عناصر التشكيل البياني في الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة باستشراف المستقبل
..
دراسة أسلوبية
رضا
عبد السلام الشناوي كلية الإلهيات، جامعة صقاريا، تركيا البريد الإلكتروني معرف (أوركيد) 0000-0001-8941-379X عبد
الملك يانجن كلية الإلهيات، جامعة صقاريا، تركيا البريد الإلكتروني معرف (أوركيد) 0000-0003-0900-5441
بحث أصيل |
الاستلام: 1-9-2023 |
القبول: 15-10-2023 |
النشر: 31-10-2023 |
الملخص:
تعد دراسة الأحاديث النبوية الشريفة التي
تعنى بأسلوب التشكيل البياني من الموضوعات الهامة التي تتميز بغناها الفكري
والبياني. يهدف هذا البحث إلى استقراء وتحليل الصور البيانية المستخدمة في
الأحاديث النبوية المتعلقة باستشراف المستقبل. تتمثل أهمية البحث في تسليط الضوء
على كيفية استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للبيان في إيصال معانيه بأسلوب فني
رفيع، والكشف عن الأبعاد البيانية في هذه الأحاديث. وينقسم البحث إلى قسمين
رئيسيين، الأول متعلق بالاستشراف والثاني بالتشكيل البياني في الأحاديث المتعلقة
بالمستقبل. يُظهر البحث كيف أن استشراف النبي صلى
الله عليه وسلم للمستقبل ليس تكهنًا أو افتراضًا، بل هو مبني على وحي إلهي، ويبرز التوكيدات البيانية والصور الفنية التي تستخدم لتعزيز هذه
الرؤية. البحث يخلص إلى أن السنة النبوية قدم استشرافًا دقيقًا للمستقبل مستندًا
إلى الوحي، وتستعمل الصور البيانية بفعالية لإيصال هذه الرؤية بأسلوب فني وبلاغي
مُبدع.
الكلمات المفتاحية:
البيان، الأحاديث النبوية، استشراف
المستقبل، التشكيل البياني، الصور البيانية.
للاستشهاد/ Atif İçin
/ For Citation : عبد الملك، يانجين؛ رضا
عبد السلام، الشناوي (2023). عناصر التشكيل البياني في الأحاديث النبوية
الشريفة الخاصة باستشراف المستقبل..دراسة
أسلوبية. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج4، ع8، 301- 320 https://www.daadjournal.com/ //.
Elements of Rhetorical Formation in the Hadiths of
Prophet That Are related to Future Forecasting (A Stylistic Study)
Abdulmelik Yangın,
Sakarya University, Turkey
E-mail: ayangin@sakarya.edu.tr
Orcid ID: 0000-0003-0900-5441
Reda
Abdelsalam Elshenawy
Sakarya University, Turkey
E-mail: redaelsayed@sakarya.edu.tr
Orcid ID: 0000-0001-8941-379X
Published: 31.10.2023 |
Accepted:
15.10.2023 |
Received:
01.09.2023 |
Research Article |
Abstract:
The study of
Hadiths is a significant topic marked by its intellectual and rhetorical depth.
This research is designed to assemble and scrutinize the rhetorical imagery
embedded in Hadiths related to future. This study is illuminating how Hadiths adeptly
employed expressive techniques to impart meanings, characterized by their
artistic sophistication, and to disclose the layered rhetorical nuances.
The research is
structured into two segments. The initial segment delves into the concept of
foresight, while the subsequent one is dedicated to exploring the rhetorical
constructs within Hadiths. The findings underscore that Prophet Muhammad’s
insights into the future are not personal predictions or assumptions. Instead,
they are anchored in divine revelations. The narrative accentuates the
rhetorical and artistic imagery that amplifies these profound insights. In
conclusion, the prophet’s hadiths extend precise
foresights of the future, firmly grounded in divine revelations. Rhetorical
imagery plays a pivotal role in articulating these insights.
Keywords:
al-Bayan, Hadiths of the Prophet, Future Foresight, Rhetorical
Formation, Figures of speech.
تقديم:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على من أُوتي جوامع الكلم واللسان،
سيدنا محمد صاحب الفصاحة والبيان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. وبعد،
فإن منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ كلام سمعته الآذان، وأفصح بيان
استقر في الأذهان، ولله در الجاحظ حين وصف هذا البيان المحمدي فقال: "وهو
الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف... فلم
ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر
بالتوفيق. وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول وجمع له بين
المهابة والحلاوة، وبين حسن الأفهام"([1]) ومن الثابت أن
السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، وكان فيها كثيرٌ من أخبار الماضي وبعضا
من أخبار المستقبل، وما ذلك إلا لأخذ الدروس والعظات والعبر، وقد أكدت السنة
النبوية الشريفة على ضرورة استشراف المستقبل، بأخبار مستقبلية ضمت أحداثا كثيرة،
وهذه الأخبار بعضها تحقق في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبعضها تحقق بعد
ذلك، وبعضها يُنتظر وقوعه.
