بنية الشخصية الدرامية في شعر محمود درويش

 

د. رمضان عمر

جامعة حران، تركيا

البريد الإلكتروني: ramadanomer48@gmail.com

معرف (أوركيد): 0000-0002-0227-6006

 

بحث أصيل

الاستلام: 20-2-2024

القبول: 1-4-2024

النشر: 30-4-24

 

 

الملخص:

عنيت الدراسات النقدية الحديثة عناية واضحة بالفن الدرامي، ووسعت من مفهوم الدراما لتصبح الأجناس الأدبية حقلاً لتجاربها، وقد لجأ الشعراء المحدثون إلى رسم أنموذج جديد للقصيدة الحديثة، موظفين البنية الدرامية في بنائها، مستفيدين - في ذلك - من الواقع اليومي، ومن هنا، فإن تناول القصيدة الحديثة يقود إلى تناول تلك المدخلات مجتمعة أو متفرقة، بعد أن ضعفت الحدود الفاصلة بين لون أدبي وآخر، ودخلت الأنواع الأدبية كلها ضمن مفهوم النص أو الخطاب. الهدف: جاءت هذه الدراسة لتعيد قراءة النص الدرويشي وفق هذه التحولات الفنية التي نقلت جوهر التجربة من واقعها الغنائي إلى واقع أكثر ديمقراطية. نطاق الدراسة: وقد اخترنا من هذه البنية ما يدور حول الشخصية؛ إذ أصبحت الشخصية جزءًا من القصيدة. هذا التحول في بنية القصيدة جعل المسافة بين الشعر والنثر والرواية قصيرة جدًا. منهجية البحث: وقد اعتمد الباحث في قراءته النقدية في هذه الدراسة المنهج التحليلي في دراسة الشخصية، أو قراءة تشريحية لبنية الشخصية في القصيدة الدرويشية.

الكلمات المفتاحية:

اللغة العربية وآدابها، محمود درويش، بنية الشخصيات، النقد الأدبي، الشعر الفلسطيني.

 


للاستشهاد/ :Atif İçin / For Citation عمر، رمضان. (2024). بنية الشخصية الدرامية في شعر محمود درويش. مج5، ع9، 119- 152 https://www.daadjournal.com/ /

     * هذا البحث جزء من رسالة دكتوراه بعنوان: "البنية الدرامية في شعر محمود درويش" نوقشت في جامعة العلوم الإسلامية العالمية، سنة 2011م.

 

The structure of the dramatic character in

Mahmoud Darwish's poetry

Ramadan Shaikhomer

Assistant Professor, Harran University, Turkey

E-mail:  ramadanomer48@gmail.com

 Orcid ID: 0000-0002-0227-6006

 

 

Published: 30.04.2024

Accepted: 01.04.2024

Received: 20.02.2024

Research Article

 

 

Abstract:

Modern critical studies have clearly paid attention to dramatic art, and have expanded the concept of drama so that literary genres become a field for their experiments. Modern poets have resorted to drawing a new model for the modern poem, employing the dramatic structure in its construction, benefiting - in that - from daily reality. Hence, addressing the modern poem leads to addressing these inputs together or separately, after the dividing lines between one literary genre and another have weakened, and all literary genres have entered within the concept of text or discourse. Objective: This study came to re-read the Darwish text according to these artistic transformations that transferred the essence of the experience from its lyrical reality to a more democratic reality. Scope of the study We have chosen from this structure what revolves around the character; as the character has become part of the poem. This transformation in the structure of the poem made the distance between poetry, prose and the novel very short. Research methodology: The researcher relied in his critical reading in this study on the analytical method in studying the character, or an anatomical reading of the character structure in the Darwish poem.

Keywords:

 Arabic language and literature, Mahmoud Darwish, The structure of the characters, literary criticism, Palestinian poetry.


 

تقديم:

تحتل الشخصية Character أهمية خاصة في الدراسات النقدية منذ أرسطو إلى العصر الحديث بوصفها عنصرا مركزيا في العمل القصصي والمسرحي، والحديث عن الشخصية لم يعد حكرا على النقد الأدبي بعد أن أصبح علم الشخصية حقلا قائما بذاته وإن تشابكت معه حقول أخرى كالاجتماع، والأدب، والسياسة، والتربية، وعلم النفس وما سوى ذلك.

وكان دخول مصطلح الشخصية للدراسات النقدية من بوابة علم النفس؛ حينما ظهرت دراسات تحاول تفسير الأدب تفسيرا نفسيا. وهناك من يرى أن الاهتمام بالشخصية ظهر في فترة قديمة تعود إلى أرسطو Aristotle، وقد اشترط أرسطو جملة من الشروط في الشخصية الدرامية؛ أولها وأعظمها أهمية أن تكون صالحة دراميا بطبيعتها أو مؤثرة، ثم الملاءمة؛ فهناك مثلا نوع من الشجاعة الرجولية أو المهارة في الكلام لا يليق إسناده إلى المرأة، والأمر الثالث مشابهة الواقع، وهذا الأمر مختلف عما قلناه هنا بشأن مسألتي الصلاحية والملاءمة، أما الأمر الرابع فهو ثبات الشخصية، أو تساوقها مع ذاتها طوال المسرحية، وحتى لو كانت الشخصية موضوع المحاكاة غير متساوقة مع نفسها، وكان ذلك صفة من صفات المسرحية ([1]).

وأما توظيف الشاعر للشخصية الدرامية فذلك أمر من شأنه أن ينقل النص من ذاتية الشعر إلى موضوعيته، ومن غنائية الإيقاع إلى سردية الحدث، ومن الصوت الواحد إلى تعدد الأصوات، وهنا تتحقق الدرامية من خلال حضور أكثر من شخصية في القصيدة الواحدة، وعندما يقدم الشاعر الشخصية للمتلقي، فإنه يصورها له إما تصويرا مباشرا، أو غير مباشر، وقد تكون شخصيات القصيدة حقيقية؛ كأن يصف أو يمدح أو يهجو. وإما أن تكون غير ذلك رمزية، أو أسطورية، أو تاريخية؛ وهنا سيستخدم الشاعر تقنيات عدة يتناول من خلالها الشخصية؛ كالقناع، والأسطورة، والرمز والتناص.

 والشخصية في العمل الأدبي لا تقتصر على الذات؛ فقد اعتبرها (جينيت Genette) أثرا من آثار الخطاب، ولكنها لا تنتمي إليه، بل إلى الحكاية.

وسيقوم الباحث في هذه الدراسة بتناول أنماط الشخصية في تجربة درويش الشعر، وتحليلها تحليلا نقديا عبر الشواهد الشعرية المختلفة.

موضوع البحث وحدوده:

تتناول هذه الدراسة التجربة الشعرية الدرويشية من خلال البنية الدرامية للشخصية.

أهداف البحث:

وتسعى هذه الدراسة لتناول جانب من جوانب تحول البنية الشعرية عند محمود درويش من الغنائية إلى الدرامية؛ وذلك عبر تناول بنية الشخصية الدرامية في شعره.

 أهمية البحث:

تتجلى أهمية البحث في كونه رافدا من روافد دعم المكتبة الأدبية الفلسطينية من خلال مدخل جديد من مداخل النقد الأدبي الحديث، الذي مثل أهم التحولات الفنية في القصيدة المعاصرة.

منهجية البحث وهيكله:

اعتمدت الدراسة منهجا تكامليا يخلط بين التقصي التاريخي، والتحليل الأدبي، وأحيانا نميل الى سياق النص، وأخرى نسلخ النص من سياقه ونركز على دلالته اللغوية، وسيتناول الباحث في هذه الدراسة أنماط الشخصية في شعر محمود درويش، ويحصرها في خمسة أنماط: العامة، والتاريخية، والاسطورية، وشخصيات القناع، والشخصيات الدينية.

1       الشخصيات العامة:

كانت البنية التكوينية لقصائد درويش الأولى تطال الجمعي، وتنأى عن الفردي التجريدي، وتعالج الكل دون الانتباه إلى الجزئي الذاتي، في محاولة لحمل رسالة الأدب من خلال مبدأ الالتزام الذي رضي به درويش كونه يساريا من نحو، وشاعر مقاومة من نحو آخر.

ولكن حضور الشخصية في قصائده كان واضحا من خلال مواكبته للعمل الثوري، وتناوله لمقاومين مثلوا للوعي الجمعي نماذج بطولية رسخت مفهوم الهوية، ورسمت معالم الثورة بدمائها المنسكبة على ثرى الأرض أو صمودها الأسطوري تحت سياط الجلادين بل إن علاقة درويش مع المقاومة تشكلت من خلال ارتباطه بالثورة؛ حيث كان عضوا في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، أو علاقته بالأرض وهي علاقة كانت تتشكل من خلال إستراتيجية الحنين الثابتة في وعيه كفلسطيني مشرد، وقد جعلت هذه الإستراتيجية درويشا يسعى لأنسنة الأرض، وربطها بعالمي الحب والقداسة.

