على الحجة والبرهان لا على الجبر والإذعان.
المصادر والمراجع
الأسلوب، أحمد
الشايب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1991م.
إشارات الإعجاز
في مظان الإيجاز، بديع الزمان سعيد النورسي، رئاسة الشئون
الدينية التركية، أنقرة، 2014م.
تاج
العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق
الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تح. مجموعة من المحققين، دار الهداية، الكويت، 1965م.
تهذيب
المقدمة اللغوية للعلايلي، أسعد أحمد علي، دار السؤال، دمشق،
1985م
جمهرة
اللغة، بن دريد الأزدي، تحقيق. رمزي منير بعلبكي، دار العلم
للملايين، بيروت، 1987م.
دلائل
الإعجاز في علم المعاني، أبو بكر عبد القاهر الجرجاني، تحقيق:
محمود محمد شاكر أبو فهر، مطبعة المدني، (القاهرة، 1992م.
الديباج، أبو
عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: عبد الله بن سليمان الجربوع - عبد الرحمن بن سليمان
العثيمين، مطبعة الخانجي، القاهرة،1991م.
سر
الفصاحة، عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي، دار الكتب
العلمية، بيروت، 1982م.
الشعر
والشعراء، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، دار الحديث،
القاهرة، ١٤٢٣م
شمس
العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، نشوان بن سعيد
الحميري اليمني، تحقيق:
حسين بن عبد الله العمري وآخرين، دار الفكر، بيروت، 1999م.
علم
الأسلوب مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل، دار الشروق، القاهرة، 1998م.
المحيط
في اللغة، إسماعيل بن عباد المشهور بالصاحب بن عباد، دار الكتب
العلمية، بيروت، 2010م.
المخصص، علي
بن إسماعيل بن سيده المرسي، تحقيق: خليل إبراهيم جفال، دار إحياء التراث العربي،
بيروت، 1996م.
المصباح
المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي،
المكتبة العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
معجم
المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبه -
كامل المهندس، مكتبة لبنان، بيروت، بدون تاريخ.
المقدمة، ابن
خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، 1988م.
من
أسرار اللغة، إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية،
القاهرة، 1966م.
من
الصوت الى النص نحو نسق منهجي لدراسة النص الشعري، مراد
عبد الرحمن مبروك، عالم الكتب، القاهرة، 1993م.
منهاج
البلغاء وسراج الأدباء، حازم بن محمد بن حسن بن حازم القرطاجني، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب
الإسلامي، بيروت، 1986م.