فالنبي ﷺ حين أولى هذا الجانب اهتماماً كبيراً ومنحه كثيراً من وقته وجهده،
لم يكن الغرض من ذلك – في تقديري - تحذير من سيعايش تلك الأحداث فحسـب إنما أراد
أن أمته سبل التعامل مع هذه الأحداث ونظائرها، وهذا أمر يشمل كل الأجيال لأن
النظائر موجـودة في كل زمان ومكان، ومن هنا تكون أخبار المستقبل، مدرسة نبوية،
عظيمة النفع، يفتقر المسلمون إلى الاطلاع عليها، ليتمكنوا من مجاوزة عقبات
المستقبل بسلام، والإفادة من فرصه وعطائه.
وفي طيات هذا البحث سيتم تسليط الضوء على بعض الأحاديث الخاصة باستشراف
المستقبل والبحث في بيانها وتدبر معانيها فلا تزال السنة النبوية بحراً ذاخراً
بأنواع العلوم والمعارف، تحتاج إلى سابح ماهر للحصول على لآلئها ودررها، والغوص في
أعماقها.
يتعرض الباحث في هذا البحث إلى عناصر التشكيل
البياني في الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة باستشراف المستقبل عن طريق
استقراء أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودراسة هذه الأحاديث واستخراج الصور
البيانية المتنوعة التي جاءت فيها،
حيث يتم فيها عرض الظاهرة وتحليلها، ومن ثَمّ استنباط النتائج منها.
1-
نبذة عن الاستشراف
1-1-
مفهوم استشراف المستقبل:
الاستشراف لغة:
أصله من شَرُفَ يَشْرُفُ شَرَفاً وشُرْفَةً وشَرْفَةً وشَرَافَةً، فَهُوَ
شَرِيفٌ، وَالْجَمْعُ أَشْرافٌ. وأَشْرَفَ الشيءُ: عَلَا وَارْتَفَعَ، وَقِيلَ:
اسْتِشْرافُ الْعَيْنِ والأُذن أَن يَطْلُبَهُمَا شَريفَيْن بِالتَّمَامِ
وَالسَّلَامَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الشُّرْفةِ وَهِيَ خِيارُ الْمَالِ أَي
أُمِرْنا أَن نَتَخَيَّرَهَا. وأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وأَشْفى: قارَبَ.
وتَشَرَّفَ الشيءَ واسْتَشْرَفه: وَضَعَ يَدَهُ عَلَى حاجِبِه كَالَّذِي
يَسْتَظِلُّ مِنَ الشَّمْسِ حَتَّى يُبْصِرَه ويَسْتَبِينَه. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُطَيْر:" ([2])
فَيا عَجَباً
للناسِ يَسْتَشْرِفُونَني، ... كأَنْ لَمْ يَرَوا بَعْدي مُحِبّاً وَلَا قبْلي
وَفِي حَدِيثِ أَبي طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه كَانَ حسَنَ
الرمْي فَكَانَ إِذَا رَمَى اسْتَشْرَفَه النبي، صلى الله عليه وَسَلَّمَ،
لِيَنْظُرَ إِلَى مَواقِعِ نَبْله أَي يُحَقِّقُ نَظَرَهُ ويَطَّلِعُ عَلَيْهِ".([3]) والاسْتِشْرافُ: أَن تَضَع يَدَكَ عَلَى حَاجِبِكَ وَتَنْظُرَ، وأَصله مِنَ
الشَّرَف العُلُوّ. مُطَيْر"([4]).
والاستشراف اصطلاحًا:
للاستشراف تعريفات كثيرة، منها:
"التطلع إلى المستقبل من خلال دراسة الماضي، وفهم الحاضر، والسنن
الفاعلة فيها" وعرفه بعضهم بأنه: الوقوف على ربوة عالية لاستطلاع آفاق
المستقبل المنظور، كل بحسب ما يسمح به ملء بصره وبصيرته، فالجهد الاستشرافي
المستقبلي هو نوع من الحدس التاريخي المستند إلى قاعدة علمية"([5])
و"علم المستقبليات أو “الدراسات المستقبلية” هو علم يختص بـ “المحتمل”
و”الممكن” و”المفضل” من المستقبل إضافة إلى بعض الأحداث قليلة الاحتمال وذات
التأثير الكبير، وقد تحول علم المستقبليات من التوجه الشخصي للإنسان منذ فجر
التاريخ لمعرفة مستقبلهم بالتنبؤ والتنجيم الفردي وقراءة الطالع وابتداع الأساطير
والخرافات، إلى علم مستقل بذاته، له أسسه ومنهجياته التي دخلت حيز التجريب والتي
أعطت نتائج نعيشها في حاضرنا الذي كان مستقبل غيرنا، من خلال دراسات ومدارس
ومؤسسات مختصة بذلك التي وضعت الأسس العلمية له وأوضحت معالمه ومبادئه."([6])
"ومصطلح الاستشراق يقابله باللغة الإنجليزية ( (futurology ويعني علم المستقبل، أما الناطقون باللغة الفرنسية فلديهم مصطلح
شائع ابتدعه عالم رائد علم المستقبل عندهم: (غاستون برجر) وهو مطلح (prospective)
"([7])
"والدراسات
المستقبلة هي ليست تنبؤا يقوم على الرجم بالغيب، ولكنها توقعات علمية يحتمل حدوثها
من حيث كونها نتيجة منطقية لدراسة الماضي والحاضر، والتعرف على سنن الكون، إلى
استشراف المستقبل وتشوفه، وصولًا إلى بلورة رؤية عنه. وهي توقعات يحتمل وقوعها".([8])
1-2-
نشأة علم الاستشراف:
"يقول بعض المشتغلين بهذا
العلم مثل: (فاروق عبد فليه) أن هذا العلم حديث وقد ظهر في نهاية القرن الخامس
عشر، حيث شهد ظهور كتاب توماس الذي يتحدث عن (اليوتوبيا)، ويقول آخرون: إن تاريخ
هذا العلم يعود للمصريين القدماء، حيث ألف عام 3500 ق م كتاب بعنوان الموتى، يتحدث
عن اعتقاد المصريين في البعث والحساب والاستقرار في عالم الأرواح العلوي، والواقع
أن هذا العلم ظهر عقب الحرب العالمية وشهد تقدما ملحوظًا في السنوات الأخيرة"([9])
الدراسات المستقبلية كعلم مستقل لم تظهر إلا في منتصف القرن العشرين الميلادي،
وأول ما ظهر هذا العلم في أمريكا، ثم في أوربا، وكانت الغاية من هذه الدراسات:
الدفاع العسكري.
