العدول النحوي في الشاهد الشعري في الكتاب

شعر زهير بن أبي سلمى أنموذجا

د. عبد الحليم عبد الله

جامعة أردهان، تركيا

البريد الإلكتروني: dr.halim40@gmail.com

معرف (أوركيد): 0000-0002-5298-9741

بحث أصيل

الاستلام: 15-9-2023

القبول: 10-10-2023

النشر: 31-10-2023

 

 

الملخص:

جعل النحاةُ الشعرَ العربيَّ في عصر الاحتجاج إلى جانب القراءات القرآنية في المستوى الأول من أصول النحو العربي؛ ولكنّ اللافت للانتباه أن الأشعار التي وسعتها كتب النحاة وحَفِلت بها كان ذات انزياح عن الأصل المرجوح، وهو القياس.

غير أن النحاة عند التطبيق جاؤوا إلى ذلك المسموع وراحوا يبحثون له عن تخريج؛ إذا لم يوافق قواعدهم التي قعّدوها وقاسوا عليها في النحو، ورمَوا بعضه بالشذوذ، وخطّؤوا بعضه الآخر، معلّلين ذلك بتعليلات مختلفة، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما بال النحاة قد جعلوا السماع أصلا راجحا ثم خطّؤوه؟ وما بالهم ضعّفوا المتكلّم وإن كان جاهليا كزهير بن أبي سُلمى وهو المشهور بتنقيحه الشعر لحول كامل حتى وُصِف بأنه من عبيد الشعر وأصحاب الحوليات.

يهدف هذا البحث إلى إعادة النظر في القاعدة من خلال دراسة شواهد زهير بن أبي سلمى في الكتاب، وموقف إمام النحاة (سيبويه) من أشعاره.

الكلمات المفتاحية:

كتاب سيبويه، العدول النحوي، الشاهد الشعري، زهير بن أبي سلمى.

 


للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation عبد الله، عبد الحليم. (2023). العدول النحوي في الشاهد الشعري في الكتاب، شعر زهير بن أبي سلمى أنموذجا. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع8، 249- 273https://www.daadjournal.com/ /

Grammatical Deviation in Witnesses of  Kitap

in the Example of Poetry of Zuheyr b. Abi Sulma

 

Abdulhalim ABDULLAH

Assistant Professor, Ardahan University, Turkey

E-mail: dr.halim40@gmail.com

Orcid ID: 0000-0002-5298-9741

 

Published: 31.10.2022

Accepted: 10.10.2023

Received: 15.09.2023

Research Article

Abstract:

All grammarians agree that the first level is to listen (to the words of the Arabs in the age of protest), and that the Arabs who argue do not need justice. Grammarians made Arabic poetry within the time frame of the age of protest along with Qur'anic readings in the first level of this origin listening), but it is interesting to note that the poems provided by the grammar books kept them in contradiction with the second origin, the measurement. To be specific, the ideal question to be asked here is, why grammarians did the listening patterns as standard firstly then said about it as irregular?

Why did they weaken the people living in the pre-Islamic age like Zuhair who was well known for his revision’s forb poems throughout all year long which leaded to be called as poetry’s bondsman. This research aims to reconsider the grammatical rule by saying the concerted clues in the linguistic text by studying the evidence of Zuhair in the book, and the position of Sibawayh of his poems.

Keywords:

 Sibawayh’s Kitap, Exit grammar, poetic witness, Zuhair bin Abi Sulma.

 


تقديم:

استُخدِمَ مصطلح (العدول) في علم الدلالة؛ للتعبير عن خروج الدلالة عن معناها الحقيقي إلى معنى مستفادٍ من السياق، لكنني اقترضت هذا المصطلح (العدول) في بحثي هذا؛ وسمّيته (العدول النحوي) للدلالة على معنى الخروج عن القاعدة النحوية. 

وقد أجمع النحاة في أصولهم – كما أسلفنا – على أنّ المسموع الذي يُوثَق بفصاحته حجةٌ في اللغة، فشَمِل ذلك عندهم: النص القرآني والحديث الشريف -على اختلافهم فيه- وكلام العرب: نثرهم وشعرهم إلى أن فسدت السلائق وتسرّب اللحن إلى الألسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا، عن مسلم أو كافر. ([1])

ولا شك بأن زهير بن أبي سلمى من الشعراء الذين يُحتجّ بشعرهم، فهو من فحول الشعراء الجاهليين، ومن المشهود لهم بتنقيح الشعر وإعادة النظر فيه حولا كاملا، حتى سُمي شاعر الحوليات.

والذي رأيته أن النحاة قلّما استشهدوا بالشعر لإثبات قاعدة، بل أكثروا من الاستشهاد بالشعر عندما رأوا أن هذا الشعر قد انزاح عن القاعدة التي قعّدوها، وقد وجدت لزهير في كتاب سيبويه بضعة عشر شاهدا شعريا، اقتصرت الشواهد النحوية منها على عشرة، يمكننا أن ندرسها في عشر قضايا، أسوقها كما يلي:

1.       القضية الأولى قضية العطف على التوهم:

عرفَ النّحاة ظاهرة العطف على التوهم منذ أيّام الخليل وسيبويه، واختلفوا بشأنها، واضطربت أقوالهم في تحديد مصطلح جامع لها، فحملها سيبويه على الغلط، وحملها آخرون على التّوهم، كما جعلها فريقٌ ثالث حملا على المعنى، لأنّ مصطلح التّوهّم لا يتناسب وجلال الآيات القرآنيّة.([2])

والشاهد في ذلك قول زهير: ([3])

بَدَا لِي أَنَّي لستُ مُدْرِكَ ما مضَى      ولا سابِقٍ شيئًا إذا كان جائيا

وصف سيبويه لغة الشاهد - براوية الجرّ- بأنّها لغة رديئة، قال: "وهذه (ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا) لغةٌ رديئة، وإنما هو غلطٌ"([4])  ولكن لما كان الأول تستعمل فيه الباء ولا تغير المعنى، وكانت مما يلزم الأول نَوَوها [أي الباء الزائدة] في الحرف الآخر، حتى كأنهم قد تكلموا بها في الأول([5]) فحملوه على ليسوا بمُصلحِين، ولستُ بمدركٍ([6])، والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد (ولا سابقٍ شيئًا).([7])

يقول سيبويه: "وسألت الخليل عن قوله عز وجل: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾([8])  فقال: هذا كقول زهير:

بَدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى        ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

فإنَّما جروا هذا، لأنَّ الأول قد يدخله الباء، فجاؤوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزمًا ولا فاء فيه تكلموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهموا هذا"،([9]) والذي ذهب إليه الخليل أن العامل – الباء الزائدة - لمّا كان وقوعه متكررا في خبر ليس، عُطِفَ بالجر على محلّ المعمول، وإن لم تزد الباء في خبر ليس في المثال السابق.

