المباحث اللغوية في تفسير البيضاوي

من أول سورة البقرة حتى نهاية الجزء الأول من القرآن الكريم

 

محمود جان مهاجر بن عبد الرحمن (ماموهايماي)

باحث دكتوراه، جامعة قسطموني، تركيا

البريد الإلكتروني: mmuhacir860@gmail.com

معرف (أوركيد): 0000-0002-1111-9280

بحث أصيل

الاستلام: 10-2-2024

القبول: 10-4-2024

النشر: 30-4-2024

 

 

الملخص:

للبحث اللغوي دور مهم في الفهم الصحيح للقرآن الكريم؛ لذا استفاد المفسرون منه في تفاسيرهم على اختلاف آرائهم، ومنهم البيضاوي في تفسيره القيم، وتهدف هذه المقالة إلى استخراج الآراء اللغوية للبيضاوي في الجزء الأول من القرآن الکريم من سورة البقرة، وتسعى إلى أن تجيب على الأسئلة الآتية: ما هي الآراء اللغوية المؤثِّرة في فهم وتفسير الآيات القرآنية في تفسير البيضاوي؟ وما هو مذهبه اللغوي في التفسير؟ ونستنتج منها تبعية البيضاوي للزمخشري في آرائه اللغوية، وإن لم يکن يفصّل في المباحث اللغوية الصرفية والنحوية والبلاغية کما فصّلها بعض المفسرين، والبيضاوي لم يکن کوفي المذهب في النحو کما هو مشهور، بل كان يختار الرأي الذي يقتنع به من دون تقيّد بمذهب واحد.

الكلمات المفتاحية:

البيضاوي، التفسير، الآراء الأدبية، البحث اللغوي والصرفي.

للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation محمود جان مهاجر، عبد الرحمن (2024). المباحث اللغوية في تفسير البيضاوي من أول سورة البقرة حتى نهاية الجزء الأول من القرآن الكريم. ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها. مج5، ع9، 61- 83 https://www.daadjournal.com/ /.

Linguistic Issues in Beydâvî's Tafsir From the Beginning of Surah Al-Baqarah to the End of the First Part of the Holy Quran

 

Mahmutcan MUHACIR

PHD Researcher, Kastamonu University, Turkey

E-Mail: mmuhacir860@gmail.com

Orcid: 0000-0002-1111-9280

 

Published: 30.04.2024

Accepted: 10.04.2024

Received: 10.02.2024

Research Article

 

 

Abstract:

Arabic literature, especially linguistic and morphological research, has an important role in understanding and correct interpretation of the Holy Quran. Therefore, commentators have benefited from it in their interpretation of different views, including al-Baydavi, in their valuable commentaries. This article provides the extraction of al-Baydawi's literary views in the first part of the Holy Quran and tries to answer the following questions: What are the literary views in Beydâvî's Tafsir that affect the understanding and interpretation of the verses of the Quran and he in terms of literary interpretation Which sect is it? We conclude that al-Baydavi was subordinate to al-Zamakhshari in his literary views and did not distinguish linguistic, morphological, grammatical and rhetorical views and contents as some commentators do. Al-Baydavi was not a member of the Kufa school of grammar, as people thought. Moreover, he chose the view he was convinced of, without adhering to any sectarian school..

Keywords:

Al-Baydavi, tafsir, literary views, linguistic and morphological research


تتناول المقالة تفسير البيضاوي لتسع كلمات منتخبة غير ماْلوفة وهي بالترتيب (المتقي، والإيمان، والصلاة، والكفر، والمخادعة، والشياطين، والخطف، والاستواء، والحطة، وادّاراءتم)، وانتخبتُ هذه الكلمات لأن البيضاوي شرح أكثر المفردات القرآنية حتى ولو كانت بسيطة، وهذا الأمر تسبّب في أن يكون البحث اللغوي المعجمي في تفسير البيضاوي أكثر من البحثين النحوي والبلاغي، ولذلك رأينا أن يقتصر البحث على هذه الكلمات المنتخبة فقط، من خلال البحث عن هذه الكلمات في  تفسير البيضاوي مع مقارنته باقوال اللغويين والمفسرين الآخرين حولها.

1-   كلمة [المتقي] في قوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾([1]).

قال البيضاوي: «والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى والوقاية فرط الصيانة وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة وله ثلاث مراتب، الأولى التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى: ﴿ وألزمهم كلمة التقوى﴾([2])، الثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ([3])، الثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ([4]) وقد فسر قوله: ﴿ هدى للمتقين﴾ ههنا على الأوجه الثلاثة»([5]).

قال ابن حاجب: «الإبدال جعل حرف مكان غيره .... والتاء من الواو والياء والسين والباء والصاد، فمن الواو والياء لازم في نحو اتّعد واتّسر على الأفصح»([6]).

قال الزمخشري: «والمتقي في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى، والوقاية: فرط الصيانة، ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه، وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر، وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر»([7]).