أما عن المؤلفات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع كالآتي: كتاب بعنوان
استشراف المستقبل في السنة النبوية للدكتور إلياس بلكا، ومن الدراسات التي تحدثت عن استشراف
المستقبل، بحث تكميلي لمرحلة الماجستير في جامعة الإيمان في اليمن، في كلية الدعوة
والإعلام، وهو بعنوان: استشراف المستقبل في القرآن والسنة، أعده الباحث: فهمي
إسلام جيوانتو، وقد نوقش البحث عام ١٤٢٥ ه
٢٠٠٤ م، ومنها أيضاً رسالة ماجستير
بعنوان: الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الإسلامية للباحث عبد الله محمد
المديفر، قدمت لجامعة طيبة في المدينة المنورة سنة ١٤٢٧ ه، ودراسة بعنوان:
التخطيط للدعوة الإسلامية: دراسة تأصيلية، للباحث المولى الطاهر المكي في جامعة محمد بن سعود.
1-3-
الفرق بين استشراف المستقبل في السنة النبوية وأخبار
المستقبل بالجهود البشرية:
إن الإخبار بالمستقبل في السنة النبوية ليس أمرًا يقبل الصواب والخطأ، بل
وحيٌّ إلهيٌّ ، فالنبي أُوحي إليه بالمستقبل كشفًا
للغيب، وعلم الغيب من خصوصيات علام الغيوب، ودعواه تستلزم تكذيب القرآن الكريم،
قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ"([10]) وقال جل وعلا: "فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ
الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُهِينِ"([11]).
إن استشراف المستقبل ليس رجماً بالغيب، أو تعلقاً بالظنون والتخرصات، أو
اشتغالاً بالخيالات، وإنما هو توظيف لمعطيات الماضي المدروس والحاضر الملموس
ومسبباتها، لتوقع نتائجها ولوازمها، ومن ثم رسم خطط العمل وتنظيمها. ولكن عندما يتوقع الإنسان ويحلل الأزمات فتأتي
أحيانا بخيبة الأمل، "فقد كانت بعض دراسات استشراف المستقبل عند الغرب تبشر
باستمرار الازدهار وتحسن أوضاع الأسواق، بل إن أحد مراكز الاستشراف تنبأ بأن عام
2009 سيكون عام ازدهار اقتصادي. وتوقع بنك "مورجان
ستانلي" الأمريكي أن يبلغ سعر برميل النفط 150 دولار، وقالوا: انتهى عصر
النفط الرخيص، وتوقع آخرون بلوغه 200دولار للبرميل.
ومع تقدم العلوم الرياضية، والنظريات الاحتمالية، واختراع الحواسيب التي
تقوم بالتحليل وحساب نتائج المعادلات الصعبة، ظن بعض الغربيين أن ذلك كاف في الحكم
على المستقبل ومعرفته بدقة، فاتكأوا كثيرا على نتاج أبحاثهم، فكانت هذه الأزمة
مخيبة لتوقعاتهم ودراساتهم، صادمة ودافعة لهم للاعتراف بقصورهم وعجزهم واعترافهم
بأنهم سيعيدون حساباتهم ويعدِّلون توقعاتهم. وصدق الله القائل: (وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، (يعْلَمُونَ ظَاهِرًا
مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)."([12])
فالمستقبل في الحديث النبوي صادق في تقريراته، مؤكد وقوعه، فالنبي – صلى
الله عليه وسلم - تحدث
عن المستقبل كثيرًا في مختلف مجالات الحياة، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية،
والعسكرية، والدينية، فكشف لنا بشارات تحمل الخير للناس، ومصائب وحروب وكوارث وليس الغرض منها إلقاء الرعب في
نفوس الناس، بل كان يكشف لهم الطريق ليهيئهم نفسيًا لاستقبال محدثات الأمور.