وافترض الفرّاء تساؤلًا وأجاب عنه، قال: "كيف جُزِمَ (وأكنْ)، وهو مردود [معطوف] على فعل منصوب؟ فالجواب في ذلك أنّ (الفاء) لو لم تكن في (فأصدّق)، كانت مجزومة، فلمّا رددتَ [عطفت] (وأكنْ)، رُدّت على تأويل الفعل لو لم تكن فيه الفاء([10]) لأن موضع الفعل (أصدق) عاريا من الفاء الجزم بجواب الطلب، وإلى ذلك ذهب أبو عبيدة " إلى جزم (وأكنْ) على موضع الفاء في (فأصّدّق)، وموضعها الجزم على جواب التمني".([11])

وأشار ابن هشام إلى أن القراء - غير أبي عمرو - قد قرؤوا بمثل ذلك على توجيه إسقاط الفاء من الفعل (أصدق)، وجعله من قبيل العطف على المعنى. قال ابن هشام: "قَرَأَ غير أبي عَمْرو: ﴿لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب فَأَصدقْ وأكنْ﴾ بِالجَزْمِ فَقيل: عطف على مَا قبله على تَقْدِير إِسْقَاط الفَاء وَجزم أصدق وَيُسمَّى العَطف على المَعْنى، وَيُقَال لَهُ فِي غير القُرْآن: العَطف على التَّوَهُّم، وَقيل عطف على مَحل الفَاء وَمَا بعْدهَا وَهُوَ (أصَّدقْ) وَمحله الجَزْم، لِأَنَّهُ جَوَاب التحضيض ويجزم بأن مقدرَة وَإنَّهُ كالعطف على ﴿من يضلل الله فَلَا هاديَ لَهُ ويذرْهم([12]) بِالجَزْمِ... وَبعدُ فالتحقيق أَن العَطف فِي البَاب من العَطف على المَعْنى؛ لِأَن المَنْصُوب بعد الفَاء فِي تَأْوِيل الِاسْم، فَكيف يكون هُوَ وَالفَاء فِي مَحل الجَزْم؟" ([13])

وأنشد سيبويه ما قوّى به ما ذكره من أنّه يعطف على شيء يُقدَّر وإن لم يلفظ به، وشيء يعطف على ما كان يجوز استعماله في موضع المعطوف عليه، ومنه قول صرمة الأنصاري: بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى     ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا([14])

وقول الأخوص اليربوعيّ:

مشائيم ليسوا مصلحينَ عشيرة     ولا ناعبٍ إلّا ببين غرابها ([15])

وإنما خفض (سابق وناعب) وليس قبلهما مخفوض، لأنه يجوز أن تقول: لست بمدرك ما مضى، وليسوا بمصلحين، فتقع الباء فيهما ويكثر في موضعهما من خبر ليس الباء، فحملها في الخفض على ما كان يستعمل.([16])

وقال المبرد: "إنّ حروف الجرّ لا تعمل مضمرة، وروى (سابقًا) و(ناعبًا) بالنصب ونسب إلى سيبويه: أنه روى بالجرّ سماعًا عن العرب، رغم ضعفه وبُعده".([17])

والذي أريد قوله: كيف للنحاة أن يحكموا على نصوص من فصيح الكلام: نثره وشعره بالضعف أو اللغة الرديئة؟ بل هو فصيح يُحتج به وإن لم يوافق قواعد النحاة، فعلى النحاة أن يقعّدوا قواعد جديدة توافق هذا المسموع.

2.       القضية الثانية قضية رفع المضارع في جواب الشرط الجازم غير المقترن بالفاء

يقتضي عمل أدوات الشرط الجازمة جزم فعلين مضارعين، الأول منهما فعل الشرط والثاني جواب الشرط، وهذا أمر لا خلاف فيه، لكن ثمة شواهد شعرية ونثرية وقع فيها جواب الشرط مرفوعا، فذهب النحاة في الجواب مذاهب؛ ففريق منهم ذهب إلى أن هذا الجواب ليس بجواب للشرط، وإنما هو قرينة مؤخّرة من تقديم تدلّ على جواب الشرط، والجواب محذوف لدلالة القرينة عليه، وهذه خلاصة مذهب سيبويه ومن تابعه، وذهب فريق آخر إلى أن المذكور جواب الشرط؛ لكنّه على تقدير الفاء الرابطة لجواب الشرط؛ التي متى وقع الفعل المضارع بعدها وجب رفعه؛ وهذه خلاصة مذهب المبرّد ومن تابعه، فقال: "على إِرَادَة الفَاء على مَا ذكرت لَك([18]) وذهب فريق ثالث من النحاة إلى أن فعل الشرط إن كان ماضيا كان جزم الجواب جوازا، وللمتكلم أن يجزم أو أن يرفع، وإن كان فعل الشرط مضارعا وجب جزم فعل الجواب في مثل هذه الحال، وما جاء من مضارع جوابا مرفوعا سبقه مضارع في فعل شرط؛ فإنما هو من قبيل الضرورة الشعرية، قال ابن مالك في جواب الشرط الجازم: "وإذا جاء الجزاء على مقتضى الأصل صالحا للشرطية لم يحتج إلى فاء تربطه بالشرط، فالأولى خلوه منها، ويجوز اقترانه بها؛ فإن خلا منها وصدر بمضارع جُزِم، سواء كان الشرط مضارعا نحو: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾،([19]) أو ماضيا كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾، ([20]) وقول الفرزدق:

دسَّتْ رسولا بأن القوم إن قَدروا  عليك يَشْفُوا صدورا ذاتَ توغِير

وقد يُرفَع بكثرة إن كان الشرط ماضيا، أو منفيا بلم، وبقلة إن كان غير ذلك... وقول أبي صخر:

وليس المُعَنَّى بالذي لا يَهِيجُه       إلى الشوق إلا الهاتفاتُ السَّواجِعُ

ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه         يقولُ - ويخفي الصبر- إني لجازعُ"([21])

والشاهد في الكتاب قول زهير:

وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ           يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ([22])

والشاهد فيه أنه رفع (يقولُ) ولم يجعله جوابا مجزوما للشرط في اللفظ، وجعله في تقدير التقديم، كأنه قال: يقول لا غائبُ مالي إنْ أتاه خليلُ. و"قال ذو الرمة:

وأنّي متى أشرف على الجانب الذي                  به أنت من بين الجوانب ناظر

أي: ناظر متى أشرف، فجاز هذا في الشعر، وشبّهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزمًا... وقد يقال: إن أتيتني آتك، وإن لم تأتني أجزك، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم؛ فكأنه قال: إن تفعل أفعل". ([23])

والذي أراه أن التركيب لا يحتاج إلى تقدير سيبويه ولا إلى تقدير المبرد، والأقرب إلى روح اللغة وفصاحتها مذهب ابن مالك الذي جعل الجزم جوازا، فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت.

3.       القضية الثالثة قضية نصب الاسم بفعل يفسره فعل مذكور بعده

الاشْتِغَالُ أَنْ يَتَقَدَّمَ اسْمٌ وَيَتَأَخَّرَ عَنْهُ عَامِلٌ مُشْتَغِلٌ عَنْ نَصْبِهِ بِضَمِيرِهِ، أَوْ نَصْبِ المُتَّصِلِ بَضَمِيرِهِ، بحيْثُ لَوْ تَفَرَّغَ لَهُ لنَصَبَهُ، وَيُسَمَّى هذا الاسمُ (مَشْغُولاً عَنْهُ)، ويَجِبُ نَصْبُ المشْغُولِ عَنْهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا إِنْ وقع بعد ما يختص بالدخول على الأفْعَالِ، وَيَجِب رَفْعُهُ إِنْ وَقَعَ بَعْدَ ما يختص بالدخول عَلَى الأسْمَاءِ كإِذَا الفُجَائِيَّةِ، أَوْ قَبْلَ أداة لا يعملُ ما بعدها فيما قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ وَرَفْعُهُ فِيما سِوَى ذَلِكَ. ([24])

والشاهد في الكتاب قول زهير:

لا الدَّارَ غَيَّرَها بَعْدِيَ الأَنيسُ ولا      بالدّارِ لو كَلَّمَتْ ذا حاجةٍ صَمَمُ([25])

الشاهد في إنه نصب (الدار) بفعل يفسره (غيَّرها) كأنه قال: لا غيَّر الدار غيَّرها. يقول لم يغير الدار عما أعرفها به بعد الأنيس عنها، غيرتها الأمطار والأرواح مع بعد الأنيس عنها، ويروى: لا الدارَ غَيَّرها بُعدُ الأنيسِ.([26]) والسؤال الذي يطرح نفسه: لِمَ علينا تقدير الفعل في هذا الموضع وقد ورد مثله كثير في كلام العرب وفي القرآن الكريم؟ كما في قوله تعالى في سورة التكوير: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)﴾.([27])

والمعروف أن الكثير لا يحتاج إلى تأويل ولا يقاس على غيره بل يُقاس عليه؛ لكن النحاة قالوا: إن أدوات الشرط لا تباشر الاسم – ما عدا لولا - فإن باشرت الاسم أوجبوا تقدير فعل محذوف يفسّره الفعل المذكور بعده، وقاسوا على (إذا) الشرطية (إذا) الظرفية، وقدّروا فعلا بعدها أيضا، وفي هذا التقدير نظر، لأنه كثير في كلام العرب.

4.       القضية الرابعة قضية وقوع المصدر حالا

والشاهد في الكتاب قول زهير:

فَلأْيًا بَلأْي مَا حَمَلْنا وَليدَنا          على ظَهْرِ مَحْبوكٍ ظِماءٍ مَفاصِلُه([28])

فالتقدير فيه: فلأيا بلأي حملنا، وما زائدة، ولأيا: ببطءٍ وجهد، فكأنه قال: مجهودين حملنا وليدنا، ومبطئين حملنا وليدنا، ويقال: التأت عليه الحاجة إذا أبطأت([29])، وأجازه أبو العباس ثعلب والزمخشري وشارحه ابن يعيش: "اعلم أنّ المصدر قد يقع في موضع الحال، فيقال: (أتيتُه رَكْضًا)، و(قتلتْه صَبْرًا)، و(لقيتُه فُجاءةً وعِيانًا) و(كلّمتُه مُشافَهةً)، والتقدير: أتيتُه راكِضًا، وقتلتُه مصبورًا، إذا كان الحالُ من الهاء، فإن كان من التاء فتقديرُه: قتلتُه صابرًا، ولقيتُه مُفاجِئًا ومُعايِنًا، وكلّمتُه مُشافِها. فهذه المصادرُ وشبْهُها وقعتْ موقعَ الصفة، وانتصبتْ على الحال... وكان أبو العَبّاس يُجِيز هذا في كلّ شيء يدلّ عليه الفعلُ، فأجاز أن تقول: (أتانا رُجْلَةً)، و(أتانا سُرْعَةً)، ولا يقال: (أتانا ضَرْبًا)، ولا (أتانا ضِحْكًا)، لأنّ الضرب والضحكَ ليسا من ضروب الإتيان، لأنّ الآتِيَ ينقسِم إتيانُه إلى سُرْعةٍ، وإبْطاءٍ، وتوسُّطٍ، وينقسم إلى رُجْلَةٍ ورُكوبٍ، ولا ينقسم إلى الضرب، والضحكِ. وكان يقول: إنّ نصبَ (مَشْيًا) وشِبْهِه إنّما هو بالفعل المقدَّر، كأنّه قال: أتانا يَمْشِي مَشْيًا"([30])