قال ابن منظور: «( وقي ) وقاهُ اللهُ وَقْيًا وَوِقايةً وواقِيةً صانَه قال أَبو مَعْقِل الهُذليّ فَعادَ عليكِ إنَّ لكُنَّ حَظًّا وواقِيةً كواقِيةِ الكِلابِ وفي الحديث فَوقَى أَحَدُكم وجْهَه النارَ وَقَيْتُ الشيء أَقِيه إذا صُنْتَه وسَتَرْتَه عن الأَذى وهذا اللفظ خبر أُريد به الأمر أي لِيَقِ أَحدُكم وجهَه النارَ بالطاعة والصَّدَقة وقوله في حديث معاذ وتَوَقَّ كَرائَمَ أَموالِهم أَي تَجَنَّبْها ولا تأْخُذْها في الصدَقة لأَنها تَكرْمُ على أَصْحابها وتَعِزُّ فخذ الوسَطَ لا العالي ولا التَّازِلَ وتَوقَّى واتَّقى بمعنى ومنه الحديث تَبَقَّهْ وتوَقَّهْ أَي اسْتَبْقِ نَفْسك ولا تُعَرِّضْها للتَّلَف وتَحَرَّزْ من الآفات واتَّقِها»([8]).

 قال الرازي: «[ وقي ] وق ي: اتَّقَى يَتَّقِي وتَقَى يَتْقِي كقَضَى يَقْضِي والتَّقْوَى والتُّقَى واحد والتُّقَاةُ التَّقِيَّةُ يُقال اتَّقَى تَقِيَّةً وتُقَاءً والتَّقِيُّ المُتَّقِي وقالوا ما أَتقاه لله وتَوَقَّى واتَّقَى واتَّقَى بمعنى ووَقَاهُ الله وِقَايَةً بالكسر حفِظه والوِقايةُ أيضا التي للنساء وفتح الواو لغة»([9]). 

النتيجة والتحليل: هذه الأقوال التي نقلناها عن عدد من اللغويين تشير إلى أن المتقي اسم فاعل من اتَّقَى يَتَّقِي، أصله وقي بمعنى صان وستر، وهو لغةً: الذي يصون نفسه من الأذي والخطرات، سواءً كان صونه عن الأذى المحسوس أو غير المحسوس، وسواءً كان عن خطرات الدنيا أو الآخرة، ولكنّه في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، لذلك يسمى الذي يصون نفسه من العذاب الآخرة متقيا، وليس بالعكس، ومن ثم فلا فرق بين أقوال اللغويين وبين قول البيضاوي في التعريف، ولكن البيضاوي قسّمه لثلاث مراتب كما هو مذكور في قوله، ولم يذكر سائر المفسرين واللغويين هذه المراتب للمتقي، كما مر في الأقوال المنقولة.

2-  كلمة [الإيمان] في قوله تعالى: ﴿الذين يؤمنون بالغيب...([10]).

قال البيضاوي: «والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة وتعديته بالباء لتضمّنه معنى الاعتراف، وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة، وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب، وأما في الشرع؛ فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة»([11]).

 قال الزمخشري: «والإيمان: إفعال من الأمن، يقال: أمنته وآمنته غيري، ثم يقال: آمنه إذا صدّقه، وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة، وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف، وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت؛ فحقيقته: صرت ذا أمن به، أي ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في ﴿يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق»([12]).

قال الطبرسي: «ويؤمنون معناه يصدقون والواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع والأصل في يفعل يؤفعل، ولكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية، فقيل: أفعل، ثم حذفت من الصيغ الأخر نفعل وتفعل ويفعل، كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء وكسرة؛ إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد وأعد ونعد ليجري الباب على سنن واحد، قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى: ﴿و ما أنت بمؤمن لنا﴾([13]) أي ما أنت بمصدق لنا، قال أبو زيد وقالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت، فالإيمان هو الثقة والتصديق، قال الله تعالى: ﴿ الذين آمنوا بآياتنا... ([14]) أي صدقوا ووثقوا بها... ويجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل تقول أمنته فـ (آمن) مثل كببته فأكب والأمن خلاف الخوف والأمانة خلاف الخيانة، والأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها وكلالها، ويجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا آمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب وأعاه وأصح وأسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جربا، هذا في أصل اللغة، أما في الشريعة؛ فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى وأنبيائه وملائكته وكتبه والبعث والنشور والجنة والنار»([15]).

قال الرازي: «[ أمن ]: الأمَانُ والأمَنةُ بمعنى وقد أمِنَ من باب فهم وسلم وأمَانًا وأَمَنَةً بفتحتين فهو آمِنٌ وآمَنهُ غيره من الأمْنِ والأمَانِ والإيمانُ التصديق والله تعالى المُؤْمِنُ لأنه آمنَ عباده من أن يظلمهم وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية ومنه المهيمن وأصله مؤامن لينت الثانية وقلبت ياء كراهة اجتماعهما وقلبت الأولى هاء كما قالوا أراق الماء وهراقه والأمْنُ ضد الخوف والأَمَنةُ الأمن كما مر ومنه قوله تعالى: ﴿... أمنة نعاسا﴾([16]) والأمنة أيضا الذي يثق بكل أحد وكذا الأُمنة بوزن الهمزة وأَمِنَهُ على كذا وأْتَمَنه بمعنى، وقرئ ﴿... مالك لا تأمنا على يوسف... ([17]) بين الإدغام والإظهار، وقال الأخفش والإدغام أحسن وتقول اؤتُمِن فلان على ما لم يسم فاعله، فإن ابتدأت به صيرت الهمزة الثانية واوا، وتمامه في الأصل واستأمَنَ إليه دخل في أمانه»([18]).