وإذا كان الوطن هو الركيزة الأولى التي تشكل منها النص الدرويشي؛ فإن المواطن هو الظل الموازي لمفردة الوطن؛ لتتجلى الوطنية بكل أبعادها في مواجهة الاحتلال بكل تمظهراته؛ ومن هنا كان سؤال الهوية الوطنية هو الموجه الأساس لبناء الشخصية في نصوص درويش الأولى.

ولعل سقف الهويات الوطنية قد بدأ في نصوص درويش من المظلة الأوسع العربية وقد بدا ذلك واضحا في قصيدته بطاقة هوية هذه الشخصية التي تحمل صفات قومية، ولا تحمل اسما شخصيا تعرف به تتفق معالمها مع الرؤية الفكرية المؤدلجة التي انطلق منها درويش كيساري وإن اختلطت بفكرة القومية العربية لتكتمل معالمها كشخصية ثائر مقاوم.

فدرويش في بطاقة هوية-مثلا- لم يشأ أن يمس داخل الشخصية إلا فيما يخدم سؤال الهوية الكبير؛ ولذا جاء على عموميات تخدم غايته فقدم لقارئه بطاقة هوية ذات مغزى قومي.

" سجل أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون ألف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعهم سيأتي بعد صيف([2])!

وإذا كان الراوي- هنا- هو الشاعر نفسه في هذا البناء السردي؛ فذاك لأن درويش يعتمد الصوت الواحد في مواجهة الآخر، وكأن الأنا- هنا- ستنوب عن الجمع؛ فدرويش عربي وكل عربي مكافح، لكن شخصية درويش- هنا- وان كانت عامة إلا أنها تتخذ طابعا خاصا من خلال الخلفية الفكرية التي تقدم من خلالها وهي خلفية اليسار أو الخلفية الاشتراكية.

"وأعمل مع رفاق الكدح في محجر/ وأطفالي ثمانية/ أسل لهم رغيف الخبز/ والأثواب والدفتر/ من الصخر([3]).

ومع أن "بطاقة هوية" التي شاعت بعنوان مأخوذ من سطرها الشعري الأول "سجل أنا عربي" احتلت الوجدان العربي فترة طويلة من الزمن، وصارت أشبه بنشيد جماعي عرف العالم العربي من خلاله درويشا شاعرا للمقاومة، إلا أن قصيدة" عاشق من فلسطين" تعد الأكثر تعبيرا عن أسئلة الهوية الوطنية لأنها في إصرارها على استعادة الاسم الفلسطيني قامت بصوغه انطلاقا من العلاقة الثلاثية بين الأرض، والتاريخ، واللغة"([4]).

فقصيدة" عاشق من فلسطين" جاءت لتضيق نطاق الشخصية، أو نطاق الهوية، وتبحث عن الوطني بدلا من القومي، وهذا واضح من خلال العنوان "عاشق من فلسطين" وإذا كان سؤال الهوية قد تحقق من خلال معالم السمات الذكورية المستقلة في قصيدة "بطاقة هوية"، فإن هذه الملامح ستتحدد من خلال العلاقة مع الآخر المحبوب وهو الأرض، وهذا ما تحمله لفظة" عاشق" من دلالات رمزية وسمات رومانسية في الاسم هو أرض الصراع بشأن الهوية، والمرأة هي الأرض /الوطن لا تستعاد إلا إذا استطاع الشاعر أن يسترجع الاسم الذي يريد الاحتلال محوه، والاسم الفلسطيني المستعاد هو عنوان معركة الوجود الفلسطيني الذي أخفي تحت ركام النكبة ومآسيها"([5]).

وقد يبدو للوهلة الأولى أن العنوان" عاشق من فلسطين" سيحدد معالم النص بوصفه قصة لشخصية فلسطينية ذكورية، لكن النص سينفتح على الأخرى( المعشوقة) التي حاول تشكيل هويتها من خلال قيم رمزية تربطها بسؤال الهوية في ذاكرة درويش، وكأن درويشا الذي حاول أن يصنع هوية" الأنا الإنسان" أو" الأنا العربي" في" بطاقة هوية" عاد ليربط هذه الذات بمكونها الجغرافي" فلسطين" وقد استعار لفلسطين" المرأة المعشوقة " التي تشكل مع" أنا الذكورية " ثنائية التكامل، ومن هنا؛ فإن " الهوية"- في القاموس الدرويشي- لا تزال تحمل السمات الفكرية، والانتماء الطبقي للهوية مثلما عبرت عنهما قصيدة" بطاقة هوية"، لكنها تحمل جديدين: الأول، يتمثل في إخراج الاسم الفلسطيني من الركام، وبنائه في صورة أنثوية ؛ أما الثاني، فهو الإشارة التاريخية إلى خيول الروم والصليبيين"([6] وهذا الجديد في طبيعة الشخصية منحها بعدا تاريخيا جديدا كونها بؤرة لصراع تاريخي ممتد.

أما قصيدة،" أحمد الزعتر" فقد انتقل فيها الخطاب الشعري نقلة نوعية، متجها نحو الدرامية التي تسمح بتمثيل الواقع وتجسيده من زوايا مختلفة وإبراز مجموع الصراعات التي يعيشها الفلسطيني،" وتحويل سؤال الهوية من الإقليمي المحلي إلى العالمي الكوني، وإن تداخلت الهويات القومية تداخلا يعيد تشكيل احمد الزعتر الفلسطيني تشكيلا كونيا؛ ولذا ستدخل هذه الشخصية إطار الأسطرة والرمزية لتنسجم مع واقعها الكوني الجديد.

إن أحمد في سؤاله ورحيله الدائم يبحث عن توازنه المفقود في انتمائه العربي المحيط / الخليج، ويحاول رسم معالم كيانه القومي والحضاري من خلال التقائه بضلوعه، وتلاحم أعضاء الجسد الواحد الذي يستعمل علامة دالة على المكان على الأرض، الجذور، والتاريخ، والمصير.

وعند البدء في تحليل هذا الخطاب الشعري؛ فإن أول مؤشر دلالي يواجهه النص يتمثل في طبيعة البناء التشكيلي للعنوان القائم على ثنائية الإنسان والنبات؛ أحمد و الزعتر فهذا تركيب مرتبط بقيمتين إحداهما رمزية مكانية ذات خصوصية فلسطينية، وثانيهما رمزية دينية من خلال الاسم أحمد وهنا ينشأ سؤال الهوية مرة أخرى من خلال هذا التركيب الدلالي؛ فأحمد وإن يكن فردا الفلسطيني المشرد فهو المكان، الطبيعة، والنبات، وهو التاريخ القريب، الحصار، والتاريخ البعيد، الموصول بالتراث"

لكن أحمد المنسي بين فراشتين هو أسطورة درويشية بامتياز، مثقل بقيم رمزية عملت في تشكيلها يد شاعرة؛ حيث خطت ريشة الفنان أولى لمسات الشخصية الأسطورية محلقة في عالم تخيلي طريف:

ليدين من حجر وزعتر/ هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين/ مضت الغيوم وشردتني/  ورمت معاطفها الجبال وخبأتني"([7]).

هنا امتزج الجمادي مع النباتي لتكوين أحمد ثنائي التركيب؛ أحمد الزعتر، لكن أحمد ذا الطبيعة الاصطناعية واحد من البشر منسي بين فراشتين:

" نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل/ البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن/ الرماد وكنت وحدي/ ثم وحدي"([8])

والوحدة هنا إشارة واضحة إلى التخلي العربي عن نصرة أحمد العربي، ومن هنا بقي أحمد يعيش غربة الضياع يسأل عن نقيضه في تراكمات المحنة:

" في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه/ عشرين عاما كان يسأل/ عشرين عاما كان يرحل/ عشرين عاما لم تلده أمه إلا دقائق في/ إناء الموز/ وانسحبت([9]).

هذه الشخصية المنسية المنكوبة الوحيدة تحاول استعادة ذاتها من خلال الصوت الثوري الذي يطلقه الشاعر مستعينا بقيم رمزية ثورية تدل على النقيضين الثورة والاضطهاد:

" وهو الرصاص البرتقالي البنفسجة الرصاصية/ وهو اندلاع ظهيرة حاسم/ في يوم حرية/ يا أيها الولد المكرس للندى/ قاوم/ يا أيها البلد المسدس في دمي/ قاوم" ([10]).