2-
التشكيل البياني في الأحاديث النبوية الخاصة باستشراف
المستقبل:
1-1-
أحاديث الاستشراف في الدَين:
ومن أحاديث رسول الله في ذلك:
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
عَنْ إِسْمَعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، مَوْلَى
مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ
-رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى
السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ
اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ» فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا
كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ
الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا
قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ
قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ
دَيْنُهُ"([13])
بدأ الصحابي الجليل حديثه: "كنا جلوسًا عند رسول الله " وعند النظر لهذا التعبير لوجدناه يدل على مدى عَلاقة - الرسول صلى الله
عليه وسلم- بصحابته، فالمكان تعمه الطمأنينة والهدوء، وكأنه جو
روحاني نزّل اللَّه
سكينته على رسوله و المؤمنين وكل من يجلس حولهم، والتعبير بفعل الكون (كنا)
الماضي؛ ليدل على تحقق الأمر وثباته، وفي استخدام التعبير بالمصدر (جلوسًا)
للدلالة على معنى الثبوت والدوام، والذي نستشعر منه طول الجلسة التي كانت تذكّرهم
بالأخرة والموت.
ثم ينتقل بنا الصحابي الجليل إلى
جوٍّ آخر مغاير تمامًا عن الجو السابق يسيطر عليه الخوف والفزع، وكأننا أمام
مقابلة معنوية بين مشهدين متضادين " ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى
جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ»
فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا" وهذا الخوف الذي بدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فيه استشراف
للمستقبل فمن شدة خوفه وشفقته على أمته جعله يضع راحته على جبهته، فحاول النبي –
صلى الله عليه وسلم - أن يخفف عن صحابته بما اطلع عليه من أمر السماء، فصنيع رسول
الله – صلى الله عليه وسلم - كان أمرًا عفويا كما هو حال أحدنا عندما يرى شيئًا لم
يكن يتوقعه.
واستعمال تعبير (سبحان الله) في التعجب من الصيغ القياسية، فقد استعملت
كثيرًا في القرآن والأحاديث النبوية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم - كان له سُننٌ كثيرة،
منها أنه كان يُسَبِّحُ اللهَ إذا رأى شيئًا عجيبًا، ومثال ذلك في السُّنَّة كثير؛
فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ،
فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ. فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ
وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّ المُسْلِمَ
لاَ يَنْجُسُ".([14])
وجملة (فرفع رأسه إلى السماء) تشير إلى أن الحديث مبني على الغيبيات، وأن
هذا التشديد الذي نزل ما هو إلا وحيّ من السماء، والاستفهام في قوله: (مَاذَا نُزِّلَ
مِنَ التَّشْدِيدِ) لا يراد به حقيقته البلاغية من طلب الفهم وإرادة المعرفة،
ولكنه متضمن معنى الدهشة والاستغراب والتعجب من الحكم الذي أُوحي إليه.
وفي قوله:( وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ) كناية عن شدة ما نزل على
رسول الله من أمر التشديد، وكأن بفعلته هذه يخفف عن نفسه، ولفظة (التشديد) ليست
على حقيقتها اللغوية، بل هي من قبيل المجاز المرسل لعلاقة المسببية، حيث أطلق المسبب( التشديد) وأراد السبب وهو (الحكم) أو الأمر الذي اقتضى
هذا التشديد، وهذا المجاز يكشف عن هول ما ألمَ النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى جعل
التشديد الذي نزل وليس الحكم الذي تضمنه.
وبعد أن سأل هذا الصحابي الجليل النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن ما نزل من
أمر التشديد، فاستهل النبي (صلى الله عليه وسلم) إجابته على السؤال بالقسم الذي
يقرع السمع، ويأسر القلب ويستولى على المشاعر فقال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ)
ولم يقصد النبي بهذا القسم ليجذب القلوب لتصديقه فحشاه عن ذلك فهو الصادق الأمين،
بل قصد بها شحذ الأذهان، وتثير الفكر والوجدان، وجاء القسم في مواضع عدة
في القرآن الكريم، فالله تعالى أقسم
بذاته، وبفعله، وبمفعوله، وقد جاء القسم بنفسه في سبعة مواضع، وذكر الله القسم
لكمال الحجة وتأكيدها؛ كما جاء القسم
بمخلوقات الله لما فيه إشارة إلى عظمها
وكونها أدلة على القدرة أو فيها نوع من التعظيم.
وجاءت جملة القسم في
الحديث الشريف مبنية على الإيجاز بالحذف؛ حيث حذف منها فعل القسم والمقسم منه،
وتقدير الكلام: (أقسم بالذي نفسي بيده) والغرض منه شدة التحذير من الدين، وفي هذا
القسم كناية عن موصوف، حيث أطلقت الصفة(والذي نفسي بيده)
وأريد بها موصوفًا وهو الله -سبحانه وتعالى.
وعند النظر في جملة (مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) فهي من الغيبيات التي أوحيت
للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقد استعمل النبي (صلى الله عليه وسلم)استشراف
المستقبل في الحديث عن الجنة والنار؛ خوفًا منه على أمته وللتحذير من الاستدانة
والإسراع في قضاء هذا الدين، فإن كان هذا حال من استشهد في سبيل الله ثلاث مرات،
فكيف بحال المدين.