النتيجة والتحليل: قد ذكر البيضاوي أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن، وذكر هذا القول الزمخشري والطبرسي قبله، ويبدو أن اللغويين والمفسرين اتفقوا على أن الايمان بمعنى التصديق والوثوق لغةً، لأنّ عبد القادر الرازي قد ذكر معنى التصديق للإيمان بعد البيضاوي أيضا، ولكن الظاهر من أقوال الزمخشري والبيضاوي أن الإيمان متضمن معنى الاعتراف والإقرار بالباء وأنهما طبّقا هذه الآية بمعنى الاعتراف والإقرار كما هو مذكور في قولهما، وأما عبد القادر الرازي فقد ذكر بعد قوله المذكور قلب الهمزة هاءً كما في المهيمن وأصله مؤامن وهراق أصله أراق ولم يذكر هذا القلب سائر اللغويين.

3-  كلمة [الصلاة] في قوله تعالى: ﴿ويقيمون الصلاة...([19]).  

قال البيضاوي: «والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى، كتبتا بالواو على لفظ المفخم، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء، وقيل أصل صلى حرك الصلوين؛ لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد»([20]).    

قال الراغب الأصفهاني: "أصل الصلي لإيقاد النار، ويقال صلي بالنار وبكذا أي بلي بها واصطلي بها، وصلّيت الشاة، شوّيتها وهي مصلية قال تعالى: ﴿اصلوها اليوم...([21])... والصلاء يقال للوقود وللشواء، والصلاة: قال كثير من أهل اللغة: هي الدعاء والتبريك والتمجيد، يقال صلَّيت عليه أي دعوت له وزكَّيت»([22]).

قال الزمخشري: «والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى: حرّك الصلوين؛ لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان، وقيل للداعي: مصلّ، تشبيهًا في تخشعه بالراكع والساجد»([23]).

قال السمين الحلبي في (الصلاة): «وزنُها: فَعَلَة، ولامها واو لقولهم: صَلَوات، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفًا، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما: عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانيًا عند صَلَوَي السابق، والصلاةُ لغةً: الدعاءُ ... وفي الشرع: هذه العبادةُ المعروفة، وقيل: هي مأخوذةٌ من اللزوم، ومنه: « صَلِيَ بالنار » أي لَزِمَها... وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه، قال:

فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ       فما صلى عَصاكَ كمُسْتديمِ([24]).

ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء»([25]).

وبعض العلماء يعتقدون إن الاصطلاحات الدينية مثل كلمة الصلوة كانت تطلق على عبادات في الجاهلية ايضا، فقال الشهيد الصدر: « إن تلك الألفاظ لم تكن بدعا من التعبير ولم يستغربها الناس، وهو كاشف عن تعارفها بمعانيها العبادية قبل ذلك، بل نلاحظ أن القرآن الكريم يعرّض بكفار الجاهلية وبعبادتهم فيطلق عليها في مجال التعريض اسم الصلوة، وهذا ظاهر في أن هذا اللفظ هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على عبادتهم كما يطلقه الشارع على ما جاء به، وذلك كما في قوله  تعالى: ﴿وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية﴾([26])، ويعزّز هذا المدعي أيضا ما يقال: من أن ( صلاة وزكاة ) لفظتان عبريتان كانتا بمعنى العبادة المعهودة وقد عرّب اللفظ وبقي محافظا على الواو في الخط تأثرا بأصله »([27]).

فالصلاة مصدر على وزن «فعلة» من صلي ولامه واوي لانَّ جمعه صلوات، عندما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها قُلِبت الواو ألفًا، ومعناه لغةً: الدعاء والتبريك والتمجيد وتحرّك الصلوين، ومعناه شرعا: العبادة المخصوصة، لأن أصحاب هذه الاقوال المذكورة كلهم ذكروا هذا المعنى.

التحليل: معنى تحرّك الصلوين للصلاة لغةً فقد ذكره الزمخشري قبل البيضاوي وذكر بعده السمين الحلبي، فعُلم على هذا الاساس ان المفسرين اتفقوا على معانيها اللغوي والشرعي التي ذكرها البيضاوي وقبِلواها، ويظهر من قول السمين الحلبي أن أكثر اللغويين قالوا: صلي بمعنا لزِم الشيء وقوًم نفسه، واستدلوا على هذا القول بأشعار مختلفة، ولكن السمين الحلبي استشكل هذا القول واستدل عليه بكون الصلاة بمعنى الدعاء واويا وكون هذا يائيا كما رأينا في قوله. 

4-   كلمة [المخادعة] في قوله تعالى: ﴿يخادعون الله والذين آمنوا﴾([28]).

قال البيضاوي: «الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه وعما هو بصدده من قولهم خدع الضب إذ توارى في جحره وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وأصله الإخفاء، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في العنق والمخادعة تكون بين اثنين»([29]).

قال ابن فارس: «(خدع) الخاء والدال والعين أصلٌ واحد، ذكر الخليلُ قياسَه، قال الخليل، الإخداع إخفاءُ الشَّيء، قال: وبذلك سُمِّيت الخِزانة المِخْدع، وعلى هذا الذي ذكر الخليلُ يجري البابُ، فمنه خَدَعْتُ الرَّجُلَ خَتَلْتُه، ومنه: "الحرب خُدَعَةٌ" و"خُدْعَةٌويقال خَدَع الرِّيقُ في الفم، وذلك أنَّه يَخْفَى في الحَلْق وَيغِيب... والأخدع: عِرْقٌ في سالفة العُنُق، وهو خفيّ، ورجل مخدوعٌ: قُطع أخدَعُه، ولفلان خُلُقٌ خادِعٌ، إذا تخلَّق بغير خُلُقه، وهو من الباب؛ لأنه يُخفِي خلاف ما يُظهره، ويقال: إنَّ الخُدَعَة الدّهرُ»([30]).