وإذا كانت هذه النماذج قد مثلت الأنا الجمعية في مشروع درويش الشعري من خلال سؤال الهوية، فإن أنموذج الآخر يتجلى في صورة العدو ليكتمل الخطاب المنشود في جدلية العلاقة بين الأنا والأخر، مع أن نماذج الشخصية عند درويش تتعدد لتطال غير شخصية، وغير نموذج؛ ففي قصيدته" جندي يحلم بالزنابق البيضاء" لعب الفن الناعم دوره في قلب المشاعر المتكرسة عبر عقود حول حقيقة الجندي الصهيوني المتمثلة بالبطش، والعربدة، والقسوة، والهمجية، وهنا يقدم درويش صورة مغايرة لما اعتاد تقديمه في قصائده، وتتجلى معالم هذه الشخصية كأنبل ما يمكن أن تنتجه البشرية من أخلاقيات الجنود وهنا تتجلى المفارقة وتثار الأسئلة حول حقيقة الانتماء الدرويشي للنص المقاوم.

ومع هذا فليس من غريب القول أن نماذج درويش في بناء الشخصية لم تكن سياسة كلها، بل إن حضور الشخصية في شعر درويش طال حركة الإنسان وطبيعته في أفلاك جديدة.

 ولعل تناول بعض النماذج الدرويشية التي طالت بعض الشعراء والمفكرين ستفتح نافذة أخرى على عالم الشخصية عنده، وإن كان هذا الجانب لصيقا بالحدث السياسي في جزء من جزئياته؛ لأن المفردة الكونية في شعر درويش تستحضر علاقات متعددة؛ ليس السياسي خارجا عنها، ومن هذه النماذج رثاؤه لصديقه الشاعر راشد حسين ورثاؤه أيضا لصديقه المفكر ادوارد سعيد.

 ففي قصيدة" كان ما سوف يكون" التي رثى فيها درويش زميله الشاعر راشد حسين تتشكل جماليات الخطاب الشعري من خلال تعانق السرد من الوصف في رسم معالم الشخصية؛ حيث ينفتح الخطاب على شكل بناء سردي لقصة قصيرة:

 في الشارع الخامس حياني بكى مال على السور/ الزجاجي ولا صفصاف في نيويورك/ أبكاني أعاد الماء للنهر شربنا قهوة ثم افترقنا في/ الثواني" ([11]).

2       الشخصيات الأسطورية

تعود أهمية الأسطورة إلى قدرتها على تحرير النص من أسئلة التلقي المحدودة، والتحليق بها إلى عالم تخيلي قادر على مد مساحة التلقي إلى أفق غير محدد؛ مما يعفي صاحب النص من المحاكمة المباشرة، إضافة إلى الجانب الجمالي الخلاق الذي تضفيه الأسطورة على النص المنتج؛ فيمتزج الواقعي بالتخيلي ليلد الجمالي البديع، وتلك غاية من غايات الأدب الرفيع.

 أما استدعاء هذه الرموز الأسطورية؛ فإنه يكشف عن قيمة الوظيفة الدلالية والجمالية التي يحققها الرمز في سياق النص الشعري، سواء أجاء هذا الاستدعاء في جزء من القصيدة أم استغرقها كلها.

والأسطورة في الفهم الكلاسيكي مجموعة خرافات، وأقاصيص، وهي اشتقاق من سطر الأحاديث، وموضوعها- إضافة للآلهة- يتناول الأبطال الغابرين وفق لغة، وتصورات، وتخيلات، وتأملات، وأحكام تناسب العصر والمكان الذي صيغت فيه، وشكل الأنظمة والمستوى المعرفي، وهي- في الوقت ذاته- تشكل ثقافة عصرها بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها، ومجتمعها، بحيث يمكن دراستها استقراء التاريخ الأصدق لزمانها ومكانها.

أما علاقة الشعر بالأسطورة فهي علاقة تداخل واندماج؛ فكلاهما ينبع من تلك الخبرة الجمعية العميقة الغامضة الآتية من أولى الأفكار، والتصورات التي راودت ذهن الإنسان البدائي، والتي أنتجت النماذج الأصلية الأولى في تاريخ البشر، وثمة علاقة أخرى تربط بين الأسطورة، والدين؛ ذلك أن كليهما ينتج عن تصور عقدي، وتخيل غيبي، بل إن الأسطورة- كما يرى ايريك فروم- تشرح بلغة رمزية حشدا من الأفكار الدينية والفلسفية والأخلاقية، وما علينا إلا أن نفهم مفرداته لينفتح لنا عالم مليء بالمعارف الثرية"([12]).

وتناول الشخصيات الأسطورية لدى درويش يتم بطرق متعددة؛ منها: أن يتم استدعاء الشخصية وتدار حولها القصيدة، أو أن تكون الشخصية قناعا يتقنع به الشاعر، يتوصل من خلالها لبث أفكاره، وأحيانا يتم استدعاء جانب من جوانب الشخصية ليوظفها في نصه خدمة لفكرة جزئية، أو عامة؛ ففي نص له يستدعي درويشلإ إله الخصب أدونيس في الأسطورة الكنعانية القديمة، بيد أن الخطاب في هذه القصيدة سيتجه من الراوي إلى الشخصية ذاتها، أو من درويش إلى قناعه بدلا من الحديث الذاتي للشخصية:

نزف الحبيب شقائق النعمان/ فاصفرت صخور السفح من وجع المخاض الصعب واحمرت/ وسال الماء أحمر/ في عروق ربيعنا/ أولى أغانينا دم الحب الذي/ سفكته آلهة/ وآخرها دم سفكته آلهة الحديد"([13]).

وقد تجلت هذه التناصات الأسطورية بشكل ملفت للنظر في الجدارية، ووظفت توظيفا مركزا خدمة لفكرة البحث عن الخلود والتتويج الإبداعي في مسيرة الشاعر الطويلة من نحو والكشف عن أعماق العلاقة الجدلية بين الذات ونقيضها في صراع النفس مع الموت ومن هنا؛ فإن توظيف الأساطير القديمة في الجدارية يعبر عن وعي ثقافي لدي درويش؛ ذلك أن كافة الأساطير التي سيتم استحضارها نمت وترعرعت في سياق صراع الإنسان مع الموت فأسطورة ادونيس أو تموز أو جلجامس أو انكيدو كلها ذات علاقة  بقضية البعث، أو الموت ولكنها في الجدارية ستندغم مع النسق التعبيري، وتشكل وحدة بناء متكاملة تتحول في بعض الأحيان إلى حكمة كونية خالدة:"

 لم يبلغ الحكماء غربتهم/ كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم/ ولم نعرف من الأزهار غير شقائق النعمان "([14])

فشقائق النعمان تشير إلى دم أدونيس المتخثر عندما جرحه الخنزير البري، كما ورد في حكاية الشاعر الرماني (أوفيد

أما طائر الفينيق فيأتي حضوره منسجما مع فكرة الانبعاث من العدم؛ حيث يقول:
"
سأصير يوما طائرا/ وأسل من عدمي/ وجودي كلما احترق الجناحان/ اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من الرمــاد"([15]).

أما التألق الأسطوري في الجدارية فيأتي من خلال استحضار أسطورة الملك السومري جلجامش الذي حكم في حدود 2650ق / م وكان بطلا عظيما، وصاحب إنجازات عظيمة، ولا يخفى على القارئ ما تحمله هذه الأسطورة من دلالات تخدم النص الدرويشي في فكرة البحث عن الخلود؛ فملحمة جلجامش عالجت قضايا إنسانية عامة مثل مشكلة الحياة والموت وما بعد الموت والخلود، ومثلت تمثيلا بارعا مؤثرا ذلك الصراع الأزلي بين الموت والفناء المقدرين، وبين إرادة الإنسان المغلوبة المقهورة في محاولتها التشبث بالوجود، والبقاء، والسعي وراء وسيلة الخلود؛ أي أنها تمثل التراجيديا الإنسانية العامة المتكررة.

 ولا بد هنا من الإشارة إلى القيمة الإبداعية في استحضار الشخصيتين معا شخصية انكيدو و جلجامش"؛ فإذا كان جلجامش قد أخفق في تحقيق آماله في الخلود بسبب استئثار الآلهة به إلا أنه استطاع أن يخلد بآثاره فيبقى ذكره ما بقي الدهر، وهذا ما تريد أن تقوله الجدارية بل هذا ما يريد أن يقوله درويش الباحث عن تتويج خالد لمآثره الإبداعية:

كم من الوقت/ انقضى منذ اكتشفنا التوأمين الوقت/ والموت الطبيعي المرادف للحياة؟/ ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا،/ فنحن القادرين على التذكر قادرون/ على التحرر سائرون على خطى/ جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن/"([16]).