الحديث الثاني في الدَّيْن:
"أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ،
قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي
مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا
غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ، نَادَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ
لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟»
فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ"([15])
أول ما نبدأ به في تحليل هذا البيان النبوي هو النظر في كلام الصحابي
الجليل سيدنا أبي قتادة وقد ابتدأ حديثه بالفعل (جاء) ولم يقل (أتى أو قدم) أو
غيرها من مترادفات هذا الفعل؛ ليبن لنا حالة الرجل النفسية وما يبدو عليها من
لهفة ورغبة من معرفة الجواب، ثم نراه بمجرد وصوله سأل رسول (صلى الله عليه وسلم)
وبدأ سؤاله بأسلوب إنشائي استخدم فيه أداة نداء للبعيد (يا)؛ لتضفي على رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) مزيدًا من الإصغاء والتنبيه وشحذ ذهن رسول الله(صلى الله
عليه وسلم).
وعند النظر في سؤاله نراه قد قدّم العمل على الجزاء فقال: (أَرَأَيْتَ إِنْ
قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ) ثم
أردف الجزاء بقوله: (أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟) ولعل السبب في ذلك
ظنًّا منه أن الشهادة في سبيل الله تُكَفِّر جميع الخطايا، وفي استخدام أداة الشرط
(إن) التي يعبر بها عن كل ما يشك بوقوعه في المستقبل بدلا من (إذا) التي هي الأنسب لحالته إذ
الأصل فيها أن تستخدم في كل ما يقطع المتكلم بوقوعه في المستقبل، ولعل السر في ذلك
أنه غير جازم بوقوع الشرط؛ فساق كلامه وفقًا لما في نفسه تأدبًا في الحديث مع رسول
الله (صلى الله عليه وسلم).
وفي استخدام فعل الشرط (قتلت) ماضيًا؛ للدلالة على التحقق والتثبت، وكثيرًا
ما نجد في القرآن الكريم أفعالاً ماضيةً استُعملت للدلالة على المستقبل. ومن ذلك
قوله تعالى : ﴿إِذا زُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزالَها﴾، حيث
تزلزل الأرض وتلفظ أمواتها أحياء، وهذا طبعا لا يكون إلا يوم القيامة وهو غيب
مستقبلي.
وفي ذلك يقول ابن الأثير: "
وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل، فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته أن الفعل
الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ، وأوكد في
تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما
يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها، والفرق
بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل:
واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد
الفعل الذي لم يوجد بعد."([16]) وهذا العدول من الماضي إلى المستقبل من باب مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛
لأن الفعل الماضي بذاته يدل على التحقق والتثبت والقطع بوقوع الحدث، هو الأنسب
لحال هذا اليوم.
وفي جواب النبي (صلى الله عليه وسلم) الرجل بقوله: (نعم) كانت إجابة واضحة
إسعافًا له ليطمئنه، وجاء اقتصار النبي على الحرف في إجابته في غاية الإيجاز،
تناسبًا مع المقام والرغبة في إسعاف الرجل ومراعاة حالته في تلهفه إلى معرفة
الجواب، والتقدير: (نعم، يكفر الله عنك خطاياك).
وقوله (محتسبًا) يوكد مقصده من القتال، وهو طلب الأجر ونيل الشهادة، وفي
قوله: (غَيْرَ مُدْبِرٍ)
تأكيدًا لقوله: (مُقْبِلًا)
وهو من طباق السلب والمعنى كما في قول الله تعالى: (أمواتٌ غير أحياءٍ).
وفي التعبير بالفعل (ولى) في
قوله:( فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ) دون غيره من مترادفات الفعل (انصرف أو ذهب)
دلالة على بعد الرجل وخفته في الحركة وفرحه من جواب النبي (صلى الله عليه وسلم). وعند النظر
والتأمل في نداء النبي (صلى الله عليه وسلم) للرجل مرة أخرى وإجابته بتلك الإجابة
ليس من تلقاء نفسه، بل بإرشاد من الوحي، والدليل على ذلك قول الرسول في آخر
الحديث" "كذلك قال لي جبريل". وفي قوله (صلى الله عليه وسلم): "
كَيْفَ قُلْتَ؟" بدلا من (ماذا قلت) أثار في نفس الرجل أن الجواب سيكون
مغايرًا عن الجواب الأول، والاستثناء في قوله (نعم إلا الدين) يدل على استشراف
الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمستقبل الذي أخبره به سيدنا جبريل.