قال الطبرسي: «أصل الخدع الإخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر وخديعة وقالوا إنك لأخدع من ضب حرشته وخادعت فلانا فخدعته والنفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح والنفس بمعنى التأكيد، تقول جاءني زيد نفسه والنفس بمعنى الذات وهو الأصل ويقال النفس غير الروح ويقال هما اسمان بمعنى واحد ويشعرون يعلمون وأصل الشعر الإحساس بالشيء من جهة تدق ومن هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى والوزن، ولا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف والتخيل»([31]).

قال ابن الحاجب: «فَاعَل لنسبة أصله إلى أحد الأمرين متعلقا بالآخر للمشاركة صريحا فيجيء العكس ضمنا نحو ضاربته وشاركته... وبمعنى فعَلَ نحو سافرت أي سفرت»([32]).

قال ابن منظور« ( خدع ) الخَدْعُ إظهار خلاف ما تُخْفيه أبو زيد خَدَعَه يَخْدَعُه خِدْعًا بالكسر مثل سَحَرَه يَسْحَرُه سِحْرًا قال رؤْية وقد أُداهِي خِدْعَ مَن تَخَدَّعا وأجاز غيره خَدْعًا بالفتح وخَدِيعةً وخُدْعةً أَي أَراد به المكروه وختله من حيث لا يعلم وخادَعَه مُخادَعة وخِداعًا وخَدَّعَه واخْتَدَعه خَدَعه قال الله عز وجل: ﴿ يُخادِعون اللهَ جازَ يُفاعِلُ لغير اثنين لأَن هذا المثال يقع كثيرًا في اللغة للواحد نحو عاقَبْتُ اللِّصَّ وطارَقْت النعلَ، قال الفارسي: قُرئَ ﴿ يُخادِعون الله ويَخْدَعُون الله قال: والعرب تقول خادَعْت فلانًا إذا كنت تَرُوم خَدْعه وعلى هذا يوجه قوله تعالى: ﴿ يُخادِعون الله وهو خادِعُهم ([33])، معناه أَنهم يُقدِّرون في أَنفسهم أَنهم يَخْدَعون اللهَ، والله هو الخادع لهم أَي المُجازي لهم جَزاءَ خِداعِهم»([34]).

التحليل: قول البيضاوي الذي نقلناه عن اللفظة قد ذكره الطبرسي قبل البيضاوي وابن فارس ذكر قريبا منه معنى، وذكره بعده ابن منظور أيضا، وهذا يدل على أن قول البيضاوي جاء موافقا لقول المفسرين واللغويين من قبله ووافقه عليه من بعده.

ونستنتج من الأقوال المذكورة أنّ المخادعة مصدر من الفعل خادع، يخادع ووزنها المفاعلة من باب المشاركة بين اثنين، ولكنها تستعمل للواحد أيضا، لأَن هذا الوزن يقع كثيرًا في اللغة للواحد نحو عاقَبْتُ اللِّصَّ وطارَقْت النعلَ، كما ذكره ابن منظور، ومعنى الخدع والإخداع هو الإخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير والإظهار خلاف ما تُخْفيه ولكنه عندما يسند إلى الله تعالى يكون بمعنى المجازاة نحو: ﴿... وهو خادعهم﴾([35])، يعني وهو المُجازي لهم جَزاءَ خِداعِهم.

5-  كلمة [الشياطين] في قوله تعالى: ﴿وإذا خلوا إلى شياطينهم...([36]).

 قال البيضاوي: «...والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح ويشهد له قولهم تشيطن وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل»([37]).

قال الخليل: «باب الشين والطاء والنون معهما ش ط ن، ن ش ط، ن ط ش مستعملات شطن: الشطن: الحبل الطويل الشديد الفتل، يستقى به، ويقال للفرس العزيز النفس: إنه لينزو بين شطنين، يضرب مثلا للإنسان الأشر القوي، وذلك أنه إذا استعصى على صاحبه شده بحبلين من جانبين، فهو فرس مشطون، وغزوة شطون، أي: بعيدة، وشطنت الدار شطونا، إذا بعدت، وأكثر ما يقال: نوى شطون، ونية شطون، والشيطان: فيعال من شطن، أي: بعد، ويقال: شيطن الرجل، وتشيطن، إذا صار كالشيطان»([38]).

قال الزمخشري: «وشياطينهم: الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم، وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، والدليل على أصالتها قولهم: تشيطن، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد؛ لبعده من الصلاح والخير، ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة، ومن أسمائه الباطل»([39])،

قال الرازي: «الشَّطَنُ بفتحتين الحبل وقال الخليل هو الحبل الطويل وجمعه أشْطانٌ والشَّيْطانُ معروف وكل عاتٍ متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان والعرب تسمي الحية شيطانا وقوله تعالى: ﴿ طلْعها كأنه رؤوس الشياطين ([40])، قال الفراء: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه شبَّه طلعها في قبحه برءوس الشياطين لأنها موصوفة بالقبح، والثاني: أن العرب تُسمي بعض الحيات شيطانا وهو ذو عرف قبيح، والوجه الثالث: قيل إنه نبت قبيح يُسمى رءوس الشياطين والشيطان نونه أصلية، وقيل إنها زائدة، فإن جعلته فيعالا من قولهم تَشَيْطَنَ الرجل صرفته، وإن جعلته من تَشَيَّطَ لم تصرفه لأنه فعلان»([41]).