3       الشخصيات التاريخية

إذا كانت الأسطورة قد حررت الشعر من طاقته المحدودة، وحلقت به في عالم تخيلي بعيد الدلالة؛ فإن الارتداد إلى الماضي البعيد- بوعي من الأديب- يعيد ترتيب الحلقات الإبداعية وفق فلسفة تنأى عن الواقعي المضطرب، وتؤسس لعلاقة تشابكية مع الماضي أكثرض رسوخا ووثوقية؛ ذلك أن استدعاء الشخصيات الأدبية في النصوص الحديثة« يجعل النص ذا قيمة توثيقية يكتسب بحضورها دليلا محكما وبرهانا مفحما على كبرياء الأمة التليد، وحاضرها المجيد، أو حالات انكسارها الحضاري، ومدى انعكاسه على الواقع المعاصر، أو بمعنى آخر يستلهم الشاعر أوجه التشابه بين أحداث الماضي ووقائع العصر وظروفه إن سلبا أو إيجابا، وهو في هذا كله يطلق العنان لخياله لكي يكشف عن صدى صوت الجماعة، وصدى نفسه في إطار الحقيقة التاريخية العامة التي يبحث عنها، أو الموضوعات التاريخية الكبرى التي تشكل حضورا بارزا في تاريخ الأمة دون الخوض في جزئيات صغيرة"([17]).

والمتابع للنص الدرويشي في رحلته الطويلة منذ" أوراق الزيتون" حتى "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" يجد عالما زاخرا من الأعلام والحوادث التاريخية التي تشكل سمتا بارزا في هيكلة شعره المعماري، وقد امتزج ذلك كله بثقافة كونية واسعة وظفت خدمة للنص؛ فقد حضرت الأندلس، وحكايات الهنود الحمر، والرومان، والسومريون، والكنعانيون، وغيرهم ليشكل الشاعر من هذه المادة التاريخية صيغة للتعبير غير المباشر عن حكاية الفلسطينيين الخارجين من الأندلس آو من فردوسهم المفقود.

 والجدير بالذكر أن حضور الشخصية التاريخية غالبا ما ينصهر في النسق التعبيري الدرويشي، ليصبح جزءا من فكرة يتقنع بها الشاعر آو يسوقها على لسان شخصياته دون أن ينحصر النص في الشخصية ذاتها.

ولعل ديوان" أحد عشر كوكبا" يصلح أنموذجا لاستحضار التاريخ وتوظيفه توظيفا يخلق رؤية تفسيرية لحكاية الفلسطينيين من خلال رواية حكايات الآخرين بطريقة تنأى عن العاطفي المباشر، وتغوص عميقا في أغوار التجربة البشرية بحثا عن تعانق دلالي رفيع يكشف عن حقائق الواقع بعيدا عن التزييف الإعلامي المقصود، وهنا تتجلى صورة العرب الخارجين من الأندلس في قصيدة "أنا واحد من ملوك النهاية" من ديوان" أحد عشر كوكبا" على آخر المشهد الأندلسي وصورة الهنود الحمر في خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض، لتمثل الأرضية الأولى لما أراد الديوان قوله.

فقد تجلت صورة أبي عبد الله محمد الثاني عر الملقب بأبي عبد الله الصغير، وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب بالغالب بالله حيث كان ملكا على غرناطة من بني نصر من ملوك الطوائف، واستسلم ل فرديناند وإيزابيلا في الثاني من يناير في شكله المأساوي المختصر لحكاية الهزيمة.

" وأنا واحد من ملوك النهاية/ أقفز عن فرسي في الشتاء الأخير/ أنا زفرة العربي الأخيرة/ لا أطل على الآس فوق سطوح البيوت"([18]).

وإذا كان النص قد بدأ من خلال رسم معالم شخصية آخر ملوك الطوائف الذي يرفض أن يطل من فوق السطوح بعد أن تسربلت به فرس التاريخ فخر صريعا؛ فلا قمر لغرناطة بعد اليوم فإن امتدادات النص ستفتح بوابة المشهد التصوري على التاريخ القديم؛ حيث:

" سترفع قشتالة تاجها / فوق مئذنة الله/ أسمع خشخشة للمفاتيح/ في باب تاريخنا الذهبي"([19]).

إذا هي إعادة قراءة تاريخ الأندلسيين الخارجين من الأندلس، ومحاولة ذكية لتشكيل معادلة كونية ومظلة معرفية لطبيعة الصراع ذي البعدين التاريخي والإنساني؛ حيث يلعب الماضي دوره بوصفه مرآة للحاضر تضيء صورة العرب الخارجين من الأندلس, وهزيمة الحاضر المدوية، وتختلط الفاجعة بالأمل بذكرى الفردوس الأندلسي الفلسطيني المفقود:

" الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس/ الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس/ الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود/ الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود"([20]).

وإذا كانت الأندلس تمثل فردوس العرب المفقود، ومجدهم التليد البائد، وتشبه فلسطين في محنتها فإن استحضارها في المشهد الشعري الحديث يقع في مكانه، ولكن، سرعان ما يلتفت الشاعر إلى مشهد آخر ذات دلالات إنسانية كونية في تجربة البشرية مع الظلم والإرهاب؛ مشهد الهنود الحمر وهم يقتلعون من أرضهم على يد الغزاة الأوروبيين؛ ولعل هذا الحدث التاريخي الجديد نسبيا يعيد تفاصيل الماضي ويجعل القضية الفلسطينية قضية كونية علما بأن اللاعب في الأندلس هو نفسه من قام بعملية التطهير العرقي في القارة الجديدة.

ودرويش يكشف عن سر استعارته لهذه الشخصية حين يضع عبارة الهندي الأحمر بين مزدوجتين؛ ليحمل هذه العبارة قيمة رمزية ربما دلت على الهندي الأحمر الفلسطيني الذي يسحق، ويشرد بنفس الطريقة على يد الجنس الآري نفسه.

وإذا كان هذا الندب قد تشكل من فاجعة عربية صرفة، فإن خطبة الهندي الأحمر تمثل بعدا كونيا في مأساة الفلسطينيين، ينفتح النص معها على جرح نازف ثقيل:

 " هل قلت موتي/ لا موت/ فقط تبديل عوالم سياتل زعيم دواميش"([21]).

إن إعادة صياغة التاريخ الفلسطيني الحديث من خلال خطبة الهندي / الفلسطيني تكشف عن حجم الكارثة الاحتلالية، وتمتد بالأفق الدلالي بعيدا ليطال العمق الاستراتيجي لبشاعة المحتل.

 ويأتي حضور الطبيعة كدليل قوي على إفساد المحتل، وتدميره، ويبدد مقولات التعمير والإصلاح، وأنه حضاري قادر على حفظ الناس وحمايتهم.

ثم إن الزمن له منطقه، فالحاضر المستبد يصبح غدا من مخلفات الأمس، وتستعيد الذاكرة قوتها في إشارة واضحة بحيلولة بقاء الحال على ما هو عليه؛ فهناك كوة من أمل ولو بعد حين:

" سيمضي زمان طويل ليصبح حاضرنا ماضيا مثلنا / سنمضي إلى حتفنا أولا/ سندافع عن شجر نرتديه"([22]).

وفي سياقات أخرى تتجلى شخصيات كبار الشعراء من أمثال امرئ القيس، والمتنبي، والمعري، وطرفة وغيرهم، ويأتي استحضارها غالبا في سياق تناول درويش لسيرته الذاتية؛ فدرويش الباحث عن التتويج الإبداعي يجد في سيرة العظماء قبسا يسند به ما تصبو إليه نفسه؛ فقد استثمر درويش في جداريته محور الغربة في حياة امرئ القيس ووظفه في نصه بشكل موفق؛ يقول درويش:

"يا اسمي سوف تكبر حين أكبر سوف تحملني وأحملك/ الغريب أخ الغريب([23]).

وفي موضع آخر يعود درويش لاستحضار شخصية امرئ القيس؛ يقول:

" كلابنا هدأت وماعزنا توشح بالضباب على التلال / وشج سهم طائش وجه اليقين/ تعبت من لغتي تقول ولا تقول/ على ظهور الخيل ماذا يصنع الماضي بأيام امرىء القيس الموزع/ بين قافية وقيصر"([24]).

وفي مشهد أخر يطل درويش من عل على شخصية ثانية كان لها حضورها الواضح في تاريخ الشعر العربي، وبصمتها الجلية في الحديث عن فلسفة الحياة والموت؛ فيقول:

" رأيت المعري يطرد نقاده من قصيدته/ لست أعمى لأبصر ما تبصرون/ فإن البصيرة نور يؤدي إلى عدم....... / أو جنون([25]).