2-2- الأحاديث الخاصة بالعبادات:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وكَّلني رسولُ اللهِ
بحفظ زكاةِ رمضانَ ، فأتانى آتٍ، فجعل يحثو من الطعامِ ، فأخذتُه ، فقلتُ :
لأَرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ ، قال : إني محتاجٌ ، وعليَّ دَينٌ وعِيالٌ، ولي حاجةٌ
شديدةٌ فخلَّيتُ عنه ، فأصبحتُ، فقال النَّبيُّ : يا أبا هريرةَ ما فعل أسيرُك
البارحةَ؟ قال : قلتُ : يا رسولَ اللهِ شكا حاجةً شديدةً وعِيالًا، فرحمتُه
فخلَّيتُ سبيلَه، قال: أما إنه قد كذبَك وسيعود فعرفت أنه سيعودُ ، لقولِ رسولِ
اللهِ : أنه سيعود ، فرصدتُه ، فجاء يحثو من الطعامِ ( وذكر الحديثَ إلى أن قال :
) فأخذتُه ( يعني في الثالثةِ ) فقلتُ : لأَرفعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ، و هذا آخرُ
ثلاثِ مراتٍ تزعم أنك لا تعود، ثم تعود، قال: دَعْني أُعلِّمْك كلماتٍ ينفعك اللهُ
بها قلتُ: ما هنَّ؟ قال، إذا أَوَيتَ إلى فراشِك، فاقرأ آيةَ الكرسيِّ : ( اللهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) حتى تختم الآيةَ، فإنك لن يزال
عليك من الله حافظٌ، ولا يقربُك شيطانٌ حتى تصبحَ فخلَّيتُ سبيلَه، فأصبحتُ، فقال
لي رسولُ اللهِ : ما فعل أسيرُك البارحةَ؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ زعم أنه
يُعلِّمُني كلماتٍ ينفعني اللهُ بها ، فخلَّيتُ سبيلَه ،
قال : ما هي ؟ قلتُ : قال لي : إذا أوَيتَ إلى فراشِك
فاقرأْ آيةَ الكُرسيِّ ، من أولها حتى تختم الآيةَ ( اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ )، و قال لي: لن يزال عليك من الله حافظٌ، و لا يقربُك
شيطانٌ حتى تصبحَ و كانوا أحرصَ شيءٍ على الخير فقال النبيُّ: أما إنه قد صدَقَك ،
و هو كذوبٌ ، تعلم مَن تخاطبُ منذ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هريرةَ ؟ قلتُ
: لا قال: ذاك الشيطانُ"([17])
والحديث الذي بين أيدينا ليس مقصورا على بيانه (صلى الله عليه وسلم) بل فيه
طعوم متعددة من البيان، ففيه كلام لراوي الحديث سيدنا أبي هريرة، وكلام للشيطان
اللعين، ومن المواقف التي دارات بينهما جاء بيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
في استشراف المستقبل والإخبار بالغيب.
وأول ما نبدأ به في تحليل هذا الهدي النبوي هو النظر في كلام سيدنا أبي
هريرة، وقد طال بيانه في صدر هذا الحديث، وأول ما نلحظ في بيانه أنه ابتدأه بفعل
له خصوصية معينة، فالفعل (وكلني) و وكّل إليه الأمرَ :سلّمه
وفوّضه إليه واعتمد عليه فيه، "والوَكِيلُ: اسم من أسماء الله وهُوَ
الْمُقِيمُ الْكَفِيلُ بأَرزاق الْعِبَادِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنه يستقلُّ بأَمر
المَوْكول إِليه. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: "أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ
دُونِي وَكِيلًا"([18]) ولم يقل (فوضني
أو سلمني) أو
غيرها من مترادفات هذا الفعل؛ ليبين لنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يشترك
معه أحد في هذا الأمر وترك له حرية التصرف، ويُقَالُ: تَوَكَّلَ بالأَمر إِذا
ضَمِن القِيامَ بِهِ، وأنَّ الوَكيلَ لا يَتصرَّفُ فيما أُوكِلَ إليه إلَّا بإذنٍ
مِن ربِّ المال، فجاءت هذه اللفظة عن قصد دون سواها لتناسب الحالة التي كان عليها.
ثم ترتب على الفعل (وكلني) فعلاً آخر ماضيًا (أتاني) ليناسب حكاية الحال
الماضية، واللافت للنظر هنا أنه استخدم الفعل (أتي) ولم يقل جاء أو أقبل أو من
مترادفات الفعل، وإذا تأملنا في المجيء لوجدناه يتبعه صعوبة أما الإتيان ففيه يسر
وسهولة، فالسارق لا يتعب فيما يأخذ. والمقصود بـ(زكاةِ رمضانَ) زكاة الفطر.
وعند تأمل دقة بيان سيدنا أبي هريرة في تتابع الفاءات التي جاءت بدلا عن واو
العطف في قوله: (فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعامِ، فأخذتُه ،
فقلتُ : لأَرفعنَّك)، فتتابع الفاءات ينبئ عن تتابع الأحداث وسرعة تواليها، وكأن
هذه الفاءات مست كل تفاصيل المشهد وطوته طيا خفيفا دون إغفال أية جزء منه
وفي قوله: (لأرفعنك إلى رسول الله) تكشف لنا عن حسن خلق سيدنا أبي هريرة،
فهو رجل بما تنبئ عنه الكلمة
من معاني الرجولة والجلادة، فلم يقل سآخذك لرسول الله وسيفعل فيك
كذا وكذا، ونلحظ أيضًا أنّ سيدنا أبي هريرة لم يُبن عن اسم الرجل أو أي شيء من
ملامحه، وفي قول رسول الله: (ما فعل أسيرك البارحة؟) وهذه من آيات الله لأن النبي ﷺ
لم يكن عنده ولكنه علم بذلك عن طريق الوحي، فالرسول يعلم أنه شيطان لعين، ويعلم
أنه كذاب ولكنه في الوقت نفسه لم يرفض الحق الذى جاء به، وعلم أبا هريرة والأمة من
بعده أن قبول الحق يكون من أي أحد ولا يشترط أن يكون قائله ممن نتفق معه أو نحبه،
فلا يوجد أسوأ من الشيطان ومع ذلك صدق النبي صلى الله عليه وسلّم على كلامه، لأن
المسلم يحب الحق ويتبعه حتى لو جاء ممن ليس هو من أهل الحق على الإطلاق، فالحكمة
ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذ بها، فالفاجر قد يعلم الحق فلا يتّبعه ولا ينتفع به،
فيتلقّاه المؤمن منه فيجد فيه الخير الكثير.