التحليل والنتيجة: الشياطين جمع شيطان وهو إذا اشتُقّ من شطن بمعنى بعُد، تكون نونه أصلية ووزنه فيعال وإذا اشتٌقّ من شاط بمعنى بطل يكون نونه زائدة ووزنه فعلان كما وضّحه البيضاوي نقلا عن السيبويه وذكر الزمخشري هذا القول قبل البيضاوي، ولكنه ليس بعين ألفاظه، وقُبل هذا القول بعد البيضاوي، ويظهر من قول البيضاوي والزمخشري أن البيضاوي أخذ هذا القول من الزمخشري لأن مضمون عبارتيهما واحد كما رأينا.

6-  كلمة [الخطف] في قوله تعالى: ﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم﴾([42]).

قال البيضاوي: «والخطف الأخذ بسرعة وقرئ يخطف بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف فنقلت فتحة التاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها ويخطف ويتخطف»([43]).

قال ابن فارس: «(خطف) الخاء والطاء والفاء أصلٌ واحدٌ مطّرِد منقاس، وهو استلابٌ في خفّة، فالخَطْف الاستلاب، تقول: خَطِفْتُه أخْطَفُه، وخَطَفْتُه أخطِفُه، وبَرْقٌ خاطفٌ لنور الأبْصار، قال الله تعالى: ﴿يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُم﴾([44])، والشيطان يخطِف السَّمع، إذا استرق، قال الله تعالى: ﴿إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَة﴾([45])، ويقال للشيطان: "الخَطّاف"، وقد جاء هذا الاسم في الحديث: وجمل خَيْطَفٌ: سريع المَرّ، وتلك السُّرعة الخَيْطَفى»([46]).

قال الزمخشري: «والخطف: الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد «يخطف» بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: يختطف، وعن الحسن: يخطف، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف، وعنه: يخطف، بكسرهما على إتباع الياء الخاء، وعن زيد بن علي: يخطف، من خطف، وعن أبيّ: «يتخطف»، من قوله: ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾([47])»([48]).

جاء المعجم الوسيط: «(خطف) خطفا وخطفانا مر سريعا والشيء خطفا جذبه وأخذه بسرعة واستلبه واختلسه، ويقال خطف البرق البصر ذهب به وخطف السمع استرقه (خطف) خطفا خطف والشيء خطفه وفي التنزيل العزيز: ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ([49])، (خُطف) ضُمر فهو مخطوف»([50]).

التحليل: قول البيضاوي الذي نقلناه عن اللفظة وخاصة معنى الأخذ بسرعة للخطف، قد ذكره الزمخشري قبله والمعجم الوسيط بعده، وأما ابن فارس فقد ذكر قريبا من هذا المعنى، وهذا يشير إلى أن قول البيضاوي مقبول بين المفسرين واللغويين.

النتيجة: هذه الأقوال المذكورة تدل على أن الخطف مصدر من خطف، يخطف أي أخذه بسرعة واستلبه واختلسه ولذلك يقال للشيطان: "الخَطّاف"، لأنه يأخذ السمع سريعا، وفيه قراءات مختلفة لا تأثير لها في المعنى.

7-  كلمة [استوى] في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ...([51]).

قال البيضاوي: «قصد إليها بإرادته من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي استولى وملك... والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو»([52]).

قال الراغب الاصفهاني: «واستوى يقال على وجهين، أحدهما: يسند إليه فاعلان فصاعدا نحو استوى زيد وعمرو في كذا أي تساويا، وقال  تعالى: ﴿ لا يستوون عند الله...([53])، والثانى أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو ﴿ذو مرة فاستوى﴾([54])، ... واستوى فلان على عمالته واستوى أمر فلان، ومتى عدى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله  تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾([55])، وقيل معناه استوى له ما في السموات وما في الارض أي استقام الكل على مراده بتسوية الله تعالى إياه كقوله تعالى: ﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن ([56])، وقيل معناه استوى كل شيء في النسبة إليه فلا شيء أقرب إليه من شيء إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالة في مكان دون مكان، وإذا عدي بإلى اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهى دخان﴾([57])، وتسوية الشيء جعله سواء إما في الرفعة أو في الضعة، وقوله تعالى: ﴿الذى خلقك فسواك﴾([58])، أي جعل خلقتك على ما اقتضت الحكمة، وقوله تعالى: ﴿ونفس وما سواها﴾([59])، فإشارة إلى القوى التى جعلها مقومة للنفس فنسب الفعل إليها»([60]).

قال الزمخشري: «والاستواء: الاعتدال والاستقامة، يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدًا مستويًا، من غير أن يلوي على شيء، ومنه استعير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السماء﴾([61])، أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، والمراد بالسماء جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق»([62]).