أما شخصية طرفة بن العبد فقد جاء حضورها ملازما لفكرة الصراع مع للموت، ومن هنا فقد كان لقاؤهما حوارا مع الموت:

" أيها الموت انتظرني خارج الأرض/ انتظرني في بلادك ريثما أنهي/ حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي/ قرب خيمتك/ انتظرني ريثما أنهي قراءة طرفة بن العبد"([26]).

4       شخصيات القناع

القناع تقنية حديثة عبرت إلى القصيدة الحديثة عبر تأثر المحدثين بنماذج الشعر العالمي، وخصوصا ما له علاقة بالجانب الدرامي فيه؛ فقد بدأ الالتفات إلى تقنية القناع مع ظهور الحركة التموزية في الشعر العربي الحديث لدى خليل حاوي وأدونيس والسياب ويوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا، وقد كان لفكرة المعادل الموضوعي أثرها الواضح في هذه التقنية؛ حيث لجأ الشاعر العربي بتأثير من ذلك إلى موضعة عواطفه أي جعلها موضوعية، وكان سبيله إلى ذلك إيجاد تميز بين أنا الشاعر والأنا الفنية"([27])، ومن هنا، فإن قصيدة القناع تعد ميلادا جديدا لتناقح ثنائي بين الثقافتين العربية والأوروبية تناقحا يتمثل بجيل رواد الحداثة من جهة، والمصادر الانجلو سكسونية من جهة أخرى.

 والعرب لم تعرف القناع كتقنية إلا أنها عرفته ضمن فن التمثيل"؛ حيث كان الممثل الهزلي السماجة الذي يقوم بمحاكاة حركات الناس، وتقليد أصواتهم يلبس قناعا وورد في الموسوعة البريطانية أن القناع Mask يرتبط بمصطلح الشخصية الدرامية، وأن الأصل اللاتيني للمصطلح هو Persona الذي كان يضعه الممثل على وجهه أثناء تمثيله.

أما في الاصطلاح النقدي الحديث فإن القناع هو ما يتخذه الشاعر المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره، وغالبا ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات تنطق القصيدة بصوتها، وتقدمها تقديما متميزا يكشف عالم هذه الشخصية في مواقفها أو هواجسها أو علاقتها بغيرها؛ فتسيطر هذه الشخصية على قصيدة القناع، وتتحدث بضمير المتكلم إلى درجة يخيل إلينا أننا نستمع إلى صوت الشخصية، ولكننا ندرك شيئا فشيئا أن الشخصية في القصيدة ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله فيتجاوب صوت الشخصية المباشر مع صوت الشاعر الضمني تجاوبا يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة" ([28]).

والقناع تقنية فنية ليست مقصودة بذاتها، ولكنها توظف لتؤدي دورا تتطلبه القصيدة، وإن كان يمثل حالة من التماهي أو التلبس بشخصية أخرى تختفي فيها شخصية الشاعر وتنطق خلال النص بدلا منه.

 ولعل شخصية المتنبي من أكثر الشخصيات التي تقنع بها شعراء الحداثة، ومنهم درويش، والسر في ذلك كما اعتقد يكمن في مدى استجابة هذه الشخصية للتجربة الدرويشية، وذلك عبر محاولة تصوير الذات من خلال مرآة الآخر.

 ويبدو لي أن الطموح الدرويشي توقف كثيرا أمام قامة المتنبي فحاكاها بقيمها الإبداعية والنفسية مع العلم أن توظيف درويش لأحداث الماضي ورموزه في دواوينه الأولى حتى ديوان" أعراس" الصادر سنة ظل توظيفا إشاريا ضمن الإلماعة، والالماعة عبارة عن إشارة عابرة في القصيدة إلى شخصية أو حادثة أو أسطورة أو عمل أدبي بهدف استدراج مشاركة القارئ واستدعائها باعتبارها تجربة تتكئ على معرفة مشتركة.

 ولعل النماذج التي تناولتها في الصفحات السابقة تصلح لذلك من نحو توظيف طرفة ولبيد وامرئ القيس في مقاطع محددة من قصائد الشاعر.

ولكن تحولا ملحوظا في استخدام الشاعر لتقنية القناع بكثافة برز بشكل واضح في دواوينه الأخيرة بعد حصار بيروت؛ حيث بدأ الشاعر باستخدام قناع المتنبي في قصيدته " رحلة المتنبي إلى مصر" ضمن ديوانه" حصار لمدائح البحر"، كما سنراه يستخدم قناع أوديب في قصيدته" أوديب" ضمن ديوانه" هي أغنية هي أغنية"، ويستخدم قناع يوسف عليه السلام في قصيدته" أنا يوسف يا أبي" ضمن ديوانه" ورد أقل" ،ثم يستخدم قناع أبي عبد الله الصغير في قصيدته" أحد عشر كوكبا" على آخر المشهد الأندلسي ضمن ديوانه" أحد عشر كوكبا"([29]).

وسضيقف البحث على هذه الشخصية من خلال قصيدة" رحلة المتنبي إلى مصر" وسيجعلها مثالا لشخصية القناع وهي إحدى قصائد مجموعة درويش" حصار لمدائح البحر"، وقد كتبت هذه المجموعة أو معظمها في ظل الأحداث الدامية التي عايشها درويش نفسه في حصار بيروت الشهير، وخروج المقاومة إلى التيه ولا علاقة لهذه القصيدة بالفترة التي قضاها درويش في مصر في أواخر الستينات، وعمل فيها ثم خرج سريعا بعد أقل من عامين؛ إلا أن التجربة السابقة لم تكن- في رأيي- سببا كافيا لهذه المحاكاة إضافة إلى أن استحضار تاريخ صدور الديوان يشير إلى رحلة درويش خارج بيروت لا إلى مصر، ولعل أولى مبررات هذا الاستحضار التاريخي لهذه الشخصية تقع في ذلك الجانب التشابهي بين تجربة المتنبي في مصر، وتجربة درويش وشعبه بعد الطرد من لبنان؛ حيث الخروج المزدوج تاريخيا وجغرافيا إلى حالة من الغربة والضياع بعد انفضاض الأهل عنهما؛ فقد ترك المتنبي حلب مرغما رغم عشقه لها ولأميرها، ودرويش يرغم على الاقتداء بخطوات جده رغم حبه لبيروت، لكن متنبي القصيدة يخضع لكثير من الانزياح والتحول؛ فلقد أخذ درويش هذه الخامة مدركا خصوصيتها وإمكاناتها الطبيعية ولكنه اشتغل عليها كنحات ماهر"([30]).

وعلى الرغم من أن عنوان القصيدة جاء واضحا ومباشرا؛ إلا أن نصها حلق بعيدا في عوالم فلسفية، وتجليات رمزية، صرفته عن سذاجة الدلالة الأولية التي يفترضها العنوان من خلال تركيبته الرباعية؛ حيث تنفتح القصيدة على حكمة فلسفية، وتكثيف دلالي قائم على الإيجاز والمزاوجة بين أسلوبي الحصر والتوكيد:

" للنيل عادات وإني راحل([31])

ولا يقع التكثيف الدلالي من خلال الإيجاز اللفظي فقط، ولكن التكرار الملازم لهذه العبارة حتى نهاية القصيدة سيعطيها قيمة إضافية في ربط جزيئيات النص، وتحويره تحويرا رمزيا، وستمد هذه اللازمة القصيدة بالنفس الملحمي؛ فهي تفصل بين الأجزاء وتصل بينها في الوقت نفسه؛ بمعنى أنها تفصل لإفادة انتهاء مسرودية ذات معنى جزئي، وتصل بين المسروديات كلها صوتيا لإكساب النص بناءه المعماري العام، لكن التقنية الدرامية الأكثر تأثيرا في جماليات النص تعود إلى القناع، واستخدام المنولوج الدرامي؛ حيث يتم إنجاز هذا الحديث بضمير المتكلم، وبذلك تسيطر هذه الشخصية المتحدثة على قصيدة القناع وتتحدث بضمير المتكلم إلى درجة يخيل إلينا معها أننا نستمع إلى صوت الشخصية، ولكننا ندرك شيئا فشيئا أن القصيدة ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله؛ فيتجاوب صوت الشخصية المباشر وصوت الشاعر الضمني تجاوبا يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة"([32]).

أما جمالية القيمة الرمزية فتنبع من الشخصية التاريخية، رمز التجربة المحورية، وبحضور متعلقاتها، وظروفها التاريخية التي تأخذ في بعض مقاطع النص البعد الرمزي، وأما الموضوعية فتكمن في الجدلية القائمة بين الحضور والغياب في علاقة صوت الشاعر بصوت الشخصية التاريخية، دون أن يلغي أحدهما الآخر، وهذا يضفي على القصيدة صبغة الموضوعية([33]).