وأجازه أبو حيان الأندلسي، ونصّ على أن المصدر قد يأتي حالا، ومجيئه حالا أكثر من مجيئه صفة، قال: "ومجيء المصدر حالا أكثر من مجيئه نعتا، فمن المسموع ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾،([31]) و﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾([32])، و﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾،([33]) و ﴿إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴾،([34]) وقتلته صبرا، ولقيته فجاءة ومفاجأة، وكفاحا ومكافحة، وعيانا، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضا ومشيا وعدوا، وطلع بغتة، وأعطيته المال نقدا، وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا، ووردت الماء التقاطا... واختلف النحويون في تخريج هذه الكلم المسموعة وما أشبهها من المسموع: فذهب الكوفيون والأخفش والمبرد إلى أنها مفاعيل مطلقة، واختلفوا: فقال الكوفيون: أنها منصوبة بالأفعال السابقة، وليست في موضع الحال... وذهب الأخفش والمبرد إلى أن قبل كل مصدر منها فعلا مقدرا هو الحال، أي: زيد طلع يبغت بغتة، وقتلته أصبر صبرا، وأعطيته المال أنقده نقدا وكذلك سائرها".([35])

وذهب ابن مالك الأندلسي إلى أن المصدر النكرة يقع حالا بكثرة، فقال:  

ومصدر منكر حالا يقعْ                  بكثرة كـ بغتة زيد طلع([36])

"وذهب ثعلب إلى أن المصدر المنتصب في مثل هذا هو مصدر مؤكد لا حال، ويتأول الرجل باسم فاعل مما جاء بعده، فإذا قال أنت الرجل علما فهو بمنزلة: أنت العالم علما، والمتأدب أدبا، والنبيل نبلا، ويحتمل عندي أن يكون منصوبا على التمييز، كأنه قال: أنت الكامل أدبا؛ لأن الرجل يطلق ويراد به الكامل أدبه".([37])

وقد يقع المصدر حالا وقد استعملت العرب ذلك كثيرا، ومنه قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾،([38]) أي: زاحفين وقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾،([39]) أي: مسرين ومعلنين، قوله: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾،([40]) أي: طائعا وكارها وقوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾،([41]) أي: صادقة وعادلة، وقوله: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ ([42])، أي: كارهة، ونحو قولك: (أقبل علي ركضا)، و (قتله صبرا)، و (طلع بغتة)، و(كلمته مشافهة)، ونحو ذلك، وهو ليس بمقيس عند النحاة على كثرته، وعند المبرد هو مقيس فيما كانت الحال فيه نوعا من عاملها، فإن قلت: (أقبل ركضا) جاز لأن الركض نوع من الإقبال، ولو قلت: (جاء بكاء وضحكا) لم يجز لأن البكاء والضحك ليسا نوعا من المجيء. قال المبرد في المقتضب: "ولو قلت: (جئته إعطاء) لم يجز، لأن الاعطاء ليس من المجيء، ولكن (جئته سعيا) فهذا جيد لأن المجيء يكون سعيا، قال الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾ ([43])، ورأي المبرد أسوغ من رأي النحاة، وذلك لأنه كثير، والكثرة تخول القياس عليها"([44]).

والذي أراه أن وقوع المصدر حالا قد تواتر في الفصيح المسموع من لغة العرب؛ ولذلك فلا ضير في أن يكون قاعدة يُركن إليها ويُعتدُّ بها.

5.       القضية الخامسة قضية ترخيم غير المنادى

الترخيم لغة التسهيل يقال: صوت رخيم أي لين سهل، واصطلاحا: يكون في باب التصغير، وهو حذف آخر الاسم في النداء، ولا يرخم مندوب لحقته علامة الندبة، أو لم تلحقه.([45])

قال الزمخشري: "ومن خصائص النداء الترخيم إلا إذا اضطر الشاعر فرخَّم في غير النداء، وله شرائط إحداها أن يكون الاسم علمًا، والثانية أن يكون غير مضاف، والثالثة ألا يكون مندوبًا ولا مستغاثًا، والرابعة أن تزيد عدته على ثلاثة أحرف إلا ما كان في آخره تاء تأنيث فإن العلمية والزيادة على الثلاثة فيه غير مشروطتين، يقولون يا عاذل، ويا جاري، لا تستنكري".([46])

والشاهد في الكتاب قول زهير:

خذُوا حَظَّكمْ يا آلَ عِكرمَ واذْكُرُوا                      أواصِرَنا والرِّحمُ بالغَيْبِ تُذكرُ([47])

الشاهد في البيت إنه رخم (عكرمة) وهو غير منادى، ([48]) قال السيرافي: "وكان أبو العباس محمد ابن يزيد ينكر هذا ولا يجيزه في الشعر، ويعلل الأبيات، فذكر أن قوله: (خذوا حظّكم يا آل عكرم)، يذهب بـ عكرم مذهب القبيلة، ففتح الميم؛ لأنه لا ينصرف، لا للترخيم".([49]) فالذي يذهب إليه السيرافي أنَّ فتح الميم في (عكرم) لأنه ممنوع من الصرف، وليس بسبب الترخيم.

وترخيم المضاف إليه، محمولٌ عندنا على الضرورة، وحالُه حالُ ما رُخّم في غير النداء للضرورة، لأن المضاف إليه غيرُ منادى.([50])

و"خرَّج سيبويه ما ورد من هذا النوع من الترخيم في غير النداء ضرورة، وحَذْفُ آخر المنادى المضاف نادر"([51]).