فقول النبى (صلى الله عليه وسلّم): «صدقك وهو كذوب»؛ يلفت النظر إلى ركيزةٍ
أساسيّة فى خلق المسلم، والتى تتمثّل فى العدل والقسط مع الآخرين، فالشيطان هو أصل
الشرور ومنبعها، ومع ذلك لم يمتنع رسول الله عليه الصلاة والسلام من إقرار مقولة الشيطان
وبيان صدقه في هذا الموقف بالرغم من المعدن الخبيث للشيطان وتأصّل جانب الكذب
والزور والافتراء عنده، ولذلك تحدّث العلماء بأن قول المصطفى عليه الصلاة والسلام
«وهو كذوب» هو إتمامٌ بليغ لوصف الشيطان؛ حيث أثبت الصدق له على نحوٍ لا يوهم
المدح المطلق، وهذا هو مقتضى القسط والعدل في الإسلام، وفي قول الشيطان اللعين:
" وعليَّ دَينٌ وعِيالٌ" مجاز مرسل علاقته الجزئية، ذكر الجزء وأراد به
الكل أي لي عيال وزوجة أو أهل.
2-3- باب الحديث عن الجنة والنار:
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ المَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ فَصَعِدَ
المِنْبَرَ، فَقَالَ: "لاَ تَسْأَلُونِي اليَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ"
فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ
فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى الرِّجَالَ يُدْعَى
لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «حُذَافَةُ»
ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، نَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ كَاليَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ
صُوِّرَتْ لِي الجَنَّةُ وَالنَّارُ، حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الحَائِطِ»
وَكَانَ قَتَادَةُ، يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الحَدِيثِ هَذِهِ الآيَةَ: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُم"([19])([20])
الحديث الذي أمامنا تبدو فيه دقة الراوي سيدنا أنس وأمانته في نقل المشهد
بكل تفاصيله وأحداثه، وأول ما بدأ به سيدنا أنس بيانه هو ذكر السبب الذي غضب منه
رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال: (سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ المَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ) و(حتى) جاءت لبيان
الغاية التي وصلت حد الإلحاف في السؤال، وهذا يعني أن غضب الرسول (صلى الله عليه
وسلم) ليس للسؤال ولكن للإلحاف فيه، "والإِلْحَاف: شِدَّةُ الإِلْحاح فِي
المسأَلة"([21])، وفي التنزيل العزيز: "لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا"([22]) وهذا ما جعل النبي يغضب ويصعد المنبر وقال: "لاَ تَسْأَلُونِي
اليَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ
لَكُمْ" فظن السامعون أن غضب رسول (صلى الله عليه وسلم) من كثرة
الأسئلة، ولكن الرسول أدهش الجميع بقوله: "لاَ تَسْأَلُونِي اليَوْمَ عَنْ
شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ"
فجاء حرف الاستثناء (لا) ليجسد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على لفت أسماعهم
وإثارة انتباههم، حتى لا تتكرر مساءلته بهذه الصورة مرة أخرى، ولذا قيد عبارته بـ
(اليوم) وجعل الأمر عامًا فعبر بكلمة جامعة شاملة (شيء) مع مجيئها نكرة.
وجملة "فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا" تكشف لنا عن
شدة رغبة سيدنا أنس في استكشاف أحوال الناس من حوله، وكيفية استقبالهم لتلك الجملة
والتي كان لها وقع الصاعقة في نفوسهم، وجملة (لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ) وإن
قصد بها حقيقتها إلا أنها كناية عن شدة الخوف والوجل التي أصابت القوم، وعبر
بالفعل (يبكي) بصيغة المضارع لبيان روعة المشهد وكأننا نراهم بأعيننا الآن.
وبينما القوم على هذه الحالة التي تقضي ألا يصدر سؤالا من أحد، ولكن يبدو
أن أحد الحاضرين كان عنده سؤالاً يحتاج لإبانة والكشف عن حقيقة أمرٍ كانت تشغله
وتراوده منذ زمن وهو: (من أبي؟) وهذا الرجل (يدعى لغير أبيه) أي: ينسب لغير أبيه،
والتعبير بالفعل (يدعى) لما لم يسم فاعله يدل على العموم وشيوع الأمر، فالرجل لم
يستح من سؤاله، فنرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) يجبه قائلًا: (حذافة) لأن رغبته
الشديدة في معرفة أبيه وحسم الأمر ويزيل كل ما يساوره من شك لا تتحمل أية مقدمات
فحذف المسند إليه مراعاة لحال غضبه والإسراع لمطمئنته.