بعد هذا الإدهاش في عبارة الافتتاح تبدأ رحلة السرد من خلال تقنية الارتجاع الزمني ليلتقي درويش مع المتنبي، مستعيرا صوته الحكائي لتبدأ مناجاة الذات عبر تيار الوعي أو المونولوج الداخلي: أمشي سريعا في بلاد / تسرق الأسماء مني/ قد جئت من حلب وإني / لا أعود إلى العراق/ سقط الشمال فلا ألاقي غير هذا الدرب / يسحبني إلى نفسي  ومصر([34]).

إذا هي رحلة المسير من حلب، وبداية التشكيل الدرامي للتناص التاريخي بين رحلتين:

" كم اندفعت إلى الصهيل/ فلم أجد فرسا وفرسانا/ وأسلمني الرحيل إلى الرحيل/ ولا أرى بلدا هناك/ ولا أرى أحدا هناك/ الأرض أصغر من مرور الرمح في خصر نحيل/ والأرض أكبر من خيام الأنبياء/ ولا أرى بلدا ورائي/ لا أرى أحدا أمامي([35]).

هذا هو المتنبي الخارج من حلب باتجاه مصر؛ فأين هو درويش الخارج من بيروت؟ المقطع السابق يصدق عليهما، ويختصر المسافة، ويدمج التاريخ في زمن كتابي مكثف؛ فكلاهما خرج من الشام بيروت / حلب متجهين إلى الجنوب تونس / مصر، والمنافذ التي سدت في وجه المتنبي الذي لم يستطع الرجوع إلى الوطن / العراق، لأنه هجا البويهيين؛ ليست بعيدة عن المنافذ التي سدت في وجه درويش الفلسطيني، وكلاهما كذلك مشرد، دائم الترحال لا يستقر على حال من القلق، ويعاني وضعا سياسيا اجتماعيا مشابها لوضع الآخر إلى حد كبير([36]):

"وطني قصيدتي الجديدة/

أمشي إلى نفسي، فتطردني من الفسطاط/ كم ألج المرايا/ كم أكسرها/ فتكسرني"([37]).

هذه الغربة المصيرية، والقلق الوجداني المهيب، يولد فلسفة كونية تتجاوز الحالي، وتتعانق مع آفاق أكثر بعدا وإثارة، ومن هنا ستنداح الدلالة عبر مساحات واسعة تفضي إلى بنية درامية تتفاعل مع السرد في حوار داخلي، توجهه جملة من القيم الرمزية والفلسفية والعجائبية، تصبح الدول معها كالهدايا، وسبايا الحروب تفترس السبايا.

 وإذا كان الشاعر يرى الضفاف فلا دليل بذلك على وجود النهر، تلك هي العدمية أو الضبابية أو نهاية الصدمة في ظل المفارقة!

" أرى فيما أرى دولا توزع كالهدايا/ وأرى السبايا في حروب السبي تفترس السبايا/ وأرى انعطاف الانعطاف/ أرى الضفاف/ ولا أرى نهرا فأجري/ وطني قصيدتي الجديدة/ كيف أدري أن صدري ليس قبري"([38]).

وهنا يدرك المتنبي الجديد" درويش" أنه جاء على غير ميعاد، ووقع في شباك القدر، فلات حين مناص:

" لا الحب ناداني/ ولا الصفصاف أغراني بهذا النيل / كي أغفو / ولا جسد من الأبنوس / مزقني شظايا "([39]).

إذا بيروت النازفة هي مصر درويش الجديدة؛ مصر أخرى غير التي يعرفها ويحبها؛ إنها مصر كافور، مصر التي أخرجته من حربه:

"والنهر لا يمشي إلي فلا أراه/ والحقل لا ينضو الفراش على يدي فلا أراه/ لا مصر في مصر التي أمشي إلى أسرارها/ فأرى الفراغ/ وكلما صافحتها شقت يدينا بابل/ في مصر كافور وفي زلازل"([40]).

ولا بد أن يعلو صوت النحيب، ويتمطى صلب الأسى ليصل السرد ذروة التشويق؛ فيزفر الشاعر زفرته:

"حجر أنا/ يا مصر هل يصل اعتذاري/ عندما تتكدسين على الزمان الصعب أصعب منه؟/ خطوي فكرتي ودمي غباري" ([41]).

إنه اعتذار غريب، اعتذار بعد انتكاسة في زمن عصيب:

"هل تتركين النهر مفتوحا لمن يأتي/ ويهبط من مراكبه إلى فخذين من عاج وعرش"([42]).

وقبل أن تسكن عواصف العتاب عنده يرتد في عاطفة جياشة إلى عالمه الفلسفي، عالم الحكمة:

"بلاد كلما عانقتها فرت من الأضلاع/ لكن كلما حاولت أن أنجو من النسيان فيها/ طاردت روحي/ فصارت كل أرض الشام منفى"([43]).

وتشتد البنية الدرامية تلاحما عندما تجتمع الذاتان المتعانقتان: ذات الشاعر مع قناعه، فيودع درويش صاحبه، وينسلخ عنه، ويوجه الخطاب لصاحبه، ليصل إلى حكمة بيت المتنبي الرشيد في الحديث عن الصراع الطبقي:

" وإلى اللقاء إذا استطعت/ وكل من يلقاك يخطفه الوداع/ والقرمطي أنا/ ولكن الرفاق هناك في حلب أضاعوني وضاعوا/ والروم حول الضاد ينتشرون/ والفقراء تحت العناد ينتحبون/ والأضداد يجمعهم شراع واحد"([44]).

ثم ينغلق النص بأسئلة يشهرها الشاعر:

" الآن أشهر كل أسئلتي

وأسال: كيف أسأل؟ / والصراع هو الصراع/ والروم ينتشرون حول الضاد/ لا سيف يطاردهم هناك ولا ذراع/ كل الرماح تصيبني/ وتعيد أسمائي إلي/ وتعيدني منكم إلي/ وأنا القتيل القاتل؟([45]).

5       الشخصيات الدينية

تأتي علاقة الشعر بالدين من خلال ذلك التعانق التاريخي بينهما، فالأمر مرتبط بالنشأة الأولى سواء لدى اليونانيين- في الملاحم التي تغص بالآلهة وأشباه الآلهة- أو عند العرب الجاهليين الذين قرن الإبداع الشعري عندهم بفكرة الإلهام القائمة على الوحي الشيطاني، بل" إن القصيدة التي أبدعت قبل ظهور الإسلام توصف بأنها جاهلية.

ووصفها بالجاهلية راجع إلى ذلك الموقف العقدي الذي تتبناه، سواء في بنيتها السطحية، أو بنيتها العميقة.

ومع أن العلاقة بين الفن والدين حساسة جدا، ودقيقة إلى الحد الذي يجعل سؤال استحضار النص الديني في الشعر أو غيره، والتناص معه من الجدليات المقلقة، التي لم تهدأ عواصفها، ولم تقنن مبادئها، فما زالت أعمال محفوظ ودرويش، وادونيس، وغيرهم تثير جدلا واسعا في الأوساط الثقافية؛ وذلك بسبب اتكائها بشكل مباشر وصريح على نصوص دينية ذات قداسة عظيمة، مع أن استلهام النص الديني ليس واحدا عند مستخدميه؛ فمنهم المقتبس الذي يجد في النص سندا عقديا، ومنهم المشكك المحرف المنطلق من فكره الإلحادي، هادما- به- شرف العقيدة، بانيا( صرح) الجحود، ومنهم الساخر المناقض الذي يلوي عنق النص ويحوره، ويتعامل معه كما يتعامل مع أي نص آخر خالعا عنه قداسته.

وأحيانا يأتي الاستخدام الديني مطية لتمرير الأفكار السياسية في معارك المثاقفة؛ لأن الشاعر يريد أن يحشد لنصه كل أدوات التأييد، ويحمله بطاقات إشعاعية لا يردها وعي المتلقي، ويبدو لي أن تنامي المد الإسلامي، وبروز خطابه الفكري كطرف نقيض للصوت العلماني قد أكره بعض الشعراء على ركوب موجة الديني في محاولة لشحن طاقاتهم الفكرية بما يلزم في فن الحوار أو المجابهة.

وأحيانا يعبر الموروث الديني ساحة الاستعمال الأدبي من خلال سؤال العلاقة؛ أي العلاقة مع الموروث وهي" إحدى أسئلة النهضة والتقدم التي تضع الموروث على محك النقاش ما بين نظرة تطرح تجاوزه والمضي قدما، وأخرى ترى فيه الأكمل والأمثل والهوية الحضارية، ونظرات أخرى توفيقية تميل إلى الاعتداد الواضح بجوانب هذا التراث: العقلية ، والعلمية، والسياسية التي تفتح أمام الدارسين أبواب البحث في أشكال الوعي بهذا التراث"([46]).