قال الطبرسي: «وقوله: ﴿ ثم استوى إلى السماء فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه قصد للسماء ولتسويتها كقول القائل كان الأمير يدبر أمر الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول تدبيره وفعله إليهم ( وثانيها ) أنه بمعنى استولى على السماء بالقهر كما قال لتستووا على ظهوره أي تقهروه ومنه قوله « ولما بلغ أشده واستوى » أي تمكن من أمره وقهر هواه بعقله فعلى هذا يكون معناه ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه... (وثالثها ) أن معناه ثم استوى أمره وصعد إلى السماء لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض عن ابن عباس ( ورابعها ) ما روي عن ثعلب أحمد ابن يحيى أنه سئل عن معنى الاستواء في صفة الله عز وجل فقال الاستواء الإقبال على الشيء يقال كان فلان مقبلا على فلان [ يشتمه ] ثم استوى علي وإلي يكلمني، على معنى أقبل إلي وعلي، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿ ثم استوى إلى السماء ([63])»([64]).

قال الرازي: «سَوَّيْتُ الشيء تَسْوِيَةً فاستَوَى وقسم الشيء بينهما بالسَّويَّةِ ورجل سَوِيُّ الخلق أي مُسْتَوٍ واسْتَوَى من اعوجاج واستوى على ظهر دابته أي استقر وساوَى بينهما أي سوَّى واسْتَوَى إلى السماء قصد واستوى أي استولى وظهر ... واستوى الرجل انتهى شبابه، وقصد سِوَى فلان أي قصد قَصْدَهُ ... واسْتَوَى الشيء اعتدل، والاسم السَّواءُ، يقال سواء على أقمت أم قعدت »([65]).

التحليل والنتيجة: قد اختصر البيضاوي في شرح معنى الاستواء فذكر له ثلاثة معان فقط، وهي: القصد بالإرادة وطلب السواء والاستيلاء، وذكر سائر اللغويين والمفسرين إضافة إلى ما ذكره البيضاوي للاستواء معاني مختلفة، منها القصد بالإرادة وطلب المساواة والاعتدال والاستيلاء إذا تعدي بــ «على» والانتهاء إذا تعدي بــ«إلى» والاستقامة والاستقرار وغيره، وهذه المعاني الكثيرة تدل على أن البيضاوي اختصر في بيان معنى الاستواء ولم يؤد حق الكلمة جيدا، وكان ينبغي له أن يذكر كل المعاني التي بيّنها اللغويون لها، وهذه المعاني تحتاج إلى قرينة ليتعيّن المناسب منها للمقام، ولذلك اختلف المفسرون في معنى الاستواء في هذه الآية، لأنّ تعيين معنى الاستواء في بعض الآيات يحتاج إلى علم الكلام، ولأنه عندما يُسند إلى الله تعالى يحتاج في تعيين معناه إلى الانتباه الكثير والاجتهاد العميق، لئلا يقع التعارض في العقائد، ولذلك لا نرجّح بين الأقوال، وعلى كل حال نستنتج من أقوال اللغويين والمفسرين المذكورة أن الاستواء مشتق من سوي، ووزنه افتعال من باب افتعل، يفتعل.

8-  كلمة [حطة] في قوله تعالى: ﴿وَقولوا حِطَّةٌ...([66]).

قال البيضاوي: «حطة أي مسألتنا أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، أو على أنه مفعول «قولوا» أي قولوا هذه الكلمة، وقيل معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها»([67]).

قال ابن فارس: «(حط) الحاء والطاء أصلٌ واحد، وهو إنزال الشيء من عُلوّ، يقال حطَطْت الشيءَ أحُطّه حَطًّا، وقوله تعالى: ﴿حِطَّةٌ...([68])، قالوا: تفسيرها اللهم حُطّ عنا أوزارَنا »([69]).

قال الجوهري: «[حطط] حط الرحل والسرج والقوس، وحط، أي نزل، والمحط: المنزل، وانحط السعر وغيره، وتقول: استحطني فلان من الثمن شيئا، والحطيطة كذا وكذا من الثمن، وقوله تعالى: ﴿حطة...([70]) أي حط عنا أوزارنا، ويقال: هي كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم، وحطه، أي حدره، والحطوط الحدور، والحطوط: النجيبة السريعة، وجارية محطوطة المتنين، أي ممدودة مستوية»([71]).

قال الطبرسي: «وحطة مصدر مثل ردة وجدة من رددت وجددت قال الخليل الحط وضع الأحمال عن الدواب والحط والوضع والخفض نظائر والحط الحدر من العلو»([72]).

التحليل: قول البيضاوي: حطة أي مسألتنا أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة، لم يقله أحد من المفسرين واللغويين، وأما قوله: وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة... الخ، فذكره ابن فارس والجوهري قبله، وهذا يدل على أن البيضاوي أخذ هذا القول منهما أو اتّبع سبيلهما.

النتيجة: يلخّص من الاقوال المذكورة ان «حطة» مصدر من حطط ووزنها فِعلة بالكسر كجلسة ومعناها النزول من علوٍ والحط والحدر، وقُرئت فَعلة ايضا بالنصب ومعناها حُطّ عنا أوزارَنا، واتفق اللغوييون والمفسرون ان تفسيرها في هذه الآية، اللهم حُطّ عنا أوزارَنا، كما رأيته في الاقوال المذكورة.

9-  بحث كلمة [ادّارأتم] في قوله تعالى: ﴿وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها﴾([73]).