وإن كانت قواعد النحاة تنصّ على أنّ الترخيم يجب أن يكون في المنادى - فضلا عن شروط أخرى ذكرتها سابقا – إلا أنّه قد ورد في الفصيح المسموع ترخيم غير المنادى، وعلينا إعادة النظر في شروط الترخيم.

6.       القضية السادسة قضية رفع المضارع بين مجزومين

يرى النحاة أن الشرطَ إِذَا تَلاه مضارعٌ مقترنٌ بِالواو أو الفَاء جازَ فيهِ وجْهانِ: الجَزْمُ عَلَى الْعَطْفِ، والنَّصْبُ عَلَى إضمار أنْ، أمَّا إذا تَلا الجوابَ مضارعٌ مسبوقٌ بإِحْدَاهُما فيجوزُ فيهِ الجَزْمُ والنَّصْبُ لِما سبَق، والرَّفْعُ عَلَى الاستئنافِ، ([52]) أما "إذا توسط المضارع بين جملتي الشرط والجواب، ولم يسبقه أحد أحرف العطف السالفة أعرب (بدلا) إن كان مجزوما، وأعربت جملته حالا - في الغالب- إن كان مرفوعا، فمثال الأول:

متى تأتِنا تلممْ بنا في ديارنا                    تجدْ حطبا جزلا، ونارا تأججا

والثاني:

متى تأتِه تعشُو إلى ضوء ناره        تجدْ خير نار عندها خير موقد"([53])

والشاهد في الكتاب قول زهير:

"ومَن لا يَزَلْ يَسْتحْمِلُ النَّاس نفسَه    ولا يُغْنِها يومًا مِن الدهر يُسْأَمِ

إنما أراد: من لا يزل مستحملاً يكن من أمره ذاك. ولو رفع يغنها جاز وكان حسنًا، كأنَّه قال: من لا يزل لا يغني نفسه" ([54])، والشاهد في جزم (يغنِها) عطفا على فعل الشرط المجزوم، ولو رفعه فهو جائز أيضا.

ولكن أسّ المعادلة في هذا كله هو المعنى، فليس الجواز ممكنا في كل موضع، إذ قد يتوجب الرفع إذا تمحّض المعنى على الحالية، ومن ذلك قول السيرافي: "فأما ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتِني تسألُني أعطِك، وإن تأتِني تمشي أمشِ معك، وذلك لأنك أردت أن تقول: إن تأتني سائلا يكن ذلك، وإن تأتني ماشيا فعلت... ومما جاء أيضا مرتفعا قول الحطيئة:

متى تأته تغشو إلى ضوء ناره       تجد خير نار عندها خير موقد 

وسألت الخليل عن قوله:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا                 تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا 

قال: تلمم بدل من الفعل الأول، ونظيره من الأسماء: مررت برجل عبد الله، فأراد أن يفسّر الإتيان بالإلمام، كما فسّر الاسم الأول بالآخر، ومثله قوله:

إنْ يبخلوا أو يجبنوا                أو يغدروا لا يحفلوا

يغدوا عليك مرجّليــ               ـــــن كأنهم لم يفعلوا  

فقوله: يغدوا عليك بدل من (لا يحفلوا) إن (غدوّهم مرجلين) يفسر أنهم لم يحفلوا... وسألته عن قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ﴾.([55]) فقال: هذا كالأول؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيّ الآثام، ومثل ذلك من الكلام: إن تأتنا نحسن إليك نعطك ونحملك تفسر الإحسان بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلا من الأول". ([56])

وأُعيد ما قلته من قبل: إنّ أسّ المعادلة في هذا كله هو المعنى، فليس الجواز ممكنا في كل موضع.

7.       القضية السابعة قضية الفصل بالقسم بين ها واسم الإشارة:

قضية الفصل بين ها التنبيه واسم الإشارة بالضمير مشهورة في اللغة، وقد نزل بها الذكر الحكيم بقوله تعالى ﴿ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ([57]) ولكن أيجوز الفصل بغير الضمير؟ والذي نراه أنه يجوز الفصل بالقسم وقد ورد ذلك في الشعر الجاهلي، والشاهد في الكتاب قول زهير:

تعلَّمن ها - لعمر الله - ذا قسما    فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلكُ([58])

أراد: تعلّمنْ هذا قسما، ومعنى تعلمن: اعلمن، وقال الأخفش: قولهم (ذا) ليس هو المحلوف عليه، إنما هو المحلوف به، وهو من جملة القسم والدليل على ذلك أنهم قد يأتون بعده بجواب قسم والجواب هو المحلوف عليه، فيقولون: (ها الله ذا لقد كان كذا وكذا). ([59])

والشاهد في قول زهير تقديمه (ها) قبل (لعمرُ الله) وحذف المبتدأ من جواب القسم وأصله: (تعلمنْ لعمرُ الله للأمرُ هذا)، (فالأمر) مبتدأ و (هذا) خبره فحذف المبتدأ، فبقي (تعلمنْ لعمرُ الله هذا) ثم قدّم (ها) قبل القسم فصار (ها لعمرُ الله)، و(تعلمنْ) بمعنى اعلمنْ يقال تعلمْ كذا واعلمْ كذا، ودخلت النون الخفيفة للتأكيد، و(هذا) من قولك (للأمرُ هذا) إشارة إلى خبر وكلام قد تقدم للمتكلم، فإذا فرغ من كلامه قال للمخاطب: تعلّمْ والله للأمرُ هذا، أي للأمرُ هذا الذي أخبرتك به.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى أمر يذكره المتكلم في كلام يتلو كلامَه هذا، كأنه يقول: والله للأمرُ هذا الذي أذكره لك بعد كلامي هذا، وبيت زهير منه، لأنه قال بعده:

لئن حَللتَ بجَوٍّ في بني أسدٍ                 في دِين عمروٍ وحالتْ بيننا فدَكُ([60])