ويبدو لي أن الأثر الديني في شعر درويش ينبع من رغبة درويش في الوصول بالنص الشعري إلى أقصى طاقاته الدلالية، من خلال ذلك المخزون الثقافي الذي يتحرك به درويش بوعي، دون أن يقع تحت تأثيره العقدي؛ وهنا تجدر الإشارة إلى أن درويشا تعامل مع النص الديني كموروث إنساني أدبي، لا باعتباره كلاما مقدسا نزل تشريعا وتعبيدا للبشر

ويأتي حضور الشخصيات الدينية في شعر درويش كدوال رمزية يعاد تشكيلها خدمة للنص الدرويشي المنتج، والتحرك من خلالها ضمن تقنيات الالماع، أو القناع، أو التناص معها، وقد شملت هذه الرموز الأديان الثلاث: الإسلام، واليهودية، والمسيحية، بل تجاوزتها أحيانا إلى الموروث الوثني.

 ودرويش لم يعتمد رواية واحدة بل ربما اتكأ على روايتين مختلفتين في الشخصية الواحدة؛ فيأخذ مثلا قبسا من القران ثم يعود إلى التوراة، أو الإنجيل ليكمل الحكاية من منظورها الآخر، وأحيانا يتجاوز النص الديني ويحوره بما يخدم فكرته.

وتأتي شخصية يوسف عليه السلام لتشكل دالا رمزيا بعلاقة الفلسطينيين بمن حولهم بينما تتحول شخصية أيوب عليه السلام إلى بؤرة لتشكيل دال الصبر والتضحية في التجربة الفلسطينية، أما آدم عليه السلام فهو وذريته أصحاب الخطيئة والهبوط السفلي نحو الكدح، والشقاء، بينما حضرت صورة المسيح عليه السلام كرمز للتضحية والمعاناة، ولا أجد لشخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بروزا واضحا في شعره إلا من خلال حالات قليلة وباهتة من نحو استدعائه عليه الصلاة والسلام كنبي العرب ليخلصه من ظلم اليهود.

 ومن النساء تبدو شخصية هاجر شخصية رمزية تشير إلى حالة التشريد والتهجير.

 وعند تناول هذه الشخصيات في شيء من التفصيل يجد الباحث درويشا يستدعي شخصية أيوب عليه السلام معتمدا على النص التوراتي موظفا له توظيفا رمزيا متكئا على قصة البلاء التي مسته، ثم ما كان من أيوب من صبر على ذاك البلاء فلم يشك شيئا مما حل به:

" يوم كان الإله يجلد عبده/ قلت يا ناس نكفر/ فروى لي أبي وطأطأ زنده/ في حوار مع العذاب/ كان أيوب يشكر خالق الدود والسحاب"([47]).

واضح جدا أن الحضور الديني في هذه القصيدة لم ينطلق من انتماء عقدي، بل انطلق بوعي درويشي مسبق لآلية استلهام هذه الظاهرة باعتبارها رمزا دلاليا لا غير فإذا كان أيوب الأول يمثل رمزا للصبر على الشدائد والآلام؛ فإن أيوب الثاني الفلسطيني هو أيوب الرفض والانتقام إنه أيوب بلا اسم لأنه في رأي درويش فقد أرضه فلم تعد أرضه التي ربته باليدين؛ لذا سيصيح أيوب الفلسطيني متقمصا شخصية أيوب الأول:

 لا تجعلوني عبرة مرتين/ أيوب صاح اليوم ملء السماء/ لا تجعلوني عبرة مرتين!"([48])

أما شخصية آدم- عليه السلام- فقد استحضرها درويش بطريقة خلط فيها بين الرواية القرآنية والرواية التوراتية، ثم أعاد تشكيلها ليخرجها وفق رؤيته الخاصة " إذ رأى درويش في هذا الرمز انتصار الإنسان على كل المخلوقات لما يمتلكه من قوة خارقة لا تستطيع باقي المخلوقات امتلاكها"([49]).

وعند التأمل في النص الدرويشي، فإن عقد مقارنة بين خروج درويش من بيروت وخروج آدم عليه السلام من الجنة فيه تحد واضح لمعيار الصدق الفني في التصوير الأدبي؛ ذلك أن عاطفة درويش المفعمة باليأس لن تتساوق مع عاطفة آدم المفعمة بالخشية والتقوى والحسرة التي غمرت آدم عليه السلام بعد تلقيه إشارة الخروج من الجنة إثر الخطيئة التي عبر عن أثرها القرآن بقوله:

فدلاهما بغرور ۚ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ۖ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين  [الأعراف: ٢٢ ].

فهل كان خروج درويش من بيروت كخروج آدم من الجنة؟ يقول درويش:

"لست آدم كي أقول خرجت من بيروت منتصرا على الدنيا/ ومنهزما أمام الله"([50]).

درويش يحاول تقديم آدم عليه السلام باعتباره رمزا للقوة والانتصار والمقاومة وأن وجوده على الأرض محاولة أخرى للخلود بعد أن واجه عملية النفي في السماء على حد تصور درويش:

 هل تريد الرجوع إلى ليل منفاك/ في شعر حورية أم تريد الرجوع/ إلى تين بيتك / لا عسل جارح للغريب/ هنا أو هناك / فما الساعة الآن؟/ ما اسم المكان الذي نحن فيه؟/ وما الفرق بين سمائي وأرضك/ قل لي ما قال آدم في سره/ هل تحرر حين تذكر/ قل أي شيء يغير لون السماء الرمادي/ قل لي بعض الكلام البسيط

/ الكلام الذي تشتهي امرأة/ أن يقال لها بين حين وآخر"([51]).

أما يوسف عليه السلام فقد وظفه درويش غير مرة وتقنع به في قصيدة كاملة هي قصيدة" أنا يوسف يا أبي" من ديوان ورد أقل"؛ حيث جاء حضوره رمزا على الوحدة، والضعف وعند الرجوع إلى تلك القصيدة فإن العبارة الشعرية في قصيدة" أنا يوسف يا أبي" ستفتح أبوابها على نداء مفعم بالشكوى، وموجه للأب دون الأخوة، ويتخذ المدلول شكلين متفاوتين تفرضهما العبارة الرمزية؛ من خلال أفق التوقع لتحديد ماهية المسكوت عنه؛ مما يثير أسئلة عاصفة في ذهن المتلقي فدرويش يتوارى خلف الشخصية ليقول كل ما يريد ويؤسس شكلا آخر من أشكال الحضور يتسم بكثير من الغموض والخفاء:

أنا يوسف يا أبي/ يا أبي، إخوتي لا يحبونني/ لا يريدونني بينهم يا أبي/ يعتدون علي ويرمونني بالحصى والكلام/ يريدونني أن أموت لكي يمدحوني/ وهم أوصدوا باب بيتك دوني/ وهم طردوني من الحقل/ هم سمموا عنبي يا أبي/ وهم حطموا لعبي يا أبي([52]).

ولم يأت الغموض من طبيعة اللغة؛ فاللغة سهلة واضحة كما ترى غير أن القناع الذي تقنع به درويش فتح النص على دلالات متعددة؛ فالكتابة لم تعد نقلا للنص، أو تحويرا له، بل صياغة تاريخية لبيان سياسي من يوسف الفلسطيني إلى النظام العربي؛ حول العلاقة مع الأخوة الأعداء، أشقاء اليوم المتخاذلين، وليس هذا فقط ما تريد أن تقوله القصيدة؛ لقد شكل يوسف عليه السلام في نفس درويش رمزا للضعف يصلح مادة لقصيدة تراجيدية، والشخصية الضحية شخصية بارزة الحضور في شعر درويش؛ فدرويش تبنى فكرة البطل المهزوم، وشخصية يوسف عليه السلام من أبرز الشخصيات التي تصلح للعب هذا الدور لما تحمله من قيمة رمزية مليئة بمشاعر الحزن والأسى والوحدة والضعف والتوجس، وما يحيط بها من قيم رمزية أخرى؛ كالمكر والخيانة والظلم والشقاء والغربة:

حين مر النسيم ولاعب شعري/ غاروا وثاروا علي وثاروا عليك/ فماذا صنعت لهم يا أبي؟/ الفراشات حطت على كتفي/ ومالت علي السنابل/ والطير حطت على راحتي/فماذا فعلت أنا يا أبي/ ولماذا أنا؟ ([53]).