قال البيضاوي: «اختصمتم في شأنها إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل»([74]).

قال الزمخشري: «﴿... فادرأتم فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضًا، أي يدفعه ويزحمه، أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح، أو لأنّ الطرح في نفسه دفع، أو دفع بعضكم بعضًا عن البراءة واتهمه»([75]).

قال الطبرسي: «ادارأتم اختلفتم وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال بعد أن سكنت ثم جعلوا قبلها همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن وأصل الدرء الدفع ومنه الحديث ادرءوا الحدود بالشبهات ومنه قوله ويدرأ عنها العذاب»([76]).

قال ابن الحاجب: «الإدغام أن تأتي بحرفين ساكن فمتحرك من مخرج واحد من غير فصل ويكون في المثلين والمتقاربين، فالمثلان واجب عند سكون الأول في الهمزتين إلا في نحو سأل والدأث وإلا في الألفين لتعذره وإلا في نحو قووِل للإلباس وفي نحو تووِي ورييا - على المختار- إذا خففت وفي نحو قالوا وما، وفي يوم، وعند تحركهما في كلمة... ومتي قصد إدغام أحد المتقاربين فلا بد من القلب، والقياس قلب الاول الا لعارض»([77]).

قال ابن الحاجب أيضا: «وقد تدغم تاء نحو تتنزل وتتنابزوا وصلا وليس قبلها ساكن صحيح، وتاء تفعّل وتفاعل فيما تدغم فيه التاء فتجلب همزة الوصل ابتداء نحو اطّيّروا وازّيّنوا واثّاقلوا وادّارؤوا»([78]).

التحليل: بيّن البيضاوي في قوله مسألتين، وهما: معنى الكلمة (التدارؤ) والإدغام فيها، أما معنى الكلمة فذكره الزمخشري مثل قول البيضاوي وذكرالطبرسي قريبا من قوله قبله، وأما الادغام فيها فبحثنا حوله كُتُب الصرف ونقلنا قول ابن الحاجب فيه، فظهر أن قول البيضاوي في الإدغام مطابق لقواعد الإدغام التي بيّنها ابن الحاجب، على هذا الأساس عُلِم أن قول البيضاوي في هذه الآية مقبول من المفسرين والصرفيين.

ونذكر هنا أن «ادّارأتم» أصله تدارأتم من تدارأ، يتدارأ، من باب تفاعل، يتفاعل، فأدغِم المتقاربان ( تاء تفاعل دالا) بعد القلب وجُلِب همزة الوصل للابتداء بها كما ذكره البيضاوي، فكان: ادّارأ، يدّارأ، وذكِر له معان مختلفة كمعنى اختصم وتدافع واختلف كما مر في الأقوال المذكورة.

خاتمة:

نخلص في نهاية هذه المقالة إلى أن أكثر أقوال البيضاوي في بيان معاني الكلمات، كذلك نرى أن البيضاوي لم يتوقف بالشرح في تفسيره عند كل الكلمات وإنما عند الكلمات التي رأى أنها صعبة، كذلك استفاد البيضاوي في تفسيره من تفسير الكشاف للزمخشري فأخذ بعض ما يتعلّق باللغة والصرف منه كما أخذ منه ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، إضافة الي ذلك اتّبع البيضاوي في أسلوب البيان والتفسير الزمخشري وبيّن الآراء اللغوية والصرفية والإعرابية والبلاغية في ثنايا التفسير ومعها  الآراء الكلامية كما فعل الزمخشري، ولم يفصل بين بحوث اللغة والإعراب والبلاغة والكلام والتفسير، كما فصّلها بعض المفسرين في تفاسيرهم كالطوسي والطبرسي والصابوني، وقد خلصنا كذلك إلى أن البيضاوي ليس كوفي المذهب في النحو كما ، بل يختار المذهب والقول النحوي الذي يقتنع به من دون تقيّد بمذهب واحد.


المصادر والمراجع

ابن دريد، الاشتقاق، دار الجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1991م.

ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، سنة الطبعة: 2008 م.

ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة: 2007 م.

الاسترآباذي النحوي، الرضي، شرح شافية ابن الحاجب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1975 م.

الاسترآباذي النحوي، الرضي، شرح الرضي على الكافية، مؤسسة إمام صادق، طهران، 1978 م.

الأزهري، أبو منصور، معجم تهذيب اللغة، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى2001 م.

الأصفهاني، الراغب، مفردات الفاظ القرآن، إيران، انتشارات المرتضوي، الطبعة الثانية.

الأندلسي، محمد ابن يوسف، أبو حيان، تفسير البحر المحيط، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001 م.

البيضاوي، عبد الله بن عمر، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1998 م.

الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة، الطبعة الأولى، 1956م.

الحديثي، خديجة، أبنية الصرف في كتاب سيبويه، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى: 2003 م.

الحلبي، أحمد بن يوسف السمين، الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى: 1986 م.

الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، مختار الصحاح، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1995 م.

الزمخشري، تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية: 2001 م.

الزمخشري، المفصّل في صنعة الإعراب، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، 2003 م.

الضناوي، سعدي، شرح ديوان طرفة بن العبد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة الطبعة: 1428 هـ.

الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القران، ناصر خسرو، الطبعة الخامسة: 1418 هـ.

الفراهيدي، الخليل بن احمد، كتاب العين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1408 هـ 1988 م.