يريد أن الجملة التي هي جواب القسم (للأمر هذا) و (الأمر) مبتدأ، وخبره (هذا) واللام تدخل على المبتدأ إذا كان جواب القسم، كما تقول: والله لزيد قائم، ولعمرو ذاهب، فحذف المبتدأ مع اللام، وقدّم (ها) قبل القسم وهي في الأصل تكون في جواب القسم كما تقدم.([61])

8.       القضية الثامنة قضية الفصل بين كم ومميزها بفاصل:

يجوز الفصل بين (كم) ومميزها بفاصل إذا كان ظرفا أو جارًّا ومجرورًا، فإذا فصل بينهما فاصل تحتم النصب، ومما جاء منصوبا قول زهير:

تؤمُّ سنانًا وكم دونَه                  من الأرض محدودبا غارُها([62])

والشاهد في قوله: (كم دونه من الأرض محدودبًا) حيث فصل بين (كم) و(محدودبًا) بالظرف والجار والمجرور، فانتصب (محدودبًا) وجوبًا عند البصريين.

قال سيبويه: "فإذا فصلت بين (كم) وبين الاسم بشيء استغنى عليه السكوتُ أو لم يستغنِ؛ فاحمله على لغة الذين يستعملونها بمنزلة اسم منون؛ لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة، والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضارب بك زيدا، ولا تقول: هذا ضارب بك زيد".([63])

وزعم بعض قدماء النحويين أنَّ الأصل في تمييز كم الخبرية والاستفهامية النصب، ولا يكون الخفض فيهما إلا بتقدير مِن، كما تقدم في: على كم جِذعٍ؟ ويدلُّ عليه ظهورها، وقَوّاه الخليل بأنَّ حروف الجر قد تُضمَر وتَعمل، كقوله (لاه أبوك)، ولقيتُه أمسِ، تريد: بالأمس؛ لأنهم لا يستعملونه إلا بالباء".([64])

وزعم قوم أَنَّهَا على كل حَال منونة، وَأَن مَا انخفض بعْدهَا ينخفض على إِضْمَار (من) وَهَذَا بعيد؛ لِأَن الخَافِض لَا يضمر؛ إِذْ كَانَ وَمَا بعده بمنزل شيء وَاحِد، وَقد ذَكرْنَاهُ بحججه مؤكدا وَمن فصل للضَّرُورَة بَين الْخَافِض والمخفوض فعل مثل ذَلِك في (كم) في الْخَبَر وَذَلِكَ قَوْله:

كم بجود مقرف نَالَ العلَا                وشريف بخله قد وَضعه

 وَقَالَ الآخر:

كم في بني سعد بن بكر سيد           ضخم الدسيعة ماجد نفاع

والقوافي مجرورة وَقَالَ الاخر:

كم قد فاتني بَطل كمي                   وياسر فتية سمح هضوم

وَلَا يجوز أَن تفصل بَين الْخَافِض والمخفوض في الضَّرُورَة إِلَّا بحشو كالظروف وَمَا أشبههَا مِمَّا لَا يعْمل فِيهِ الْخَافِض؛ كَمَا تَقول: إِن الْيَوْم زيدا منطلق وَلَو كَانَ مَكَان (الْيَوْم) مَا تعْمل فِيهِ (إِن) لم يَقع إِلَى جَانبهَا إِلَّا مَعْمُولا فِيهِ وَلَوْلَا أَن هَذِه القوافي مخفوض لاختير في هذَيْن البَيْتَيْنِ الرّفْعُ، وتوقع (كم) على مرار من الدَّهْر، فَتكون (كم) ظرفا مَنْصُوبًا؛ لِأَن (كم) اسْم الْعدَد، فهي واقعة على كل مَعْدُود وَتقول: كم رجلا جَاءَك؟ فَإِنَّمَا تسْأَل بهَا عَن عدد الرِّجَال وَتقول: كم يَوْمًا لقِيت زيدا؟ فتنصبها؛ لِأَنَّهَا وَاقعَة على عدد الْأَيَّام واللقاء الْعَامِل فِيهَا، فَكَذَا كل مُبْهَم وَلَو قلت: كم يَوْمًا لقِيت فِيهِ زيدا؟ لكَانَتْ (كم) في مَوضِع رفع، كَأَنَّك قلت: أعشرون يَوْمًا لقِيت فِيهَا زيدا؟ إِلَّا أَن (كم) في هَذَا الْموضع اسْتِفْهَام، فهي في أَنَّهَا اسْم وَأَنَّهَا الحَرْف".([65])

 

9.       القضية التاسعة قضية منع اسم القبيلة من الصرف

يمنع اسم القبيلة من الصرف، ومنعه لأنه مبني على معنى المؤنث، فإن أريد اسم القبيلة مُنِعَ ، وإن أريد به اسم أبي القبيلة كمعد وتميم صرف, أو أريد به اسم الأم كباهلة منع من الصرف، ومثله اسم البلدة والبقعة، لأنها أعلام لمؤنثات، وقد ورد اسم القبيلة ممنوعا من الصرف في شعر زهير. قال:

تُمدُّ عليهمْ من يمينٍ وأشمُلٍ             بحورٌ له مِن عَهْدِ عادَ وتبعا([66])

فلم يصرف (عاد) و (تبّع) لأنه جعلهما قبيلتين ومثله:

لو شهد عادَ في زمان عادِ              لابتزّها مبارك الجلاد

قال: وتقول هؤلاء ثقيف قسي، فتجعله اسم الحي وتجعل (ابن) وصفا كما تقول: كل ذاهب. كأنه جعل الأولاد هم (ثقيف) وجعلهم حيّا، ووصفهم بأبي، فهو يشبه قولك: كل ذهاب في حمل ذاهب وهو واحد على لفظ كل لا على معناه. ([67])

أنا ابنُ أبَاةِ الضَّيْمِ من آلِ مالكٍ          وإنْ مالكٌ كانت كرامَ المعادنِ([68])