وستتسع قيمتها الرمزية حين توظف كدال على الشعب الفلسطيني المحاصر المضطهد، الموجوع من كثرة المحن، المطعون بخنجر الخيانة في الخاصرة الأضعف، لكن صورة أخرى تتجلى في هذا الدال تمثل جانب القوة فيه؛ من خلال استحضار شخصية يوسف المقاوم للعبودية في مصر، والثابت تحت وطأة القيد.

وفي التفاصيل تتجلى بعض القيم المعرفية التي تبحث للمدلول عن أفق توقع يرضيه؛ فتاتي واقعة حصار بيروت، كبئر يوسف؛ حين تخلى العرب عن إخوتهم هناك، وتركوهم للذئب الصهيوني يفعل بهم ما يشاء.

نعم تخلى عنه أخوته، فبقي وحيدا أمام حتفه المحتوم.

وأمام هذه المفارقة العجيبة تأتي أسئلة الضياع، والبحث عن أسباب الكره والنكاية لهذا البريء الوديع:

أنت سميتني يوسفا/ وهمو أوقعوني في الجب، واتهموا الذئب/ والذئب أرحم من إخوتي([54]).

وتستحضر شخصية هاجر كدال رمزي قريب من دلالة شخصية يوسف عليه السلام؛ فقد رأى فيها درويش رمزا من رموز الغربة والتشرد والقهر والظلم للإنسان العربي([55]).

ولعل لفظة هاجر تنسجم مع دال الهجرة في قاموس التشريد الفلسطيني؛ الهجرة القسرية إلى صحراء الضياع والتشتت والمصير المجهول:

" كانوا يقرأون صلاتها / ويفتشون أظافر القدمين والكفين عن فرح فدائي / وكانوا يلحقون حياتها / بدموع هاجر / كانت الصحراء جالسة علي جلدي" ([56]).

وفي قصيدة" نشيد" من ديوان" أوراق الزيتون" يستحضر درويش ثلاثة أنبياء في نصه هم: اليسوع عليه السلام، ومحمد عليه السلام وحبقوق:

 "ألو.. / _أريد يسوع/ _نعم من أنت!/ أنا أحكي من إسرائيل"/ وفي قدمي مسامير وإكليل/ من الأشواك أحمله/ فأي سبيل أختار يا بن الله أي سبيل"([57]).

وفي  الختام نقول: لا يعني وقوف البحث على هذه النماذج أن الشاعر اقتصر عليها دون غيرها بل هي إشارات عابرة لتناول الشخصية الدرامية وكيف مثل حضورها في النص الشعري كسرا لرتابة الإيقاع الغنائي المتمثل في الدفق الذاتي وانتقالا من الذاتي إلى الموضوعي، ومن التسجيلي إلى الإيحائي، ومن الواقعي الحاضر العلني إلى الماضي الخفي.

خاتمة:

حاولت هذه الدراسة أن تجيب عن سؤال جوهري يتعلق بتحولات بنية القصيدة عند محمود درويش؛ هذا التحول الذي ارتبط فنيا عبر رحلة زمنية بابتعاد درويش تدريجيا عن النمط الغنائي متجها إلى البنية السردية الدرامية.

 وهذه الدراسة هي جزء من أطروحة الدكتوراه التي كانت تحت عنوان: البنية الدرامية في شعر محمود درويش"، وهو إعادة صياغة لفصل من فصولها، وتحديدا ما يتعلق ببنية الشخصية الدرامية.

 وقد خلصت الدراسة إلى أن أنماط الشخصية لدى درويش قد توزعت بين الشخصيات العامة، ثم الشخصيات التاريخية، ثم الشخصيات الأسطورية، فشخصيات القناع، والشخصيات الدينية.


المصادر والمراجع

أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر، ثائر زين الدين، منشورات اتحاد الكتب العرب، دمشق، 1999.

الأثر التوراتي في شعر محمود درويش، عمر أحمد الربيحات، دار اليازوري للنشر والتوزيع، عمان، 2006.

الأسطورة والتراث، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، ط3، القاهرة،

الأعمال الأولى، محمود درويش، ج3، رياض الريس للكتب، بيروت، 2005.

الأعمال الجديدة الكاملة، محمود درويش، رياض الريس للكتب والنشر، يناير 2009م.

أقنعة الشعر المعاصر: مهيار الدمشقي، جابر عصفور، فصول، مجلد1 ع4، عام 1981.

تقنية القناع، دلالات الحضور والغياب، خلدون الشمعة، فصول، المجلد السادس عشر، عدد1، صيف عام 1997.

توظيف التراث في الرواية الأردنية المعاصرة، رفقة دودين، وزارة الثقافة، عمان،1997م.

حصار لمدائح البحر، محمود درويش، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان، 1998.

ديوان عبد الوهاب البياتي، البياتي، عبد الوهاب، دار العودة، بيروت، ج2/.1972.

ديوان محمود درويش، محمود درويش، دار العودة، ط11، بيروت، 1984.

فن الشعر، أرسطو، ترجمة: جون وارفتون، مكتبة انري مان، نيويورك، 1969م.

قصيدة القناع: قراءة في قصيدة" رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش، الدكتور ناصر يعقوب، مجلة جامعة دمشق- المجلد 24- العدد الثالث+ الرابع 2008

محاولة رقم 7، محمود درويش، دار الآداب، 1974.

محمود درويش، الهوية وسؤال الضحية، إلياس خوري، جريدة الأيام، 24-9-2010.



([1]) فن الشعر: 150.

([2]) ديوان محمود درويش: 73. 

([3]) ديوان محمود درويش:74.

([4]) محمود درويش، الهوية وسؤال الضحية: ١٠.

([5]) محمود درويش، الهوية وسؤال الضحية: ١٠.

([6]) محمود درويش، الهوية وسؤال الضحية: ١٠.

 ([7]) ديوان محمود درويش: 595.

 ([8]) ديوان محمود درويش: 505. 

 ([9]) ديوان محمود درويش: 596..

 ([10]) ديوان محمود درويش: 598.

([11]) ديوان محمود درويش: 585.

 ([12]) الأسطورة والتراث: 33.

 ([13]) الأعمال الجديدة الكاملة: 50.

 ([14]) الأعمال الجديدة الكاملة: 449.

 ([15]) الأعمال الجديدة الكاملة: 445.

 ([16]) الأعمال الجديدة الكاملة :512.

 ([17]) ديوان عبد الوهاب البياتي: ج2، 26.

([18]) محمود درويش الأعمال الأولى: ج 3، 277.

([19]) محمود درويش الأعمال الأولى: 278.

([20]) محمود درويش الأعمال الأولى: 29.

([21]) محمود درويش الأعمال الأولى: 295.

([22]) محمود درويش الأعمال الأولى :307.

([23]) الأعمال الجديدة الكاملة: ج1/ 448.

([24]) الأعمال الجديدة الكاملة: ج1/ 504.

([25]) الأعمال الجديدة الكاملة: ج1/ 464.

([26]) الأعمال الجديدة الكاملة: 481.

([27]) تقنية القناع، دلالات الحضور والغياب: 74.

([28]) أقنعة الشعر المعاصر: 123.

([29]) قصيدة القناع: قراءة في قصيدة" رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش: 253.

([30]) أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر:47.

([31]) حصار لمدائح البحر: 37.

([32]) أقنعة الشعر المعاصر: 123

([33]) قصيدة القناع: قراءة في قصيدة" رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش: 257.

([34]) حصار لمدائح البحر:37.

([35]) حصار لمدائح البحر: 38.

([36]) قصيدة القناع: قراءة في قصيدة" رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش: 260.

([37]) حصار لمدائح البحر: 38.

([38]) حصار لمدائح البحر: 39.

([39]) حصار لمدائح البحر: 40.

([40]) حصار لمدائح البحر: 41.

([41]) حصار لمدائح البحر: 41.

([42]) حصار لمدائح البحر: 41.

([43]) حصار لمدائح البحر: 43.

([44]) حصار لمدائح البحر: 45.

([45]) حصار لمدائح البحر: 47.

([46]) توظيف التراث في الرواية الأردنية المعاصرة: 361.

([47]) ديوان محمود درويش: 145.

([48]) ديوان محمود درويش: 357.

([49]) الأثر التوراتي في شعر محمود درويش: 536.

([50]) حصار لمدائح البحر: 172.

([51]) الأعمال الجديدة الكاملة: ج2/82.

([52]) الأعمال الأولى: ج3 /159.

([53]) الأعمال الأولى: 159.

([54]) الأعمال الأولى: 159.

([55]) الأثر التوراتي في شعر محمود درويش: 90.

([56]) محاولة رقم 7: 45.

([57]) الديوان: 157.