وتظهر بلاغة الهدي النبوي بالإحساس بالمعنى في قوله: " مَا رَأَيْتُ
فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ كَاليَوْمِ قَطُّ" فجمع بين الضدين لتأكيد المعنى في
اطلاعه على الغيبيات سواء في الخير أو الشر، وفي قوله: (كاليوم قط) فيه إيجاز بحذف
المسند إليه أي: (كما رأيت اليوم قط) ليتناسب مع هذا المشهد وما فيه من إثارة ورعب
وخوف ووجل.
وبالنظر في بيانه (صلى الله عليه
وسلم) ندرك هذا اللون البديعي ما يسمى (اللف والنشر)([23]) "صُوِّرَتْ لِي الجَنَّةُ وَالنَّارُ، حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ
الحَائِط"، فقوله الجنة يرجع إلى
الخير وقوله النار يرجع إلى الشر، ومن أمثلة اللف والنشر في التنزيل العزيز قوله
تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ"
ويضاف إلى ذلك لون بديعي آخر السجع الذي أضفى على المعنى قوة وفخامة، حيث
ختمت الجملتان التي تكونا منهما بناء الحديث بحرف الطاء في (قط) و(الحائط) وكل
جملة منهما كان لها وقعها القوي في التأثير على النفوس والاستيلاء على الأسماع،
وكل هذا نابع من صوت (الطاء) القوي لأن في صفاته الاستعلاء والاطباق، وفيه كذلك
الجهر والشدة.
وهذا الهدي النبوي فيه من استشراف الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمستقبل في
أمرين:
أولهما: جوابه للرجل في معرفة أبيه وإن كان هذا الشيء من الغبيات،
وثانيهما: اطلاع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الغبيات حيث كشف له الحجب
فأراه الله الجنة بما فيها من خير وأخيار، وأراه النار بما فيها من شر وأشرار،
وهذا جليّ في قوله: " مَا رَأَيْتُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ كَاليَوْمِ
قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الجَنَّةُ وَالنَّارُ، حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ
الحَائِطِ" والطابع الذي يتسم به هذا البيان هو الطابع الخبري وقد جاء في
غاية المناسبة للمقام؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يتحدث عن غيبيات وأمور لا
يطلع عليها إلا نبي مرسل، ولذا كان الأسلوب الخبري هو الأنسب لحكاية تلك الحال.
خاتمة:
بعد دراسة بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة باستشراف
المستقبل توصل الباحث إلى جملة من النتائج الآتية:
-
أن استشراف المستقبل ليس من تلقاء النبي صلى الله عليه وسلم بل هي من الوحي
النازل من السماء، وقد دعم هذا المعنى ما جاء في بيانه صلى الله عليه وسلم صراحة
في مثل قوله: (كذلك قال لي جبريل).
-
2 – أن استشراف النبي صلى الله عليه وسلم للمستقبل تختلف
عن الجهود البشرية في استشراف المستقبل، فاستشراف السنة ليست تكهنات أو افتراضات،
بل هي من وحي الله لنبيه، في حين يبقى الجهد البشري أسير الظنون والاحتمالات.
-
3 – تبين من خلال البحث في الأحاديث تنوع الصور البيانة
بين مجاز وتشبيه واستعارة، ومن أمثلة التشبيه في قوله: ( كذلك
قال لي جبريل) وقد أكد هذا التشبيه أن استشراف المستقبل أمر موحى إلى النبي صلى
الله عليه وسلم .
-
4 –اتسمت بعض جمله وتراكيبه
بالتوكيدات الحاسمة والصارمة والتي تناغمت مع مقصده فيما يدل على استشراف المستقبل
في مثل قوله: (والذي نفسي بيده).
-
5 - استشراف السنة النبوية للمستقبل جاءت في مجالات
مختلفة، سياسية، دينية، اجتماعية، كثيرة تحتاج إلى من يكشف عنها.
المصادر والمراجع
أثر الاستشراف والتخطيط المستقبلي في العلم والتعليم في
ضوء السنة النبوية، طه محمد فارس، مجلة كلية الإمام الأعظم
الجامعة، ٢٠١٤م.
الاتجاهات الحديثة في تخطيط المناهج الدراسية في ضوء
التوجيهات الإسلامية، محمود أحمد شوق، دار الفكر العربي،1421 هـ.
استشراف المستقبل في الأحاديث النبوية، عبد الرحمن عبد اللطيف قشوع، الجامعة الأردنية، 2005م.
استشراق المستقبل في ضوء الحديث النبوي الشريف، محمد بشار آمين، مؤتة للبحوث والدراسات، سلسة العلوم
الإسلامية والاجتماعية، جامعة مؤتة، 2004م.
البيان والتبيين،
أبو عثمان عمرو
بن بحر بن محبوب الكناني الجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423 هـ.
الجامع الكبير، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك،
الترمذي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعبد اللطيف حرز الله،
الرسالة العالمية، بيروت، 1430 هـ.
السنن الصغرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني
النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، ط٢، حلب، 1406 هـ.
صحيح البخاري،
محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر،
دار طوق النجاة، ط١، 1422 هـ.
كتاب التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، تحقيق:
جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، ط١، بيروت، 1403 هـ.
لسان العرب،
أبو الفضل جمال
الدين ابن محمد بن مكرم بن على منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى، دار صادر، ط٣،
بيروت، 1414هـ.