"كما يصح منع الصرف على إرادة تأويلها بشيء مؤنث المعنى؛ كتأويل الأرض بالبقعة، وكذا القبيلة، ولفظها مؤنث أيضا، والحي بالبقعة أو بالجهة، وأسماء حروف الهجاء وحروف المعاني والأفعال. بالكلمة ... فأمثال تلك الأعلام الخاصة بشيء مما سبق يجوز فيها الصرف وعدمه بمراعاة أحد الاعتبارين السالفين. إلا إن وجد سبب آخر للمنع غير التأنيث المعنوي؛ فعند ذلك يراعى السبب الآخر -على الأرجح- كتغلب، علم قبيلة؛ فيمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل. وكذا: (تعز) علم بلد يمنيّ... ومثل (بغدان) علم على بغداد؛ فيمنع من الصرف للعلمية والزيادة وهكذا".([69])

فلم يصرف (سبأ) لأنه جعله اسمًا لقبيلة حملًا على المعنى، وقال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ([70])، فلم يصرف (ثَمُودَ) الثاني؛ لأنه جعل اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى... وقال الآخر:

غَلَبَ المَسَامِيحَ الوَلِيدُ سَمَاحَةً          وكَفَى قريشَ المُعْضِلَاتِ وسَادَهَا

فلم يصرف (قريش) لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم، قال الشاعر:

قامت تُبَكِّيهِ على قبره        من لي من بعدك يا عَامِرُ([71])

و"صرف أسماء القبائل والأرضين والكلم، ومنعه مبني على المعنى، فإن كان اسم أب نحو: معد وتميم ولخم وجذام، أو اسم حي: كـ (قريش) وثقيف، أو اسم مكان: كـ (بدر وثبير)، أو اسم لفظ نحو (كتب زيدًا فأجاده) صرف إلا إن كان فيه مانع نحو: تغلب، فتمنعه كان اسم حي أو قبيلة؛ لموجب منع الصرف فيه؛ وقد أخطأ الزجاجي في جعله منصرفًا إذا أريد به اسم الحي، وإن كان اسم أم كـ باهلة وسدوس وسلول بنت زبان بن امرئ القيس في قضاعة، أو اسم قبيلة: كـ مجوس ويهود، أو اسم بقعة كفارس وعمان، أو اسم كلمة نحو: كتب زيدًا فأجادها، منع الصرف".([72])

10.    القضية الحادية عشرة قضية عمل اسم الفاعل منونا:

يجوز في اسم الفاعل ومعموله أن يأتي اسم الفاعل منونا ومعموله منصوب على أنه مفعوله باللفظ، ويجوز أن يكون اسم الفاعل محلّى بأل وما بعده منصوب على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون اسم الفاعل مضافا ومعموله مضافا إليه، والشاهد قول زهير:     أَهْوَى لها أَسْفَعُ الخَدَّيْنِ مُطَّرِقٌ        رِيشَ القَوَادِمِ لم تُنصَبْ له الشبك([73])

وقول العجّاج:             مُحْتَبِكٌ ضَخْمٌ شؤوُنَ الرَّأْسِ([74])

والشاهد فيهما تنوين (مطرق) ونصب (ريش القوادم)،([75]) وتنوين (محتبك) وإعماله في (شؤون) نصبًا.

خاتمة:

لا شك في أن النحاة قاسوا على الفصيح من كلام العرب،  وقعّدوا قواعدهم، لكنّ الشواهد التي اعتمدتُ عليها في هذا البحث من الفصيح المسموع من كلام العرب، ولا يُشك في فصاحة قائلها، إذ هو زهير بن أبي سلمى، واحد من عبيد الشعر، وأصحاب الحوليات، ولا يجوز بحال وصفُ لغته بالضعيفة أو الرديئة، ولاسيما إذا قُوِّيت من جانب آخر، كما في تعقيب سيبويه على شاهد العطف على التوهم؛ إذ وصف لغته باللغة الرديئة، والذي أراه أن هذه الشواهد ليست بلغة رديئة، وإنما هي لغة بيانية، كان على اللغويين ألّا يخطّئوها، بل كان عليهم أن يلتفتوا إلى الجانب البلاغي فيها ليبحثوا لها عن علّة بيانية، نظرا إلى أنها تمثّل مستوى عالٍ في اللغة يرتفع عن لغة الخطاب والتواصل إلى مستوى التعبير والتأثير.

وأوصي بأن تُدرس هذه الشواهد دراسة بلاغية أسلوبية لاكتناه جوانب الجمال اللغوي فيها، وبيان سبب خروجها عن القاعدة النحوية.


المصادر والمراجع

ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان الأندلسي، تحقيق وشرح ودراسة: رجب عثمان محمد، ط1: مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1998

الاقتراح في أصول النحو، السيوطي جلال الدين، تح: عبد الحكيم عطية، ط2: دار البيروني، دمشق، 2006م

ألفية ابن مالك، ابن مالك الطائي الجياني، ط: دار التعاون، د.ت

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين كمال الدين أبو البركات الأنباري، ط1: المكتبة العصرية، 2003م

التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، أبو حيان الأندلسي، تح: د. حسن هنداوي، ط: دار القلم - دمشق (من 1 إلى 5)، وباقي الأجزاء: دار كنوز إشبيليا، د.ت

خزانة الأدب، عبد القادر بن عمر البغدادي، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997

الخصائص، أبو الفتح ابن جني، تح: محمد علي النجار، ط: عالم الكتب، بيروت، د.ت

شرح أبيات سيبويه، ابن السيرافي، تح: محمد علي الريح هاشم، ط: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1974م

شرح تسهيل الفوائد، ابن مالك الطائي الجياني، تح: عبد الرحمن السيد، محمد بدوي المختون، ط1: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان. 1990م

شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو، خالد الأزهري، ط1: دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م

شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، ابن هشام جمال الدين الأنصاري، تح: عبد الغني الدقر، ط: الشركة المتحدة للتوزيع، سوريا، د.ت

شرح شواهد المغني، جلال الدين السيوطي، عناية: أحمد ظافر كوجان، ط: لجنة التراث العربي. 1966

شرح كتاب سيبويه، أبو الحسن الرماني، تحقيق: سيف بن عبد الرحمن العريفي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1998م.