الكِندي، امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان،2007 م.

مصطفى السيد، عبد الحميد، المغني في علم الصرف، دار صفاء، عمان، الأردن، الطبعة الأولى: 1998م.

مصطفى، إبراهيم، وغيره، المعجم الوسيط، مكتبة المرتضوي، الطبعة الثانية: 1427 هـ.

النيسابوري، أبو محمد نظام الدين، الحسن بن محمد بن الحسين، شرح النظام على الشافية، ومعه تبيين المرام، مؤسسة دار الحجة للثقافة، الطبعة الأولى: 1428هـ.

الهاشمي، السيد محمود، بحوث في علم الأصول، تقريرات الشهيد محمد باقر الصدر، مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي، الطبعة الثالثة: 1996 م.


 



([1]) سورة البقرة، الآية 2.

([2]) سورة الفتح، الآية 26.

([3]) سورة الأعراف، الآية 96.

([4]) سورة آل عمران، الآية 102.

([5]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 36.

([6]) النيسابوري، شرح النظام على الشافية، ص 633 654.

([7]) الزمخشري، تفسير الكشاف: جص 77 و78.

([8]) ابن منظور، لسان العرب: مادة (و ق ي).

([9]) الرازي، مختار الصحاح: (و ق ي).

([10]) سورة البقرة، الآية 3.

([11]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج/1، ص/ 37.

([12]) الزمخشري، تفسير الكشاف: ج\ 1، ص 80.

([13]) سورة يوسف، الآية 17.

([14]) سورة الزخرف، الآية 69.

([15]) الطبرسي، تفسير مجمع البيان: ج 1. ص 119 و120.

([16]) سورة آل عمران، الآية 154.

([17]) سورة يوسف، الآية 11.

([18]) الرازي، مختار الصحاح، مادة (أ م ن).

([19]) سورة البقرة، الآية 3.

([20]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 38.

([21]) سورة يس، الآية 64.

(5) الراغب الأصفهاني، معجم مفردات الفاظ القرأن، مادة (ص ل و).

([23]) الزمخشري، تفسير الكشاف: جص 82.

([24]) البيت لقيس ابن زهير، وهو في اللسان (د و م).

([25]) السمين الحلبي، تفسير الدر المصون، ج11، ص 94.

([26]) سورة الأنفال، الآية: 35.

([27]) الهاشمي، بحوث في علم الاصول، جص 183 و184.

([28]) سورة البقرة، الآية 9.

([29]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 44.

([30]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (خ د ع).

([31]) الطبرسي، تفسير مجمع البيان، جص 133.

([32]) النيسابوري، شرح النظام على الشافية. ص 142 و146.

([33]) سورة النساء، الآية 142.

([34]) ابن منظور، لسان العرب: مادة (خ د ع).

([35]) سورة النساء، الآية14.

([36]) سورة البقرة، الآية 14.

([37]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 47.

([38]) الخليل الفراهيدي، كتاب العين: مادة (ش ط ن).

([39]) الزمخشري، تفسير الكشاف، جص 103.

([40]) سورة الصافات، الآية 65.

([41]) محمد الرازي، مختار الصحاح: مادة (ش ط ن).

([42])  سورة البقرة، الآية 20.

([43])  البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 52.

([44])  سورة البقرة، الآية 20.

([45])  سورة الصافات، الآية 10.

([46])  ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (خ ط ف).

([47])  سورة العنكبوت، الآية 67.

([48])  الزمخشري، الكشاف، جص 118.

([49]) سورة الصافات، الآية 10.

([50]) ابراهيم مصطفي وغيره، المعجم الوسيط: مادة خطف.

([51]) سورة البقرة، الآية \ 29.

([52]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج/1، ص/ 66.

([53]) سورة التوبة، الآية 19.

([54]) سورة النجم، الآية 6.

([55]) سورة طه، الآية 5.

([56]) سورة البقرة، الآية 29.

([57]) سورة فصلت، الآية 11.

([58]) سورة الانفطار، الآية 7.

([59]) سورة شمس، الآية 7.

([60]) الراغب الأصفهاني، معجم مفردات الفاظ القرآن: مادة (س و ي).

([61]) سورة البقرة، الآية 29.

([62]) الزمخشري، تفسير الكشاف: جص 152.

([63]) سورة البقرة، الآية 29.

([64]) الطبرسي، تفسير مجمع البيان: ج ص 172 و173.

([65]) محمد الرازي، مختار الصحاح: مادة (س و ي).

([66]) سورة البقرة، الآية 58.

([67]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 82.

([68]) سورة البقرة، الآية58، وسورة الأعراف، الآية 161،

([69])- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: مادة (ح ط ط).

([70]) سورة البقرة، الآية 58، الأعراف، الآية 161،

([71]) الجوهري، الصحاح: مادة (ح ط ط).

([72]) الطبرسي، تفسير مجمع البيان، جص 245.

([73]) سورة البقرة، الآية 72.

([74]) البيضاوي، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، جص 88.

([75]) الزمخشري، تفسير الكشاف: جص 180 و181.

([76]) الطبرسي، تفسير مجمع البيان: جص 276.

([77]) الاستراباذي النحوي، شرح شافية ابن الحاجب، ج ص 233 و234 و264.

([78]) الاستراباذي النحوي، شرح شافية ابن الحاجب، ج ص 290.