شرح الكافية الشافية، ابن مالك الطائي الجياني، تح: عبد المنعم أحمد هريدي، جامعة أم القرى مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة. 1982م.

شرح كتاب سيبويه، أبو سعيد السيرافي، تح: أحمد حسن مهدلي، علي سيد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2008م.

شرح المفصل للزمخشري، ابن يعيش الموصلي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م

ظاهرة الحمل على التّوهم في النّحو، قاسم محمد صالح، جامعة جرش، د.ت

https://www.majma.org.jo/ojs/index.php/JJaa/article/download/515/114/

الكتاب، سيبويه عمرو بن عثمان، تح: عبد السلام محمد هارون، ط3: مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988م.

مجاز القرآن، معمر بن المثنى البصري، تح: محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجى، القاهرة، 1381هـ.

معاني القرآن، أبو زكريا الفراء، تح: عبد الفتاح الشلبي، دار المصرية للتأليف والترجمة، مصر، د.ت

معاني النحو، فاضل صالح السامرائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الأردن، 2000م.

المقتضب، أبو العباس المبرد، تح: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب، بيروت. د.ت

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام جمال الدين الأنصاري، تح: مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، ط6: دار الفكر، دمشق، 1985م.

المفصل في صنعة الإعراب، الزمخشري جار الله، تح: علي بو ملحم، مكتبة الهلال، بيروت، 1993م.

النحو الواضح في قواعد اللغة العربية، علي الجارم ومصطفى أمين، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت

النحو الوافي، حسن عباس، ط15: دار المعارف، د.ت

همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين السيوطي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، ط: المكتبة التوفيقية، مصر، د.ت


 

 



([1]) انظر: الاقتراح في أصول النحو: 39.

([2]) انظر: ظاهرة الحمل على التّوهم في النّحو: 85.

https://www.majma.org.jo/ojs/index.php/JJaa/article/download/515/114/

([3]) الكتاب: 1/165 وانظر: 306 و3 /29 و51 و100 و4/160.

([4]) انظر: الكتاب: 1/ 160.

([5]) انظر: الكتاب: 3/29.

([6]) انظر: الكتاب: 1/ 306.

([7]) انظر: الكتاب: 3/51.

([8]) سورة المنافقون: 63/10.

([9]) الكتاب: 3/100-101.

([10]) معاني القرآن للفراء: 3/160.

([11]) مجاز القرآن: 2/259.

([12]) سورة المنافقون: 63/10.

([13]) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 553.

([14]) البيت لزهير بن أبي سلمى، ديوانه: 287؛ وخزانة الأدب: 8/ 492، 496، 552 و9/ 100، 102، 104؛ وشرح شواهد المغني: 1/ 282؛ شرح المفصل: 2/ 52، 7/ 56؛ والخصائص: 2/ 353، 424.

([15]) شرح المفصل: 2/ 52، 5/ 68، 7/ 57؛ ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 174، 487؛ والخزانة: 2/ 140، 4/ 158، 160، 164؛ والخصائص: 2/ 356.

([16]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 2/ 201.

([17]) خزانة الأدب: 9/104.

([18]) المقتضب: 2/70.

([19]) سورة الطلاق: 65/ 2.

([20]) سورة هود: 11/ 15.

([21]) شرح تسهيل الفوائد: 4/77.

([22]) الكتاب: 3/66.

([23]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 3/258.

([24]) النحو الواضح في قواعد اللغة العربية: 2/451.

([25]) الكتاب: 1/ 145.

([26]) انظر: شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي: 1/ 59.

([27]) سورة التكوير: 81/ 1-14.

([28]) الكتاب: 1/195.

([29]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 2/259.

([30]) شرح المفصل: 2/12.

([31]) سورة البقرة: 2/ 260.

([32]) سورة البقرة: 2/ 274.

([33]) سورة الأعراف:7/ 56.

([34]) سورة نوح: 71/ 8.

([35]) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل: 9/44.

([36]) ألفية ابن مالك: 32.

([37]) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل: 9 /48.

([38]) سورة الأنفال: 8/ 15.

([39]) سورة البقرة: 2/ 274.

([40]) سورة آل عمران: 3/ 83.

([41]) سورة الأنعام: 6/ 115.

([42]) الأحقاف: 46/ 15.

([43]) سورة البقرة: 2/ 260.

([44]) معاني النحو: 2/288.

([45]) ارتشاف الضرب من لسان العرب: 2228.

([46]) المفصل في صنعة الإعراب: 71.

([47]) الكتاب: 2/271.

([48]) شرح أبيات سيبويه: 1/313.

([49]) شرح أبيات سيبويه: 1/208.

([50]) انظر: شرح المفصل: 1/376.

([51]) ارتشاف الضرب: 2228.

( [52]) انظر: النحو الواضح في قواعد اللغة العربية: 2/201.

([53]) النحو الوافي: 4/480.

([54]) الكتاب: 3/85.

([55]) سورة الفرقان: 68.

([56]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 3/286.

([57]) سورة النساء: 4/ 109.

([58]) الكتاب: 3/500.

([59]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 4/240.

([60]) الكتاب: 2/164.

([61]) شرح أبيات سيبويه: 2/223.

([62]) الكتاب: 2/165.

([63]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 2/487.

([64]) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل:10/25.

([65]) المقتضب: 3/61.

([66]) الكتاب: 3/251.

([67]) شرح كتاب سيبويه للسيرافي: 4/21.

([68]) شرح الكافية الشافية: 1/509.

([69]) النحو الوافي: 4/239.

([70]) سورة هود: 11/ 68.

([71]) الإنصاف في مسائل الخلاف: 2/412-413.

([72]) ارتشاف الضرب من لسان العرب: 883.

([73]) الكتاب: 1/145.

([74]) الكتاب: 1/196.

([75]) شرح أبيات سيبويه: 1/56.